بقلم: السيد عبد المحسن الحكيم
اصبح ميسوراً لنا -بفضل الدراسات النفسية المعاصرة للأفراد والجماعات- فهم الحركات الجماعية التي لها قوة التأثير في عصرها والسعي به إلى غايتها ومثلها..وهي قليلة في التاريخ بالنسبة إلى عمر الإنسانية الطويل، وتاريخها البعيد.. وهي لا تكون حتما حين يكون الرخاء ميسوراً لسائر الأفراد، والفرص مكفولة لهم أيضا، وحين تكون العدالة الاجتماعية معمولا بها من قبل الهيئة الحاكمة للشعب دون التمييز بين طبقاته وصفوفه..ولا تكون كذلك حين يحسب للكفاءة الشخصية حسابها في تقديم الأفراد إلى المناصب العالية وتوكيلهم لإدارة سياسة الدولة وشؤونها.. وهذه أمور فرغت منها الدراسات المذكورة وعدتها من جملة البديهيات التي لا تخفى عن النظر الدقيق ومن هنا سهل عليها أن نزن كل حركة، والظروف التي لابستها، ومدى عمل الافراد النابهين في تسيير أمرها وتسهيل مهمتها في القضاء على ما يعوق نجاحها أو يعرقل سيرها.
ولا يقاس نجاحها بالظفر الوقتي فيمن سارت لاقصائه على طريقها، أو استبدال منهج خاص بأخر ممقوت، فقد تختنق الحركة قبل أن تخطو خطوات قصيرة في طريقها المرسوم، وقد تقيد حركتها وهي بعد في المهد لم تجاوزه كثيراً ولا قليلاً.. وتكون مع ذلك ناجحة بحساب الدراسات والفهم الصحيح، لأن نجاحها يقاس بقدرتها على اثارة روح الامتعاض في الأفراد، وحثهم على اظهار امتعاضهم كلما وجد من السلطة الحاكمة أو النظام القائم ما يمس روحهم هذه، أو يتحكم بها وفق مصالحه وهواه.. والشواهد على ذلك كثيرة... تقدمها لنا سيماء هذه الحركات التاريخية على الاطلاق، وهي أشدها وضوحاً وجلاء.
وفهمها يقتضينا الرجوع إلى زمن النبي (صلى الله عليه وىله وسلم) وعصور الخلفاء من بعده ودراسة الحياة الاجتماعية اذ ذاك ومعرفة علاقة الشعب بالحاكمين وعلاقة هؤلاء بالشعب، وقوام كل منها بنظر الإسلام والمثل التي دعا إليها، ثم موازنة هذه كلها في زمن معاوية ويزيد، وما تعرضت له في زمنهما من تغيير وتبديل واجتهاد لا يقره الإسلام ولا أية شريعة كريمة، كما يقتضينا منهما دراسة الحالة النفسية للمسلمين وهم يشاهدون المظاهر الإسلامية تغيض في دنيا جديدة يسعى معاوية لأقامتها بالسيف والمكر والمال.. ومعرفة ميول الرؤوس منهم ومدى تقبلهم بحكم الاغراء والتهديد وبحكم الرجات التي أحدثتها فيهم ثورات المسلمين على عثمان وعلى بعضهم في واقعة الجمل وصفين والنهروان، للنظم الجديدة التي تهدد القيم الاسلامية وتنذرها بشر وبيل، ولا نغفل مع ذلك كله من حسابنا كله احوال فئة صغيرة لم يحسم ايمانها بالاسلام وشرائعه الاجراءات الجديدة في الحكومة الأموية وما أحاط بها من وسائل الاغراء والارهاب.. لأن لها في منطقتها الامنية وسابقتها من نسب صراح ومواهب شخصية رفيعة ما يؤمنها من محاولة الاعتداء على مقدراتها وقيمها، ولها من تشبعها بالمبادئ الاسلامية القويمة وتشيعها للمصالح العامة، ومن الشعور بالمسؤولية عن كل ما يلحق بهذه المصالح وتلك المبادئ من عسف وضيم، لها من كل ذلك ما يقصيها عن التأثر بأغراء الأمويين وتهديدهم وأعني بهذه الفئة الصالحة الأسرة الهاشمية التي اضطلعت مع قليل من شيعتها بالحركة الكبرى الموفقة.
فهذه الأمور جميعاً لا بد من استعراضها للوصول إلى فهم الحركة الحسينية المباركة.. والحياة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثالية مطلقة... تدعمه أبداً تعاليم الإسلام وسيرة الرسول الكريمة، والفرد فيها لا يؤهله للحظوة عند الرسول جاه ولا نسب، وكانت التقوى هي التي تعين منزلة الرجل من المثالية التي رسمها الإسلام للرجل المسلم، وهي سبيل بإمكان سائر الأفراد أن يرتقوا بها إلى القمم الشاهقة التي وجه المسلمون إليها.
