بقلم: كفاح الحداد
كان أَمام الإمام الحسين عليه السلام خياران بالنسبة لأسرته، فهو إما ان يحمل عياله ونساءه معه وإما ان يُبقي الجميع ويخرج بمفرده مع أولاده واخوته وباقي الأنصار من رجال بني هاشم.
فإذا كان الأمر بأن يتركهم في مكانهم ويهاجر بنفسه فلا شك في أن السلطات الأموية ستحاول الاستفادة منهم كورقة ضاغطة على الإمام نفسه كي يسلم نفسه. كما فعل الأمويون مع عمرو بن حمق الخزاعي حيث أسروا زوجته لمّا فرّ من أيدي السلطات الأموية الحاقدة.
وأيضاً حصلت هذه الحالة مع زوجة المختار التي اعتقلت هي الأخرى لإرغام زوجها على الإذعان للسلطة الأموية الحاكمة.
فالإمام لم يكن ليأمن على عياله ونسائه لو أبقاهم في المدينة وخرج ثائرا.. وحتى لو أمن الإمام على نسائه وعياله وأبقاهم في مكانهم وخرج في طلب الإصلاح في ثورة يعلم مسبقا ان القوم يطلبونه ولو أمسكوا به فسيقتلونه لا محالة وسُيقتل مع اخوته وأبناء عمومته في أي مكان من الأرض وسيبادون جميعهم ومن ثم لا يفهم أحد لماذا أصلاً خرج الإمام الحسين عليه السلام للثورة؟ ولماذا لم يبايع؟ وحتماً ستحاول السلطات الأموية التكتم على الأمر واستعمال آليات القتل الصامتة بأي شكل من الأشكال وبهذا يضيع دم الحسين عليه السلام وتضيع ثورته ورسالته وهذا المنطق لا يتناسب أيضا مع ما حمله الإمام من مطالب صرح بها أكثر من مرة .
على هذا يكون الخيار الثاني هو الأقرب لما يصبو إليه الإمام من تغيير في الواقع الاجتماعي والقيمي والإنساني.
ويضيف: أن الإمام استخدم عدداً من المبلغين الذين أخذهم العدو بيده وبإرادته لينفذوا إلى قلب حكومة العدو في الشام وهو بحد ذاته تكتيك يفوق التصور الاعتيادي». (مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، ح1، ص 209).
فالإمام لم يأخذ معه نساء عاديات إنما أخذ معه نساء واعيات مؤمنات بثورته وهن أيضا مبلغات يمتلكن أدوات التبليغ السليم ليُعَرِّفْنَ الناس بالقضية والثورة وأهدافها وأسبابها ويكشفن النقاب عن الوجه الأموي الأسود وليكنَّ سبباً لهزّ الوضع العام وتحريكه وضخ القيم الجديدة وتخليد النهضة الحسينية في الوجدان الشعبي كل هذه القرون.
ولقد استوقفه كثيرون وحاولوا ثني الإمام عن اخذ النساء معه لكنه أصرَّ على أن تكون النساء ضمن قافلته وقال له عبد الله بن عباس: فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك. (المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، ج3، ص 65).
وقال لأخيه محمد بن الحنفية: شاء الله أن يراني قتيلاً ويرى النساء سبايا فلمّا كان في السّحر ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فاتاه فاخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا اخي ألم تعدني النّظر فيما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك فقال: يا حسين عليه السلام أخرج فانّ الله قد شاء ان يراك قتيلاً فقال له ابن الحنفية إنّا لله وانّا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء ان يراهنّ سبايا... (ابن طاووس، اللهوف، ص 64).
