بقلم: السيد نبيل الحسني
أورد الحلبي (المتوفى 1044 هـ) في سيرته شبهة
عقائدية وتاريخية حول مبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه من مكة فقال: «... وأيضاً قد حصلت له الطمأنينة بقول
الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة
والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب (رضي
الله عنه) لما هاجر النبي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه ــ
وآله ــ وسلم قال لعلي ما ذكر.
وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم واضحاً ولا مانع من تكرار نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لان الحكم يكون للغالب»([1]).
وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم واضحاً ولا مانع من تكرار نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لان الحكم يكون للغالب»([1]).
أقول: وهذه الأسطر القليلة التي
تضمنت كلام الحلبي احتوت على مجموعة شبهات وأباطيل في آن واحد وإن كان محور الكلام
يدور حول مبيت الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
ولكي نُذهب بهذا الزّبد جفاءً فقد قمت بإفراد هذه
الشبهات كي تأخذ ما يناسبها من ردود فكانت كالآتي:
المسألة الأولى: رد شبهة،
حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له: لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
ولعمري فلقد أراد الحلبي أن يذم فمدح، إذ إن حصول
الطمأنينة لعلي عليه السلام لا يتحقق ذلك إلا بإيمانه الراسخ برسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، ولو كان في قلبه مقدار ذرة من الشك ــ والعياذ بالله ــ لما حصلت
له الطمأنينة، وهو الصدّيق حقاً.
إلا
إننا نفرق بين الطمأنينة التي قصدها الحلبي في عدم حصول الضرر عليه، وبين
الطمأنينة التي نؤمن بها وهي سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا
المبيت في فراشه، والتغطي ببرده الأخضر كي يعتقد القوم أنه صلى الله عليه وآله
وسلم ما زال في فراشه نائماً.
نعم:
لقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام مطمئناً، ولكن ليس من
عدم حصول المكروه، وإنما كان اطمئنانه بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولذا قدم نفسه لأجل تحقيق هذه السلامة.
ولذا نراه يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بعد أن ذكر له أن القوم يمكرون به وهم عازمون على قتله كما أخبره جبرائيل وهو
محتاج إلى أن ينام علي في مكانه فكان أول ما سأل عنه علي عليه السلام بعد أن سمع
هذا الكلام ان قال: «أو تسلم في مبيتي هناك»؟. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم». فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً ([2]).
فهذا هو الاطمئنان الذي خالج قلب أمير المؤمنين عليه السلام ولذا فداه بنفسه.
المسألة الثانية: رد شبهة
قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس)
بمعنى: أن تصديق الإمام علي عليه السلام بقول رسول
الله (لم يصلك مكروه) جعله ينام في مكانه ومن ثم لم يكن فيه فداء بالنفس.
أقول: فضلاً عما مرّ في الفقرة السابقة الا انني أضيف هنا ما يأتي:
ألف .
لم يقدم الحلبي دليلاً واحداً على أن تصديق الإمام علي عليه السلام بكلام رسول
الله كان خاصا بهذه الجملة تحديداً، ولا نعلم كيف توصل إلى معرفة ما يدور في نفس
أمير المؤمنين عليه السلام في تلك اللحظات التي لم يكن لهما فيها شريك غير الله
سبحانه وتعالى.
باء . لم يذكر الحلبي حينما أطلق هذه الشبهة الوقت الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأنه «لن يخلص إليك شيء تكرهه» أكان في
أول كلامه مع علي عليه السلام أم في آخره؟!
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر
علياً عليه السلام في ليلة المبيت في أول كلامه كأن قال له: (لن يخلص إليك شيء
تكرهه منهم فنم في مكاني وقد أخبرني جبرئيل بأنهم يريدون قتلي) فهذا يحتاج إلى
بينة يلزم من الحلبي تقديمها كي نصدقه بأن علياً أول ما سمع من النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه، ولذا كان مطمئناً لأنه عرف ان نفسه لن يصيبها
مكروه، وبما ان الحلبي لم يقدم بينة على ذلك فقوله ساقط، وفيه افتراء على علي بن
أبي طالب عليه السلام لأنه نسب إليه ما لم يكن واقعاً.
وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر
علياً بأنه يكون سالماً بعد أن أخبره بحديث جبرائيل من اجتماع القوم في دار الندوة
وعزمهم على قتله وتفريق دمه بين القبائل وان جبرائيل طلب منه ان لا ينام هذه
الليلة بفراشه وان يخرج من الدار، وإن
القوم قد أحاطوا بدار خديجة فيلزم أن يكون علي في فراشه كي يتمكن من خداعهم فيخرج
من دار خديجة مهاجراً؛ فهذا عين الفداء والتضحية لأنه قبل بفداء النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قبل أن يسمع منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه.
فضلاً عن ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرض على علي عليه السلام ذلك احتاج أن يسمع رأيه، ويرى قبوله أو رفضه، فعلي عليه السلام هنا مخير وليس مجبراً على المبيت، فان قبل علي ان ينام لزم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكافئه، أو على الأقل يبين له ما سيحدث له؛ وان كان جواب الإمام علي الرفض، فهل ينفع عندئذ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يخلص إليك شيء تكرهه».
فضلاً عن ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرض على علي عليه السلام ذلك احتاج أن يسمع رأيه، ويرى قبوله أو رفضه، فعلي عليه السلام هنا مخير وليس مجبراً على المبيت، فان قبل علي ان ينام لزم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكافئه، أو على الأقل يبين له ما سيحدث له؛ وان كان جواب الإمام علي الرفض، فهل ينفع عندئذ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يخلص إليك شيء تكرهه».
وهل سيكون للاطمئنان بسلامة النفس وجود، أو أي أثر.
وعليه:
إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ابتدأ القول بالاطمئنان قبل أن يخبر
علياً بما يجري عليه فهذا مخالف للخلق النبوي؛ لأن النبي لا يزج بأحد في الهلاك
والقتل وتحمل ضربات السيوف قبل ان يسمع منه رأيا، فمن يدري لعله يرفض، وعندها لا
ينفع تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء.
وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر
علياً (بأنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد قبوله عليه السلام العرض في أن
ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه فيه سلامة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فحينها يكون الإمام قد قدم نفسه فداء لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وآثر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حياته. وبذلك
يندفع زيف قول الحلبي (لم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة).
فضلاً
عن أن هناك من الروايات ما يدل على أن النبي الأكرم قد أخبر علياً (بأنه لن يخلص
إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد أن أخبره بسلامته من المشركين وسيتمكن من الهجرة إلى
المدينة، عندها سجد الإمام علي عليه السلام لله شكراً وبعد أن رأى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم منه هذا الصنيع والشكر لله قام فأخبره (بأنه لن يصله منهم شيء
يكرهه).
فأما
ابن إسحاق ومن جاء بعده فقد روى الحادثة بلفظ:
1ــ
فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي
وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».
وهنا:كان
تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب منه النوم في مكانه وبعد
اخباره بما ينتظره خلف الباب([3]).
2ــ وأما الشيخ الطوسي رحمه الله فقد روى عن عمار
بن ياسر وأبي رافع قائلا: (فلما أخبره جبرائيل بأمر الله في ذلك ووحيه، وما عزم له
من الهجرة، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وقال له: «يا
علي إن الروح هبط عليّ بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي
وقتلي، وإنه أوحى إليّ ربي عزّ وجل أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت
ليلتي، وإنه أمرني أن آمرك بالبيت على ضجاعي، أو قال: مضجعي، فيخفى بمبيتك عليه
أثري فما أنت قائل، وما صانع؟». فقال علي عليه السلام: «أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي
الله؟».
