بقلم: الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي
لكي نفيد من عبرة هذه الذكرى الخالدة، ونستثمر من معطياتها الكريمة الوفيرة لنتمثل خطوات الإمام الحسين (عليه السلام)، أمثولة القائد الإسلامي المظفر، في دعوتنا الأمة الى تطبيق الإسلام مجسداً في حياتها القلقة المؤلمة، فإن علينا أن نعيش من التاريخ الإسلامي الفترة القاسية التي سبقت ثورة الإمام الحسين مباشرة، والتي كانت عامل انبثاقها، محاولين مقارنتها بالفترة الخطيرة التي تعيشها أمتنا الإسلامية اليوم.
عاصر الإمام الحسين (عليه السلام) في تلكم الفترة، حكومة جائرة، شمل انحرافها عن تعاليم الإسلام وقيمه وأنظمته، الكثير من أطراف سلطانها.. حكومة استطاعت أن تحول نظام الخلافة الإسلامية، من مبدئها الشرعي الأصيل الى مذهب الوراثة المباشرة، مع الغائهم شرطين للخليفة الإسلامي، هما: العلم بالشريعة علماً كاملاً والعصمة، أو العدالة على الأقل.. الأمر الذي كان من أقل نتائجه انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض.
وكان من مظاهر انحرافها عن تشريعات الإسلام أن ألغت مبدأ المساواة بين المسلمين في توزيع الأموال الخراجية، المبدأ الذي عمل بتشريعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيام تولية أمر الخلافة كما عمل به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل،.. وأبدلته بمبدأ التوزيع الطبقي.
وقد فرضت ضرائب غير مشروعة، أمثال هدايا النوروز والمهرجان، التي بلغ واردها ايام معاوية. عشرة ملايين درهم، ومن العراق خاصة.
وأقطعت الكبير من أراضي الدولة المعروفة (بالصوافي) الى بعض الزعماء: على اساس من العاطفة، والميول الشخصية، والاستمالة السياسية.
وأبقت ضريبة الجزية على المسلمين من الأعاجم..
وإلى ما شاكلها من مخالفات ومفارقات.
وكان من مظاهر استهتارها بالقيم الخلقية أن اباحت اللهو واشاعته في أمثال المدينة المنورة من مراكز الثقل الديني، بغية تخدير الجماهير، وحرف مجرى التفكير عن مخالفات السياسة القائمة لأحكام الشريعة الإسلامية، مما عاد بالأمة الى واقعها قبل الإسلام.
وبوسعنا أن نلمس ذلك واضحاً تمام الوضوح، حينما نأخذ مثالاً من البصرة عام (45هـ) ومن موقف بعض امرائها وهو يصور ذلك التيار الجاهلي الجارف، يقول في بعض خطبه: ( أما بعد.. فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله الى النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الامور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرؤا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته).
ثم يقول: ((وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلاّ قطعت لسانه)).
وفي بعض كتب الإمام الحسين عليه السلام) أروع تصوير لذلك حيث يقول: ((وقد بعثت رسولي اليكم بهذا وأنا أدعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد أميتت والبدعة قد أحييت فإن تسمعوا قولي أهدكم سبيل الرشاد)).
هذه هي الفترة التي سبقت ثورة الإمام الحسين عليه السلام) في ابرز صورها السياسية والإجتماعية الفترة التي تمخضت عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام) فكانت العامل الأهم في انهيار دولة أمية وفي صدر التيار الجاهلي الكافر، وكانت انتصار الحق في هذه المعركة بين الهدى والضلال. وسارت الفكرة الإسلامية، تشق طريقها في الحياة، ما بين أشواك الكفر وعراقيل وعقبات الباطل، متحدية كل الصعاب.
وسار دعاتها المؤمنون والمجاهدون، يحملونها لخير الأمة وسعادة المجتمع، ولإداء المسؤولية الإسلامية العظمى، واثقين كل الثقة، إن الحق هو المنتصر، وواثقين كل الثقة ان لله العزة ولرسوله والمؤمنين.