ومن جانب آخر علمت النساء وبخاصة السيدة زينب عليها السلام ان الإمام انطلق إلى نهضة إصلاحية كبرى في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذه النهضة الإسلامية الإصلاحية لابد ان يكون للمرأة محط قدم في التأثير والبلاغ. وإلى هذا يشير الشيخ عبد الوهاب الكاشي بالقول: إن الحسين عليه السلام كان يعرف انه إذا قتل فلا يوجد رجل في العالم الإسلامي يمكنه ان يتكلم بشيء ضد سياسة الأمويين مهما كان عظيماً حيث إنهم قطعوا الألسن وكمّوا الأفواه فكان قتله سدى وقد لا يعرف أحد من المسلمين ما جرى عليه.. فأراد الحسين عليه السلام ان يحمل معه ألسنة ناطقة بعد قتله لتنشر أنباء تلك التضحية في العالم الإسلامي ومذياعاً سياراً يذيع تفاصيل تلك المأساة الإنسانية والجرائم الوحشية، فلم يجد سوى تلك المخدرات والعقائل اللواتي سبين وسيرّن بعد الحسين عليه السلام في ركب فظيع مؤلم يجوب الأقطار يلقين الخطب في الجماهير وينشرن الوعي بين المسلمين وينبهن الغافلين ويلفتن أنظار المخدوعين ويفضحن الدعايات المضللة حتى ساد الوعي وتنبه الناس الى فظاعة الجريمة وانهالت الاعتراضات والانتقادات على يزيد والأمويين من كل الفئات والجهات. (الشيخ عبد الوهاب الكاشي، مأساة الحسين بين السائل والمجيب، ص 80).
وهذا بالضبط ما أراده الإمام من خلال حمله للنساء والعيال، وهذا ما حصل أيضاً إذ لولا وجود هذه الثلة المباركة لما تم كشف القناع عن يزيد ورفع الستار عن جرائم الأمويّين.
على هذا يمكن الإقرار بأن الإمام عليه السلام أخذ النساء معه كي يؤدين ادواراً مهمة لنصرة الثورة أو بالأحرى كانت ادوار النساء ضمن البرنامج التخطيطي لقائد الثورة الذي لم يكن يفكر بأنه سينُهي المواجهة بعدم مبايعته ليزيد، من ثم استشهاده بل لابد من توجيه الأمة إلى قيم جديدة وتربويات مطلوبة. ولم يكن لهذه المهمة الصعبة من يؤديها سوى هؤلاء النساء وعلى رأسهن السيدة زينب عليها السلام، وهذا يشير إلى ثقته الكاملة بأُخته وبأن هؤلاء النساء هن موضع اعتماد وهن قادرات على أداء التكاليف المطلوبة.
إذن كانت هناك أدوار مهمة ومسؤوليات خطيرة ولم يكن هناك من هو قادر على القيام بهذه المهام سوى السيدة زينب عليها السلام وباقي نساء أهل البيت. ولو أردنا ان نعرف ما هو التفاوت بين رؤية الإمام عليه السلام ورؤية المفكرين المعاصرين من خلال استعراض تجارب الإسلاميين أنفسهم والذين حملوا فكر الإسلام في وقت صعب وتحديات جسيمة، لكن مشكلتهم انهم لم يفهموا دور المرأة في الحياة والثورة ولم يحسبوا لها حساباً في ما قدموه من اطروحات نهضوية حصروا المرأة من خلالها في زوايا محددة وعزلوها عن شؤون نهضتهم. فعموم الحركات الإسلامية في القرن العشرين كانت تقصي المرأة عن جانب اهتماماتها تحت رؤى متعددة منها عدم تصور أهليتها وكفاءتها بل تصوروا ان مكانها بيتها فقط!. ومنها عدم الثقة بها؛ لأنهم كانوا يرونها عاملاً من عوامل إفشاء الأسرار لا أكثر وبهذا طغت الهواجس والرؤى السلبية النابعة من الموروث الاجتماعي على خارطة تفكيرهم، وكم وجدنا قادة مسلمين كباراً ومراجع عظاماً لكن نساءهم لا يفقهن من الحياة شيئاً؛ إذ كانت عقولهن هواء وافئدتهن خواء!. وبهذا عطلوا المرأة عن الوعي والمعرفة والفهم. فكيف تستطيع امرأة لا يتجاوز تفكيرها جدران بيتها ولا يطال وعيها المساحات الدينية الواسعة للحياة ان تنشئ جيلاً إسلامياً سامياً قادراً على أداء ادوار عُلى؟.