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم». تبسم علي عليه السلام ضاحكا، وأهوى إلى الأرض
ساجداً، شكرا بما أنبأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلامته، وكان علي
صلوات الله عليه أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من
هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رفع رأسه قال له: «امض لما
أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث
مرادك، وإن توفيقي إلا بالله».
قال: وإن القي عليك شبه مني،
أو قال: شبهي، قال: إن ــ بمعنى نعم ــ قال: «فارقد
على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه
على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم
الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم
والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة الله قريب من المحسنين»)([4]).
المسألة الثالثة: رد شبهة:
(إنّ الآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق)
أقول:
لم يفتأ هؤلاء الذين لديهم مشكلة قلبية مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن
يعمدوا إلى التدليس في الروايات والحيلة في تقديم الأقوال لغرض تضليل المسلمين
ودفعهم عن معرفة فضائل الإمام علي عليه السلام وكأنهم أرادوا حجب نور الشمس
بالمنخل.
فهنا يعمد الحلبي إلى تقديم إشكاله بالاحتيال على
الآية المباركة فيقول (الآية في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق) فيوهم القارئ بأن
الضمير في «هي» يعود للآية لأنه ابتدأ بها وليس للسورة فيجعلها في الحكم نفسه من
حيث تحديد مكان نزولها، ثم يؤكد الاحتيال على القارئ فيقول باتفاق، أي: باتفاق أهل
الاختصاص بعلوم القرآن، مما يجعل القارئ مطمئناً بأن الآية لا علاقة لها بعلي بن
أبي طالب عليه السلام لأنها مدنية وليلة المبيت وقعت في مكة وفي دار خديجة عليها
السلام.
وهذه الحيلة واهية؛ لأنها مخالفة للمنهج العلمي
فضلاً عن الأخلاقي وذلك لما يأتي:
ألف.
أما كون سورة البقرة مدنية فهذا لا خلاف فيه، ولكن نحن بصدد الحديث من آية الشراء
التي نزلت في ليلة المبيت والفداء والتضحية ولسنا في صدد الحديث عن سورة البقرة
وحكمها من المدني والمكي، ولذا كان من الأمانة العلمية ــ إن وجدت ــ الحديث عن
حكم الآية وليس السورة.
باء. وأما ما اتفق عليه أهل
الاختصاص في علوم القرآن كالزركشي والسيوطي فقد نقلا عن أبي القاسم الحسن بن محمد
بن حبيب النيسابوري في كتابه التنبيه على فضل علوم القرآن، أنه قال: (من أشرف علوم
القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل
بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل
بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة.
ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلاً، وما نزل نهاراً، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السورة المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: مدني، هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ولم يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى)([5]).
ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلاً، وما نزل نهاراً، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السورة المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: مدني، هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ولم يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى)([5]).
ولا أدري كيف استحل الحلبي الكلام فجعل الآية في
حكم المدني وقد نزلت قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، بل كيف
استحل التدليس والتضليل.
جيم.
قال السيوطي: «إعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة أشهرها: أن المكي ما
نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة
الوداع أم بسفر من الأسفار.
أخرج عثمان بن أبي سعيد الرازي بسنده إلى يحيى بن
سلم قال ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل ان يبلغ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني.
الثاني:
ان المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة.
الثالث:
أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة([6]).
والسؤال المطروح:
أعَلِمَ الحلبي هذه الأوجه أم أنه كان يجهلها؟ فان علمها فلماذا يخالف المنهج
العلمي ويتبع هواه، ولم يخشَ الله؟! وان لم يعلمها فلماذا ينطق بما لا يعلم ويتدخل
بما ليس له أهلاً، فضلاً عن تضليل القراء؟!
إذن: فآية الشراء مكية حسبما
جاء به أهل الاختصاص من تلك الأوجه في النزول، وإن كانت في ضمن سورة مدنية، وهذا
خلاف ما يدعيه الحلبي ظلماً وزوراً.