وما كانت الحياة لتبعد عن هذه المثالية في عهد أبي بكر وعمر لا سيما إذا أغفلنا بعض التغييرات التي حصلت في عهد الثاني.. كالتوزيعات المالية التي روعي فيها نوع من الطبقية، وتقسيم الناس إلى أصناف، ولكنها طبقية يسيرة لم تظهر نتائجها في زمنها، ولم تؤثر في مفهوم الرجل المسلم كما رسمه القرآن الكريم.. ومن يدري؟ لعلها كانت مداورة لجأ إليها عمر بلباقة للقضاء على ما بقي في بعض النفوس من تساؤل عن كيفية قيام حكومة أبي بكر وعمر مع وجود من نص عليه النبي في أكثر من مناسبة وهي على كل حال لم تشعر الذين شملهم الترفيع بامتيازهم بقدر ما أشعرتهم بنصيبهم الكبير من المخصصات.
ولكن عثمان بعد توليه الحكم لم يمهل الحياة الإسلامية وريثما تطمئن إلى نظامها السوي، وتتحصن به عن الطوارئ، فقد عجل ببلبلتها باطلاقة أيدي أسرته بمقدرات المسلمين، واقطاعهم الاراضي والولايات، وإيثارهم بأهم مرافق الدولة الحيوية.. وهنا تبدأ سياسة جديدة في المجتمع المسلم قوامها الأثرة القبلية،وكبت الحريات بمطاردة المعارضة ونفيها من مركز الخلافة أو حرمانها من مخصصاتها، وتحويل السلطة من صيغتها الدينية إلى ملكية مطلقة مستبدة،وقد مهدت هذه السياسة إلى أطماع معاوية بحصر الحكم في الأسرة الأموية وجعلها وراثيا فيها. فجد بدوره لتركيز الولاء الأموي في الشام بسخائه المعهود،والدعاية له في الأقطار الإسلامية يبث العيون والأرصاد لحمل بعض ذوي الأطماع على الانضمام للحزب الأموي.. وقد اشتد نشاطه خاصة بعد انتخاب الإمام علي (عليه السلام) لخلافة المسلمين.. على اثر الانقلاب الكبير الذي جرف فيمن جرف عثمان بن عفان ونشاط الأمويين في تعزيز مركزهم في المدينة ومكة وما جاورهما. ولكنه لم يقض عليه نهائياً.فقد اختفى ببعض الضمائر التي خلقتها أحوال الأمويين في عهد عثمان.. وقد ظهر اخيراً جلياً سافراً بدعوة من معاوية وإغراء من وعوده.. فكانت منه حادثة الجمل المعروفة.. وقد اثبت الأستاذ الفاضل عبد الفتاح عبد المقصود وثيقة طريفة تظهر لنا مقدار نشاط معاوية في إغراء كبار الصحابة إلى الإيقاع بالإمام وإقصائه عن الخلافة وهي كتاب أرسله معاوية إلى الزبير يقول فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم))
((لعبد الله الزبير أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي سفيان.. سلام عليك أما بعد فاني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فانه لا شيء بعد ذلك بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهر الطلب بدم عثمان، وادعو الناس الى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله وخذل مناوءكما والسلام)).
وتنتهي خلافة الامام بمصرعه على النحو المعروف، وهو يذكرنا بضعف الروح الدينية في المسلمين،ومدى هذا الضعف في هذه الفترة من عمر الإسلام.. ولا يظن اقتصاره في فئة الخوارج التي هزتها الأحداث فلا تعد تبصر سبيلها الحق بين التيارات التي تنازعت المجتمع الإسلامي، فقد كان هذا الضعف عاماً شاملاً في العراق والحجاز على السواء وهذا يفسر جانباً مهماً من جوانب الحركة الحسينية هو تقاعد الناس عن نصرته، وقبل ذاك عن نصرة الإمام الحسن (عليه السلام) وتكالب الكوفيين على قتاله، كما يفسر صبر الناس على سياسة الاضطهاد التي أخذ معاوية بها أعلام الكوفيين وزهادهم أمثال حجر بن عدي وعمرو بن حمق الخزاعي..... وأحسن من صور لنا الحالة الدينية في هذه الفتر كلمة الحسين (عليه السلام) الخالدة ((الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون)).