وكان الحضور النسائي متميزاً في نساء عرفن بالعلم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والصبر الجميل إلى غير ذلك، وبذلك نجح الرجل (الإمام وأنصاره) في تضحيته كما نجحت المرأة «زينب عليها السلام» في التبليغ والإعلام الموجه، ولم تكن الأدوار التقليدية للنساء كالأمومة والزوجية عائقاً أمام تحقيق نجاح أوسع ضمن دائرة الأهداف العامة أبدا بل كانت هذه الأدوار سبباً لإضفاء مزيد من الحزن والتفجع على ما جرى في الطفوف، فهؤلاء النساء قدمن الغالي والنفيس بل ضحين بالولد والأخ والزوج لنصرة الثورة في زمن تقاعس فيه الأشاوس من الرجال عن نصرة الإمام الذي كانوا يسمعون استغاثته!. وبهذا تحولت الأدوار التقليدية التي تضجر منها المرأة المعاصرة إلى أدوار رسالية ومحطات انطلاق لرسم هوية ثائرة للمرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كان أَمام الإمام الحسين عليه السلام خياران بالنسبة لأسرته، فهو إما ان يحمل عياله ونساءه معه وإما ان يُبقي الجميع ويخرج بمفرده مع أولاده واخوته وباقي الأنصار من رجال بني هاشم.
فإذا كان الأمر بأن يتركهم في مكانهم ويهاجر بنفسه فلا شك في أن السلطات الأموية ستحاول الاستفادة منهم كورقة ضاغطة على الإمام نفسه كي يسلم نفسه. كما فعل الأمويون مع عمرو بن حمق الخزاعي حيث أسروا زوجته لمّا فرّ من أيدي السلطات الأموية الحاقدة.
وأيضاً حصلت هذه الحالة مع زوجة المختار التي اعتقلت هي الأخرى لإرغام زوجها على الإذعان للسلطة الأموية الحاكمة.
فالإمام لم يكن ليأمن على عياله ونسائه لو أبقاهم في المدينة وخرج ثائرا.. وحتى لو أمن الإمام على نسائه وعياله وأبقاهم في مكانهم وخرج في طلب الإصلاح في ثورة يعلم مسبقا ان القوم يطلبونه ولو أمسكوا به فسيقتلونه لا محالة وسُيقتل مع اخوته وأبناء عمومته في أي مكان من الأرض وسيبادون جميعهم ومن ثم لا يفهم أحد لماذا أصلاً خرج الإمام الحسين عليه السلام للثورة؟ ولماذا لم يبايع؟ وحتماً ستحاول السلطات الأموية التكتم على الأمر واستعمال آليات القتل الصامتة بأي شكل من الأشكال وبهذا يضيع دم الحسين عليه السلام وتضيع ثورته ورسالته وهذا المنطق لا يتناسب أيضا مع ما حمله الإمام من مطالب صرح بها أكثر من مرة .
على هذا يكون الخيار الثاني هو الأقرب لما يصبو إليه الإمام من تغيير في الواقع الاجتماعي والقيمي والإنساني.
الإمام الحسين يخطط لمستقبل الثورة وطرق نجاحها
ولنا ان نتصور الإمام كقائد ثورة يريد ان يقوم بحركة واسعة تهز المجتمع كله وتهز الصرح الأموي من جذوره فقد يكون من الشاق عليه ان يسير مع كوكبة من النساء والصغار والرضع في سفر طويل. ولو كان سفر استجمام لما خلا من مشقة من جانب المسؤوليات والإعداد والتحضير لمستلزمات السفر نفسه. فكيف بسفر الثورة التي يخطط لها الإمام والتي يقدّر لها ان تكون في ارض بعيدة عن مستقره الحالي؟.