المسألة الرابعة: رد شبهة:
(إن الآية نزلت في صهيب)
أما هذه الشبهة التي نطق بها الحلبي، أي: إن آية
الشراء نزلت في صهيب فلقد تتبعها العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (زاد
الله في توفيقه) ــ نوردها تيمناً ــ ولنا إضافة بعدها، فقال: (لقد رووا: انه لما
أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الغار أرسل أبا بكر مرتين أو
ثلاثا إلى صهيب فوجده يصلي، فكره أن يقطع صلاته، وبعد أن جرى ما جرى عاد صهيب إلى
بيت أبي بكر، فسأل عن أخويه: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فأخبروه بما
جرى . فأراد الهجرة وحده.
ولكن المشركين لم يمكنوه من ذلك حتى بذل لهم ماله، فلما اجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء قال صلى الله عليه وآله وسلم: ربح صهيب ربح صهيب، أو ربح البيع، فأنزل الله : ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله الخ)).
وألفاظ الرواية مختلفة كما يعلم بمراجعة الدر المنثور للسيوطي وغيره ويكفي أن نذكر أن بعضها يذكر : أن الآية نزلت لما أخذ المشركون صهيبا ليعذبوه، فقال لهم : اني شيخ كبير لا يضر أمنكم كنت، أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني؟ ففعلوا.
ورواية أخرى تذكر القضية بنحو يشبه ما جرى لأمير المؤمنين حين هجرته، وتهديده إياهم ورجوعهم عنه؟ فراجع. ولكنها قصة لا تصح.
ولكن المشركين لم يمكنوه من ذلك حتى بذل لهم ماله، فلما اجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء قال صلى الله عليه وآله وسلم: ربح صهيب ربح صهيب، أو ربح البيع، فأنزل الله : ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله الخ)).
وألفاظ الرواية مختلفة كما يعلم بمراجعة الدر المنثور للسيوطي وغيره ويكفي أن نذكر أن بعضها يذكر : أن الآية نزلت لما أخذ المشركون صهيبا ليعذبوه، فقال لهم : اني شيخ كبير لا يضر أمنكم كنت، أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني؟ ففعلوا.
ورواية أخرى تذكر القضية بنحو يشبه ما جرى لأمير المؤمنين حين هجرته، وتهديده إياهم ورجوعهم عنه؟ فراجع. ولكنها قصة لا تصح.
أولا:
لأن إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى صهيب ثلاث مرات في ظرف كهذا
غير معقول، لاسيما وهم يدعون: أن قريشا كانت تطلب أبا بكر كما تطلب النبي، وجعلت
مئة ناقة لمن يأتي به، وان كنا نعتقد بعدم صحة ذلك كما سنرى.
ولكن قريشا ولا شك إنما كانت تهتم في أن تستدل على
النبي من خلال أبي بكر. أضف إلى ما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم
يخبر أحدا بهجرته تلك الليلة، بل يروون: أنه صلى الله عليه وآله وسلم انما صادف
أبا بكر، وهو في طريقه إلى الغار.
ثانيا:
إن كلامه معه وهو في الصلاة، واخباره بالامر، لا يوجب قطع صلاة صهيب، إذ باستطاعته
أن يلقي إليه الكلام ويرجع دون أن يقطع عليه صلاته، كما أنه يمكن أن ينتظره دقيقة
أو دقيقتين حتى يفرغ من صلاته، فيخبره بما يريد.
ويمكن أيضا أن يوصي أهل بيته
أن يبلغوه الرسالة التي يريد ابلاغها إلا إذا كان لم يثق بهم، إلا أن يدعى: أن أبا
بكر كان بحيث لا يدري كيف يتصرف، أو أنه كان يرى حرمة إلقاء الكلام ليسمعه المصلي،
وكلاهما غير محتمل في حقه، أو لا يرضى محبوه بنسبته إليه على الأقل، وباقي الفروض
الآنفة تبقى على حالها. هذا إضافة إلى هذه الصدفة النادرة فإنه يأتيه مرتين أو
ثلاثا، وهو لا يزال يصلي!!
