ذكرى حفيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

بقلم: الأستاذ محمد مبروك نافع
استاذ تاريخ الأديان بدار العلوم

ما أحسست طوال حياتي برهبة الموقف وما تهيبت المنبر من قبل، قدر تهيبي هذه المرة. لقد الفتم أيها السادة في هذا الموقف أن يتحدث الناس الى عواطفكم فحسب، أما أنا فسأحاول أن أتحدث إلى قلوبكم وعقولكم معاً، فمن كان الحسين عليه السلام) الذي تجتمع الآلاف المؤلفة للإحتفال بذكراه، ومن كان يزيد الذي نكب العالم في عهده النكبات الثلاث المعروفات فأما الحسين فهو أشهر من أن يعرف، هو أبن بنت رسول الله وأبن الإمام الأكبر علي بن أبي طالب(عليهم السلام) وكفاه هذا تعريفاً، وأما يزيد فهو أبن معاوية من ميسون الكلبية بعث به أبوه إلى البادية ليربى في قبيلة بني كلب المسيحية فنشأ على شر خصال البادية من معاقرة للخمر وولع بالصيد ومجالسة النساء والاستهتار بشؤون الدين، وأراد أبوه أن يأخذ له البيعة قسراً من جلة الصحابة وشيوخ العرب الأفاضل فقبل البيعة من قبل ممن جارى معاوية استجلاباً لرضاه، وأبى أهل المدينة أن يلي شؤون المسلمين شاب حدث تلك بعض صفاته، ولم يكن معاوية بالرجل الذي يترك ما إنتواه بسهولة، فلما فشلت الحيلة إذ بنا نراه يأخذ البيعة ممن ذكرنا قسراً في المسجد وقد أوقف الى جوار كل واحد شرطي شاهراً سيفه على أهبة الإستعداد للإطاحة برأس كل من ينبس ببنت شفة. وكان الحسين قد أفلت من المدينة إلى مكة وبينما هو هناك إذ بالرسائل تترى من أهل الكوفة والرسل تتوافد تحمل عرائض الثقة بالحسين(عليه السلام) وبأنهم كممثليه لأهل العراق لا يرضون بيزيد خليفة وأنهم عقدوا العناصر على بيعة الحسين(عليه السلام) والدفاع عنه وحاول فريق أن يثنوا الحسين(عليه السلام) عن عزمه ولكنه اقدم وهو يعلم أنه مقدم على امر خطر وهو لا يتردد أن يجعل دمه فداءاً للفكرة السامية التي كانت تعمر قلبه ويؤمن بها وجدانه وهي أنه لا يجوز أن يلي شؤون المسلمين في ذلك الصدر الأول من الإسلام رجل غير تقي، بل رجل لا يتورع عن المجاهرة بالفسوق والعصيان.

كان الحسين(عليه السلام) عظيماً فما أقدم غير مقدر للموقف على هذا الأمر العظيم، والعظيم أيها السادة يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه وكذلك كان الزعماء في كل العصور.

وأتصل بالحسين(عليه السلام) وهو في ركبه إلى الكوفة من أنبأه بأن قلوب القوم معه ولكن سيوفهم مع بني أمية، ولكنه لم ينثن بل لم ينس أيضاً عندما قيل له أن رسوله إلى أهل الكوفة وهو مسلم بن عقيل قد قتل، وقتل معه هانيء بن عروة، فلم يتحرك أهل الكوفة للثأر لهما، لم ينثن إذ أبت عليه مروئته وشهامته ألاّ يجيب بني عقيل الذين أصروا على ان يثأروا لقتيلهم فكان في طليعتهم، حتى إذا ما أشرفوا على أرض الكوفة إذا بجند الوالي عبيد الله بن زياد تحيط به فلا تفارق ركبه ويحاول الحسين(عليه السلام) التفاهم مع زعيمهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فيتردد الرجل أو لا يتهيب أن يقتل حفيد رسول الله . ولكن خبث بن زياد وشناعة الملعون شمر بن ذي الجوشن تغير الموقف وتجعل عمر وهو ابن سعد بن أبي وقاص يخشى أن يفقد ما مني به من ولاية الري فيقدم على أكبر جريمة إقترفها الأمويون، وإذا، بالمعركة تدور بين فريقيـن لا تكافئ بينهما، فريق عدته الـوف وآخر عدته عشرات، وأخذ اتباع الحسين وأقرباؤه وبنوه يتساقطون الواحد تلو الآخر أمامه بعد أن أبلوا بلاءً حسناً وقتلوا من عدوهم أكثر مما قتل منهم، وأخيراً خرَّ حفيد الرسول صريعاً، فروى بدمه الطاهر أرض كربلاء فأنبت دمه الطاهر بذور المذهب الشيعي بأكثر مما أنبته أبوه وولدت الشيعة منذ اليوم العاشر من شهر محرم ولا أريد أيها السادة أن أذكر تفاصيل القتلة الشنيعة فأنتم تعرفونها جميعاً وتحذقون كل تفاصيلها، وما هذه الدموع المترقرقة في مآقيكم وهذه الآنات المتصاعدة من صدوركم، وذلك الوجوم الذي يعلو جموعكم الزاخرة إلاّ دليل على ما تنطوي عليه جوانحكم من التقدير والتبجيل لحفيد الرسول الشهيد والآلم الشديد لشناعة مصرعه.