لكن الإمام عليه السلام حمل نساء آل البيت عليهم السلام وحرائرهم.. وهو يعلم بما سيعانيه الجميع من مشكلات الطريق الطويل والأوضاع الطارئة والتشنجات التي سيتعرض لها الجميع لا محالة؛ لان هناك تخطيطاً مستقبلياً للثورة، إذ لا يمكن للإمام عليه السلام ان يكون قد خطط لأوان الثورة والتي قد تقدر بسويعات محدودة في عمر الزمن ويترك ما بعدها فالمهم نتائج الثورة وما ستفرزه من أحداث ووقائع على ارض الواقع فهو عليه السلام حتماً كان قد خطط لما بعد الثورة في امتداداتها المتعددة وفي كيفية التعريف بها وكيفية تحقيق أهدافها، فإذا كانت نهاية هذه الجولة التضحوية هو الانكسار العسكري فلابد ان يسعى لأن يحقق لها نجاحاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً على المدى الطويل من الزمان والمكان..
ومن هنا كان الخيار الثاني بأن يأخذ العيال والنساء معه هو الخيار الأكثر تناسباً مع الثورة والأكثر انسجاماً مع ما كان يخطط له الإمام عليه السلام. فالإمام عليه السلام ما كان همه الثورة في وقتها فحسب ولكن كان يهدف إلى تحقيق التواصل الزمني البعيد المدى لدى الأمة مع الثورة (في نوع من الامتداد الواعي الشعوري الذي يخترق ايدولوجيات الزمن لكي تبقى نابضة قادرة على ضخ الدم النقي المحرك للحياة) وهذا ما حصل فهو إذاً حمل عياله ونساءه لأدوار اُعدوا لها مسبقاً ولمهام مرت صورتها في عقلهم الواعي والباطن قبل أو ان الثورة.
ومن هنا كان الخيار الثاني بأن يأخذ العيال والنساء معه هو الخيار الأكثر تناسباً مع الثورة والأكثر انسجاماً مع ما كان يخطط له الإمام عليه السلام. فالإمام عليه السلام ما كان همه الثورة في وقتها فحسب ولكن كان يهدف إلى تحقيق التواصل الزمني البعيد المدى لدى الأمة مع الثورة (في نوع من الامتداد الواعي الشعوري الذي يخترق ايدولوجيات الزمن لكي تبقى نابضة قادرة على ضخ الدم النقي المحرك للحياة) وهذا ما حصل فهو إذاً حمل عياله ونساءه لأدوار اُعدوا لها مسبقاً ولمهام مرت صورتها في عقلهم الواعي والباطن قبل أو ان الثورة.
الدور التبليغي لنسوة الطف
لقد حمل الإمام معه جملة من المبلغات اللائي كانت الواقعة بحاجة إلى خطابهن تماماً كما كانت الثورة بحاجة إلى دمه وتضحيته والى هذا يشير الشيخ مرتضى مطهري في كتابه الملحمة الحسينية «التكتيك التبليغي هو حمله لأهله وعياله وأولاده في القافلة الحسينية وبهذه الطريقة يكون قد استخدم العدو استخداما غير مباشر من خلال فرض هؤلاء الناس كحربة تبليغية ورسل دعاية للإسلام الحسيني ضد يزيد»..ويضيف: أن الإمام استخدم عدداً من المبلغين الذين أخذهم العدو بيده وبإرادته لينفذوا إلى قلب حكومة العدو في الشام وهو بحد ذاته تكتيك يفوق التصور الاعتيادي». (مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، ح1، ص 209).
فالإمام لم يأخذ معه نساء عاديات إنما أخذ معه نساء واعيات مؤمنات بثورته وهن أيضا مبلغات يمتلكن أدوات التبليغ السليم ليُعَرِّفْنَ الناس بالقضية والثورة وأهدافها وأسبابها ويكشفن النقاب عن الوجه الأموي الأسود وليكنَّ سبباً لهزّ الوضع العام وتحريكه وضخ القيم الجديدة وتخليد النهضة الحسينية في الوجدان الشعبي كل هذه القرون.
ولقد استوقفه كثيرون وحاولوا ثني الإمام عن اخذ النساء معه لكنه أصرَّ على أن تكون النساء ضمن قافلته وقال له عبد الله بن عباس: فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك. (المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، ج3، ص 65).