ثالثا:
لماذا يهتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصهيب خاصة، ويترك من سواه من ضعفاء
المؤمنين، الذين كانت قريش تمارس ضدهم أقسى أنواع التعذيب والأذى، فلا يرسل إليهم،
ولو مرة واحدة، ولا نقول ثلاث مرات؟
وهل هذا ينسجم مع ما نعرفه من عدل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وعطفه الشديد على أمته؟
إلا أن يقال: لعل غير صهيب
كان مراقبا من المشركين، أو أن صهيبا كان أشد بلاء من غيره، إلى غير ذلك من
الاحتمالات التي لا دليل عليها، ولا شاهد لها.
رابعا:
اننا نجد بعض الروايات تقول: إن أبا بكر ــ وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ هو
الذي قال لصهيب: ربح البيع يا صهيب وذلك في قضية أخرى لا ربط لها بحديث الغار
والبعض يذكر القضية، ولكنه لا يذكر نزول الآية فيه.
خامسا:
إن الآية إنما تمتدح من يبذل نفسه في مرضاة الله، لا أنه يبذل المال في مرضاته،
ورواية صهيب ناظرة إلى الثاني لا الأول.
سادسا:
قد قلنا آنفا: إن صهيبا لم يكن الوحيد الذي بذل ماله في سبيل دينه، فلماذا اختص
هذا الوسام به دونهم.
سابعا:
انهم يذكرون: أنه لم يتخلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد من المهاجرين إلا
من حبس أو فتن، إلا عليا وأبا بكر.
ثامنا:
إن الرواية القائلة: إن صهيبا كان شيخا كبيرا لا يضر المشركين، أكان معهم أم مع
غيرهم. لا تصح، لأن صهيبا قد توفي سنة ثمان أو تسع وثلاثين وعمره سبعون سنة، فعمره
يكون حين الهجرة واحدا أو اثنين وثلاثين سنة، فهو قد كان في عنفوان شبابه، لا كما
تريد أن تدعيه هذه الرواية المفتعلة. هذا كله، عدا تناقضات روايات صهيب. وعدا أن
عددا منها لا يذكر نزول الآية في حقه.
كما أنها عموما إما مروية عن صهيب نفسه، أو عن تابعي لم يدرك عهد النبي، كعكرمة، وابن المسيب، وابن جريح، وليس هناك سوى رواية واحدة وردت عن ابن عباس الذي ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فقط . ويجب أن يعلم: أن صهيبا كان من أعوان الهيئة الحاكمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وممن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين، وكان يعادي أهل البيت عليهم السلام .
فلعل المقصود هو مكافأته على مواقفه تلك، بمنحه هذه الفضيلة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، فيكون هؤلاء قد أصابوا عصفورين بحجر واحد حينما يزين لهم شيطانهم أن عليا يخسر وخصومه يربحون)([7]). انتهى كلامه (زاد الله في توفيقه) ــ.
كما أنها عموما إما مروية عن صهيب نفسه، أو عن تابعي لم يدرك عهد النبي، كعكرمة، وابن المسيب، وابن جريح، وليس هناك سوى رواية واحدة وردت عن ابن عباس الذي ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فقط . ويجب أن يعلم: أن صهيبا كان من أعوان الهيئة الحاكمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وممن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين، وكان يعادي أهل البيت عليهم السلام .
فلعل المقصود هو مكافأته على مواقفه تلك، بمنحه هذه الفضيلة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، فيكون هؤلاء قد أصابوا عصفورين بحجر واحد حينما يزين لهم شيطانهم أن عليا يخسر وخصومه يربحون)([7]). انتهى كلامه (زاد الله في توفيقه) ــ.
وأقول ــ فضلاً عما أورده السيد العلامة ــ:
1 . إنّ الآية ان كانت قد نزلت في صهيب وإنها من الآيات المدنية فهذا يدل على انها لم
تكن نازلة في صهيب؛ لان الحادثة وقعت في مكة فكيف تكون في صهيب؟!