وقال قائل لقد فشل الحسين في محاولته ومات، فورب الكعبة إن الحسين لم يفشل، فما حدث أن حييت ذكرى رجل في التاريخ فحكم من ملايين الناس بعد موته كما حدث للحسين وأبيه من قبل وأولاده من بعد، إن الحسين(عليه السلام) لم يمت بل هو حي في كل شخص منكم، هو حي في جماهيركم وذاكرتكم، هو حي في هذا الحشد الحافل هنا في الكاظمية وفي كربلاء والنجف وأرض العراق وفي فارس والهند ومصر وشمال أفريقيا وأندنوسيا وغيرها من الأقطار التي يسكنها الأربعمائة مليون من البشر الذين يدينون بدين جد الحسين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنذ ثنتين وثلاث مئة وألف سنة وملايين المسلمين تحتفل بذكرى هذا اليوم إن لم يكن إحتفالاً عاماً رسمياً كإحتفالكم هذا فهو إحتفال قلبي هادئ في كل بيت وفي كل مجتمع.

وألفتم ايها السادة منذ تلك القرون الغابرة أن تتخذوا هذا اليوم العاشر من محرم يوم مناحة وبكاء عام، أما أنا فأريد أن اقول يجب أن نتخذ من هذا اليوم عيداً لإحياء مبادئ الحسين ومبادئ جده رسول الله تلك المبادئ السامية التي نقلت العالم من الظلمة إلى النور، وخرجت الأبطال من اواسط شبه الجزيرة العربية إلى ربوع العالم الزاهرة في الشرق والغرب فنقلها من الظلم والطغيان إلى العدل والإيمان، أجل لنحتفل في هذا اليوم بذكرى الحسين الذي استشهد في سبيل تحقيق هذه المبادئ ولنقف جميعاً نحن معاشر المسلمين كالبنيان المرصوف كتفاً إلى كتف في تأييد هذه المبادئ لافرق بين مذهب ومذهب وصاحب رأي وصاحب رأي ، فإن تحقيق مبادئ الإسلام ونصرة كلمة الدين هي التي تطمئن لها أرواح أولئك الشهداء الذين فاضت أرواحهم في سبيل الحق، إن تحقيق هذه المبادئ تطمئن له أجسامهم في باطن الأرض أكثر مما تطمئن إلى أي شيء آخر، وأذكروا أيها السادة أنكم تجتمعون هنا في ساحة الإمام الكاظم فإكظموا غيظكم وأعفوا عن المسيئين إليكم.

أيها الأخوان إن الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس أحب إلى الله ورسوله من الذين قست قلوبهم ونقموا على إخوانهم ولم يغفروا لهم زلاتهم.

ايها السادة، لنتخذ من مبادئ الحسين عليه السلام) أكبر هادٍ لنا ولنتكاتف جميعاً أفراد وجماعات على نصرة هذا الدين الحنيف ورفع شأن المسلمين.

ولنتخذ من هذا الإحتفال بداية عهد جديد يسود فيه السلام والوفاق بيننا جميعاً ولتكن وحدتنا العربية أقوى بداية للوحدة الإسلامية التي ينشدها الجميع وإذ ذاك تطمئن روح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرواح كل الأبرار الشهداء، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه صالح هذا العالم الإسلامي وهدانا .. إنه نعم الهادِ والسلام عليكم ورحمة وبركاته.

إرسال تعليق