وقال لأخيه محمد بن الحنفية: شاء الله أن يراني قتيلاً ويرى النساء سبايا فلمّا كان في السّحر ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فاتاه فاخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا اخي ألم تعدني النّظر فيما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك فقال: يا حسين عليه السلام أخرج فانّ الله قد شاء ان يراك قتيلاً فقال له ابن الحنفية إنّا لله وانّا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء ان يراهنّ سبايا... (ابن طاووس، اللهوف، ص 64).
ماذا لو لم يأخذ الإمام الحسين نساءه وعياله معه؟
من ناحية أخرى لو سلمنا بأن الإمام عليه السلام لم يشأ أن يأخذ معه النساء والعيال.. فما هي ردة فعل النساء أنفسهن؟ ماذا سيصنعن لو جاءهنّ رسول يخبرهن بمقتل الحسين عليه السلام في هذه الفلاة الواسعة؟ هل سيكون لهؤلاء النساء دور سوى النواح والبكاء؟. ومن المؤكد ان هذا البكاء سيكون في المدينة وحدها ولأيام معدودة من الزمن كما حدث مع باقي الأئمة عليهم السلام وينتهي كل شيء!! حينئذ لن يكون للنساء دور في القضية أبداً. ولا تبقى للنساء أية مهام أو مسؤوليات أمام هذه الثورة التي ستستباح فيها كل المقدسات بما في ذلك المعصوم نفسه.. وستبقى صورة المرأة السلبية المنـزوية عن هموم الأمة والتي لا تعيش حتى لذاتها؛ إذ كيف يمكن بناء الذات بمعزل عن الحياة الاجتماعية وعن الاهتمام بشؤون المسلمين؟. فهذه الصورة الهامشية لا تتناسب أبدا مع شخصية نساء أهل البيت عليهم السلام واللائي عاش بعضهن كثيراً من أوجاع الأمة المسلمة وبخاصّة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأول الأوجاع ظلامة الزهراء عليها السلام.الوعد الإلهي بحفظ النساء والعيال
وهنا لابد من إشارة وهي ان الإمام كان قد اطمأنّ إلى الوعد الإلهي بصيانة هؤلاء المخدرات وبأنهنّ سيكنّ بعيدات عن الأذى، ونجد ذلك واضحا من خلال وصيته للنساء لما ودعهن وقال: استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالى حاميكم وحافظكم. (المقرم،مقتل الحسين, ص 276).الذهاب مع الإمام الحسين عليه السلام كان مطلب النساء أنفسهن
المرأة اذاً طالبت بالذهاب مع الإمام لنصرته واستعدت للخروج إلى كربلاء قائلة: «يا ابن عباس، تشير على سيدنا بأن يخلفنا ها هنا، ويمضي وحده لا والله بل نحيا معه، أو نموت.. وهل أبقى الزمان لنا غيره.. لا نفارقه أبداً حتى يقضي الله ما هو كائن». وهي تعرف ما ينتظرها من ظروف قاسية ومهام ثقيلة وبهذا تكاملت الإرادة من جانبين؛ فمن جانب أراد الإمام للثورة ان تستمر في اشتعالها وازدياد شرارتها ووضوح معانيها ولا أحد يسهم في توضيح مفردات الثورة غير هؤلاء النساء، كما سيأتي ضمن الدور الإعلامي.ومن جانب آخر علمت النساء وبخاصة السيدة زينب عليها السلام ان الإمام انطلق إلى نهضة إصلاحية كبرى في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذه النهضة الإسلامية الإصلاحية لابد ان يكون للمرأة محط قدم في التأثير والبلاغ. وإلى هذا يشير الشيخ عبد الوهاب الكاشي بالقول: إن الحسين عليه السلام كان يعرف انه إذا قتل فلا يوجد رجل في العالم الإسلامي يمكنه ان يتكلم بشيء ضد سياسة الأمويين مهما كان عظيماً حيث إنهم قطعوا الألسن وكمّوا الأفواه فكان قتله سدى وقد لا يعرف أحد من المسلمين ما جرى عليه.. فأراد الحسين عليه السلام ان يحمل معه ألسنة ناطقة بعد قتله لتنشر أنباء تلك التضحية في العالم الإسلامي ومذياعاً سياراً يذيع تفاصيل تلك المأساة الإنسانية والجرائم الوحشية، فلم يجد سوى تلك المخدرات والعقائل اللواتي سبين وسيرّن بعد الحسين عليه السلام في ركب فظيع مؤلم يجوب الأقطار يلقين الخطب في الجماهير وينشرن الوعي بين المسلمين وينبهن الغافلين ويلفتن أنظار المخدوعين ويفضحن الدعايات المضللة حتى ساد الوعي وتنبه الناس الى فظاعة الجريمة وانهالت الاعتراضات والانتقادات على يزيد والأمويين من كل الفئات والجهات. (الشيخ عبد الوهاب الكاشي، مأساة الحسين بين السائل والمجيب، ص 80).