وعليه: أما أنها مدنية كما أدعى الحلبي وهي بهذا
تكون غير مخصوصة بصهيب وان قوله انها نزلت في صهيب كذب وافتراء.
وأما أنها مكية وقد ادعى الحلبي بأنها مدنية وهذا
كذب أيضاً.
2 .
إن الحلبي قد تراجع عن نفي الآية عن أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام كما
تراجع عن نزولها في صهيب وهذا تعثر في المنهج فضلاً عن فقدانه عند الحلبي، بل أريد
من ذلك بث الشبهات في الأذهان وحينها
تحتاج إلى ازالة، ان لم يتناقلها الناس فيما بينهم ويثقفون أبناءهم عليها.
ولذلك: تراجع عن ادعائه.
فقال: «لكنه في الإمتاع لم يذكر انه صلى الله عليه
ــ وآله ــ وسلم قال لعلي ما ذكر، وعليه: فيكون فداؤه بنفسه واضحاً».
3 .
وفي تراجعه عن كونها نزلت في صهيب انه قال: «ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق
علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق صهيب».
ونسى ان يأتي بدليل يثبت تكرار نزولها في الثلاثة،
فضلاً عن أن الآية تتحدث عن عقد يتكون من أربعة أركان:
ألف . البائع.
باء . الثمن.
جيم . المثمن.
دال . المشتري.
فإن كان العقد الذي نصت عليه الآية يخص رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كأن يكون البائع رسول الله فما هو المثمن؟، أي: الشيء
الذي باعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو الثمن الذي كان مقابل هذا
الشيء الذي باعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟، ومن هو المشتري؟ فهل كان خروجه
من مكة تنطبق عليه هذه الأركان؟ فهذا ما لم يقل به أحد.
وان
كان العقد يخص صهيب على أنه هو البائع فان المثمن المال الذي قدمه للمشركين، وان
الثمن سلامته من الصلب، وان المشتري هم المشركون، وهذا خلاف نص الآية المباركة.
وان
كان العقد مع الإمام علي عليه السلام بكونه البائع وإن المشتري هو الله سبحانه،
فان المثمن هو النفس حينما قدمها للقتل وهو نائم على فراش رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وبه يتحقق الطرف الأول من العقد أي البائع والشيء الذي يعرضه للبيع وهو
قوله تعالى: ((مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ([8]).
أي: بائع يبيع نفسه فان الثمن هو
مرضاته سبحانه وتعالى، ولأن المشتري هو الله تعالى وهو المتكفل بالشريعة فحق على
الله ان يكرم من يتقرب إليه بسلامة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وان
تحقق سلامة الحبيب أرجى عند المحب من سلامة البعيد عن المحب كصهيب؛ وهكذا كان أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما دلت عليه سيرته العطرة فضلاً عما نطقت
به النصوص المتظافرة.
1. قال عليه السلام: «إني والله لم أخالف رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قط، ولم أعصه في أمر قط، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص
فيها الأبطال، وترعد منها الفرائص، بقوة أكرمني الله بها، فله الحمد»([9]).
2.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «ما رددت على الله كلمة قط، ولا خالفت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في شيء أفديه في المواطن كلها بنفسي، ولقد جليت الكرب العظيم
عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجدة أعطانيها ربي»([10]).
3.
وقال ــ بأبي وأمي ــ: «لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم
إني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي
تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة مني أكرمني الله بها»([11]).
فكان نومه عليه الصلاة والسلام على فراش رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم واحد من تلك المواطن العديدة التي وقى فيها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، بنفسه فخلدها رب العزة في محكم كتابه تتلى آناء الليل وأطراف
النهار ولو كره الكافرون.
فكيف لا يجتهد أهل
الضلال بإخفاء أحداث هذه الليلة التي جمعت الولادة الجديدة للنبوة، وتحطيم رموز
الوثنية، وتكسير صنم قريش.
إرسال تعليق