سار هؤلاء الدعاة الإسلاميون، يمثلون دور المصلحين الإنسانيين، في كل دور من أدوار تاريخنا الإسلامي بعد وقعة الطف، يقفون أمام الباطل ويدحضون الكفر، ويقودون الأمة الى الحياة الإسلامية المطمئنة.
وجاء اليوم وهو أثر الأمس في الصراع بين الحق والباطل.. وعدنا نعيش الفترة المظلمة بحوالك الكفر، تتلبد أجواؤها سياسية وإجتماعية وفكرية، بألوان من الباطل، يزحم بعضها بعضاً، ويزيح بعضها الآخر، مستغلة من ابنائها الفراغ العقائدي، وفقدان الوعي السياسي الإسلامي… وأهون وابهت ما يعصف من صورها وألوانها هذا التمزق المرير لوحدة المسلمين السياسية، وهذا الضعف المقيت في مستوى التثقيف الإسلامي..
اننا لا نزال نعاني من الاستعمار الفكري الكافر، ونرزح تحت رواسب مخططات ايدلوجياته الظالمة.. ونحن –مع شديد الأسف- فاقدون للوعي السياسي الإسلامي، ذلك الوعي الجبار الذي أطاح بعروش كسرى وقيصر، وأطاح بدولة معاوية ويزيد.
ذلك الوعي الجبار الذي طارد الحكام المنحرفين، وقضى في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي، على ممتصي دماء الأمة، ومستغلي خيراتها والمتلاعبين بمقدراتها ومقدساتها.
وهذه مفردات وكتب ومناهج الثقافة الإسلامية في بلداننا تعرب بصراحة عن رواسب ذلك الاستعمار الفكري الغاشم.
وهل الإسلام - في مفاهيمها - إلا عقيدة وعبادة وتأريخ..؟!
لا علاقة له بالحياة، ولا علاقة له بالدولة وما أبعده عن السياسة..!!
أأسوأ من هذا..؟!
وهل يقوى الإستعمار الكافر على أن يأتي بأكثر من هذا..؟
ثم التفكك المزري لمجتمعاتنا القائمة، تلك المجتمعات التي تتنافى في غالبية وجوهها، وما يريده الإسلام العظيم للمسلمين من وحدة اجتماعية شاملة، في تماسك كالبنيان يشد بعضه بعضاً وتعاون على البر والتقوى تتكافأ فيه دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
وما الطائفية التي تعيث في مجتمعاتنا هذه وما تزرعه في النفوس من ضغائن وأحقاد، إلا عامل أهم في تفكيك وحدة المجتمع، وفي ضعفه وتأخره.
ولماذا لا يحتل تاريخ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) رقماً في مفردات مناهج التربية والتعليم..؟!
ولماذا لا تعرض كتبنا الدراسية، لخدمات علماؤنا الإسلامية في الفكر والسياسة..؟!
وما انتشار الأفكار الاإسلامية، عن طريق الأحزاب غير المسلمة، إلا عامل آخر يربو في الأهمية على سابقه.
كم شاهدنا الفرد من ابنائنا صار يفترس أخاه المسلم، في سبيل مبدأ كافر، ومن أجل فكرة كافرة.
ولقد أرتنا الأيام أن اللمعان والبريق، والدعاوي المعسولة، ما هي إلاّ ستار ضعيف يشف عن السموم الناقعة القاتلة.
وهكذا تعود الفترة الحاضرة، تحمل في ظواهرها ما يشابه ألوان الصراع بين الحق والباطل ايام الإمام الحسين (عليه السلام).. ويعود الدعاة الإسلاميون الى الجهاد، ويعود المصلحون من أئمتنا وقادتنا ينازلون الباطل، ويقارعون الكفر.
إرسال تعليق