وهذا بالضبط ما أراده الإمام من خلال حمله للنساء والعيال، وهذا ما حصل أيضاً إذ لولا وجود هذه الثلة المباركة لما تم كشف القناع عن يزيد ورفع الستار عن جرائم الأمويّين.
أهمية وجود المرأة في ساحات النزاع والمواجهة
ان وجود المرأة في مناطق النـزاعات غالباً ما يكون عامل تحريك للرأي العام وعامل تعريف بجرائم العدو، ولهذا نجد أنّ الإعلام إذا ما أراد ان يظهر بطش الحاكم وطغيانه فانه يعرض صوراً لنساء معذبات أو مقتولات أو أطفال يبكون ويستصرخون ويصرخون.. صور من الممكن ان تهز الضمير الاجتماعي وتحدث فيه حركة باتجاه المطلوب، بمعنى ان وجود المرأة في النـزاعات المسلحة والحروب غالبا ما يكون عاملاً لكشف وحشية العدو ومجازره وبشاعته ولنا ان نستعرض في ذاكرتنا ما كان يبث من صور عن المعارك التي شهدها القرن المنصرم وبداياته والتي يستخدم فيها مونتاجاً خاصاً لعرض بكاء الأمهات وذهول الزوجات وانين البنات. ولهذا اهتزت الكوفة لما جاء ركب الحسين عليه السلام وارتجت لمرأى الأطفال الذين ترتعد فرائصهم واصفرت وجوههم، وماجت للحرائر المخدرات اللواتي ارتسم الحزن على وجوههن وبان ثقل الدموع في مآقيهن وازداد الآلم حينما جادت عليهن الكوفيات بالإزر والمقانع وضج الناس بالبكاء والعويل حينما أزيح الستار عن القناع الأموي، فهؤلاء لسن سبايا الخوارج والديلم كما قال ابن زياد إنما هن سبايا آل البيت عليهم السلام!!.على هذا يمكن الإقرار بأن الإمام عليه السلام أخذ النساء معه كي يؤدين ادواراً مهمة لنصرة الثورة أو بالأحرى كانت ادوار النساء ضمن البرنامج التخطيطي لقائد الثورة الذي لم يكن يفكر بأنه سينُهي المواجهة بعدم مبايعته ليزيد، من ثم استشهاده بل لابد من توجيه الأمة إلى قيم جديدة وتربويات مطلوبة. ولم يكن لهذه المهمة الصعبة من يؤديها سوى هؤلاء النساء وعلى رأسهن السيدة زينب عليها السلام، وهذا يشير إلى ثقته الكاملة بأُخته وبأن هؤلاء النساء هن موضع اعتماد وهن قادرات على أداء التكاليف المطلوبة.