والحياة الاجتماعية في هذا الآن غاية في الاضطراب نتيجة السياسة الدموية التي اتبعها معاوية في القضاء على المعارضة والحزب المناوئ للسياسة.. ومسلموا العراق والحجاز لا يملكون من امر المعارضة ولا من أمر نفوسهم شيئاً.. فمن جهة يتراءى لهم بريق الجاه والمال يكيّله معاوية لشيعته كيلاً، وتتراءى لهم من جهة أخرى مشاهد القتل والتمثيل التي لحقت بعض شيعة علي على يدي زياد ومسلم بن عقبة وبسر بن أرطاه... اضافة الى ما أصيبوا به من كلل كثرة الحروب، وفقدان الباعث الديني في كثرتهم، وخوف زعمائهم من سياسة معاوية التي تعرف كيف تتخلص من أعدائها من وراء الستار.. وما مصرع مالك الاشتر والامام الحسن(عليه السلام) وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد عنهم ببعيد، وليس وسيلة معاوية في أخذ البيعة ليزيد ببعيدة عنهم أيضاً.. فتمر هذه المشاهد ببشاعتها على المسلم المنهوك.. فتسلبه بالطبع ثقته بنفسه، وثقته بدينه، وثقته ببيئته بجميع أشكالها وألوانها، فما ضره اذاً اذا آثر العافية والجاه والمال وحفظ الذات.. وهكذا كان.. ولست أستطيع أن أصدق أن آلافاً من الكتب جاءت، الى الحسين(عليه السلام) بدعوة أصحابه الى بيعته، واذا صح ما اشر اليه من أمر هذه الكتب فلا بد أن يكون باعثها خدعة أموية.. غرضهم منها اثارة الحسين(عليه السلام) الى الخروج على السلطان وقتله لهذا السبب، وقد انطلت هذه الحيلة على بعض الشيعة في الكوفة مع من كتب.. وما كان الحسين(عليه السلام) يحتاج الى من يثيره للخروج.. فقد كان كل شيء يوم ذاك يدعوه الى الثورة، وما كان خروجه من المدينة لغرض التوجه الى العراق استجابةً لكتب أهله الكثيرة، وانا أربأ بنظر الحسين(عليه السلام) النفاذ وملاحظته الدقيقة أن لا يستشف الحيلة الاموية من وراء هذه الكتب..
وما عهدنا شبث بن ربعي وقيس بن الأشعث وأصحابهما يرضون ببيعة الحسين وقد تحللوا سابقاً من بيعة الإمام علي (عليه السلام)..اذن كيف نفسر أبتعاثه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ؟ لا ادري الآن وادع أمر النظر بها إلى مناسبة أخرى.. وكان خروجه إلى غير وجهه معينة قطعاً وغرضه تنبيه الرأي المسلم العام من خلال خطبه وأحاديثه الى أن الأمويين ذاهبين حتماً بدينه وكرامته وتقاليده إلى الفناء، وتسخيره أبداً لمصالحهم وأغراضهم التي كان منها السيادة والأمرة والثراء.
من هذا الاستعراض السريع ببعض الأحداث التي سبقت حركة الحسين في الزمن نستطيع أن نفهم طبيعة هذه الحركة ورغبتها البعيدة.. وهي رد الاعتبار الى الدين والى الحق واعادة الدين الى النفوس.
ووجود الحسين(عليه السلام) في زمنه وهذه القلة من صحابته ضرورة تاريخية لا بد منها في عصور التدهور والانحطاط.. وأنت لا تعدم الشواهد لها في أصول علم الاجتماع، وتاريخ الثورات الكبيرة وقد قلت في هذه الحقيقة في مناسبة سابقه ((اننا لا نعدم في عصور التفسخ الخلقي أفراداً يثير فيهم رد الفعل شعوراً بضرورة الاصلاح وتقويم الخلق، وانهم ليفنون في سبيل ذلك حين يجدون الزعيم الذي يرضى حاجتهم الاصلاحية.. ومن هذا نفسر وجود أنصار الحسين وفناءهم في زعيمهم، وما كان ليهيأ مثل الامام الحسين(عليه السلام) في عصره ولا يتهيأ له مثل أنصاره)).
ونستطيع أن نحكم بنجاحها باستعراض تاريخ الدولة الأموية بعد قتل الحسين، وما تخلل أيامها من انتفاضات بعض الزعماء أمثال المختار وزيد بن علي رحمه الله.. ولتذكر دائماً أن العباسيين تولوا للظفر بخصومهم بالثأر للحسين وأهل بيته (عليهم السلام). اذ اتخذوا قتلهم أكبر مظهر من مظاهر فساد الحكم الأموي وسوء نياته بالإسلام والمسلمين).
إرسال تعليق