ماذا يقول الشيخ كاشف الغطاء عن أهمية خروج نساء الإمام عليه السلام معه؟
وقد ذكر المرحوم كاشف الغطاء: لو قتل الحسين هو وولده، ولم يتعقبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحديات لما تحقق غرضه وبلغ غايته في قلب الدولة على يزيد.( حياة الإٌمام الحسين عليه السلام 298 - 2 : 297 – 2)إذن كانت هناك أدوار مهمة ومسؤوليات خطيرة ولم يكن هناك من هو قادر على القيام بهذه المهام سوى السيدة زينب عليها السلام وباقي نساء أهل البيت. ولو أردنا ان نعرف ما هو التفاوت بين رؤية الإمام عليه السلام ورؤية المفكرين المعاصرين من خلال استعراض تجارب الإسلاميين أنفسهم والذين حملوا فكر الإسلام في وقت صعب وتحديات جسيمة، لكن مشكلتهم انهم لم يفهموا دور المرأة في الحياة والثورة ولم يحسبوا لها حساباً في ما قدموه من اطروحات نهضوية حصروا المرأة من خلالها في زوايا محددة وعزلوها عن شؤون نهضتهم. فعموم الحركات الإسلامية في القرن العشرين كانت تقصي المرأة عن جانب اهتماماتها تحت رؤى متعددة منها عدم تصور أهليتها وكفاءتها بل تصوروا ان مكانها بيتها فقط!. ومنها عدم الثقة بها؛ لأنهم كانوا يرونها عاملاً من عوامل إفشاء الأسرار لا أكثر وبهذا طغت الهواجس والرؤى السلبية النابعة من الموروث الاجتماعي على خارطة تفكيرهم، وكم وجدنا قادة مسلمين كباراً ومراجع عظاماً لكن نساءهم لا يفقهن من الحياة شيئاً؛ إذ كانت عقولهن هواء وافئدتهن خواء!. وبهذا عطلوا المرأة عن الوعي والمعرفة والفهم. فكيف تستطيع امرأة لا يتجاوز تفكيرها جدران بيتها ولا يطال وعيها المساحات الدينية الواسعة للحياة ان تنشئ جيلاً إسلامياً سامياً قادراً على أداء ادوار عُلى؟.
واقعة الطف كانت بحاجة المرأة كي تنجح وتؤتي بثمارها
بهذا يمكن القول: ان واقعة الطفوف كانت بحاجة إلى تواجد المرأة كي تنجح الثورة، وبحاجة إلى حضور نسائي متميز لا يجزي عنه الرجل أبداً. فمن المعلوم ان الإمام لو اصطحب الكثير من الرجال لأبيدوا بكاملهم وبهذا جاء حمل النساء كدلالة على تخطيط مستقبلي للثورة فيما يمكن ان تؤديه النساء من أدوار تدور ضمن مصلحة الإسلام الكبرى والإيمان بمبادئ الإمام في الإصلاح والتغيير، فهو إذن اجتياز للدائرة المحددة التي تشمل حياة المرأة الخاصة ضمن (حسن التبعل) ولكنها لا تلغي شخصية المرأة نفسها أو أهدافها الممتدة في الحياة أو مسؤولياتها العديدة.وكان الحضور النسائي متميزاً في نساء عرفن بالعلم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والصبر الجميل إلى غير ذلك، وبذلك نجح الرجل (الإمام وأنصاره) في تضحيته كما نجحت المرأة «زينب عليها السلام» في التبليغ والإعلام الموجه، ولم تكن الأدوار التقليدية للنساء كالأمومة والزوجية عائقاً أمام تحقيق نجاح أوسع ضمن دائرة الأهداف العامة أبدا بل كانت هذه الأدوار سبباً لإضفاء مزيد من الحزن والتفجع على ما جرى في الطفوف، فهؤلاء النساء قدمن الغالي والنفيس بل ضحين بالولد والأخ والزوج لنصرة الثورة في زمن تقاعس فيه الأشاوس من الرجال عن نصرة الإمام الذي كانوا يسمعون استغاثته!. وبهذا تحولت الأدوار التقليدية التي تضجر منها المرأة المعاصرة إلى أدوار رسالية ومحطات انطلاق لرسم هوية ثائرة للمرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1 التعليقات:
احسنتم اختي العزيزة
تعليقوالله ان ما قتليه هو الحق فسلام على الحسين وعلى عائلة الحسين الذين قدموا كل ما امكنهم في سبيل الله والدين
اختكم ام علي
إرسال تعليق