بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية
وهو ترك الاعتراض والسخط، قال الله تعالى: ((رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ))[1].
وقال الصادق عليه السلام: رأس طاعة الله الصبر، والرضا في ما أحب العبد أو كره، ولا يرضى عبد عن الله في ما أحب أو كره إلاّ كان خيراً له في ما أحب أو كره[2].
وقال عليه السلام[3]: إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله[4].
وقال الكاظم عليه السلام: ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه ولا يتهمه في قضائه[5].
وقال الصادق عليه السلام: قال الله عزّوجل: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلت له خيراً[6]، فليرض بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه يا محمد من الصديقين عندي[7].
وقال عليه السلام[8]: إن في ما أوحى الله عزّوجل إلى موسى بن عمران: ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأزوى عنه لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي وليرض بقضائي أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضاي وأطاع أمري[9].
وقال عليه السلام[10]: عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عزّوجل له قضاء إلا كان خيراً له، وإن قرض[11] بالمقاريض[12] كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له[13].
وقال الباقر عليه السلام: أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عزّوجل، من عرف الله عزّوجل ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء فأحبط[14] الله أجره[15].
وقال السجاد عليه السلام: الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا.[16].
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل طائفة من أصحابه فقال: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ فقالوا: نصبر عند البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مؤمنون ورب الكعبة[17]. وفي رواية: حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء[18].
وههنا كلام، وهو أنه كيف يتصور الرضا بأنواع البلاء والابتلاء وما يخالف الهوى والطبع، وإنما يتصور الصبر في هذه الأمور دون الرضا؟
فاعلم أن الرضا فرح الحب، فإذا حصلت المحبة حصل الرضا، ولذلك مرتبتان عليا وسفلى:
أما العليا: فهو أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس وتصيبه الجراحة ولا يدرك ألمها، وشاهده في عالم الأجسام الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو خوفه قد تصيبه جراحات عظيمة ولا يحس بها ولا بألمها، فإذا رأى الدم استدل به على الجراحة، وكذلك الذي يعدو في شغل أو حاجة قد تصيبه شوكة في قدمه ولا يحس بالألم لاشتغال قلبه، وإذا اشتغل القلب صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه، وكذا العاشق والمحب إذا أصابه ألم ــ سيما من المحبوب ــ لا يدركه لاستيلاء الحب عليه.
وأما المرتبة السفلى: فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له بعقله وإن كان كارهاً له بطبعه نظراً إلى ثوابه الذي أعد له. ونظيره في عالم الأجسام الذي يلتمس من الفصاد الفصد[19] ومن الحجام الحجامة ومن الطبيب الدواء المر. فإنه يدرك ألمه إلا أنه راض به راغب فيه متقلد فيه المنة لما يعلم من العاقبة.
وقد حكي أن امرأة عثرت فانقطع ظفرها وسال الدم فضحكت، فقيل لها: أما تألمت؟ فقالت: لذة الأجر أنستني الألم[20].
ويروى أن أهل مصر كانوا إذا جاعوا نظروا الى وجه يوسف عليه السلام فيشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع[21].
وفي القرآن ما هو أبلغ من ذلك، وهو قطع النسوة أيديهن ولم يحسن بذلك لما نظرن إلى جماله عليه السلام[22].
واعلم أن الدعاء غير مناقض للرضا، لأنه عبادة تعبدنا الله بها وجعل من لم يدعه مستكبراً عليه مستحقاً للعذاب، فقال تعالى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ))[23].
وكذا تعبدنا الله بإنكار المعاصي وكراهتها، فروي أن من شهد منكراً ورضي به فكأنه قد فعله[24]. وفي آخر: لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب كان شريكه في قتله[25].
واعلم أن فائدة الرضا في الحال فراغ القلب للعبادة والراحة من الهموم وفي المال رضوان الله والنجاة من غضبه، فقد قال سبحانه: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليطلب رباً سوائي[26].
والطريق إلى تحصيله أن يعلم أن ما قضى الله سبحانه له فهو الأصلح بحاله وإن لم يبلغ علمه بسره وحكمته، ولا مدخل للهم فيه ولا يتبدل القضاء به، فإن ما قدر لا محالة يكون وما لم يقدر لا يكون، وما أحسن ما قيل[27]:
مـــــا لا يــكـــــون فــلا يــكــون بــحــيلـــة *** أبـداً ومــا هـــو كـــائـــن ســــيــــكــــون[28]
وحسرة الماضي وتدبير الآتي يذهبان ببركة الوقت بلا فائدة وتبقى تبعة السخط عليه، بل ينبغي أن يدهشه الحب عن الإحساس بالألم كالعاشق والحريص، وأن يهون عليه العلم بجزيل الثواب وعظيم الأجر كالمريض والتاجر المتحملين شدة الحجامة والسفر، فيفوض أمره إلى الله ((إِنَّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ))[29].[30]
ــــــــــــــــ
[1] سورة المائدة/ 119.
[2] أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 60، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء/ ح1.
[3] أي: "الإمام الصادق عليه السلام".
[4] مشكاة الأنوار، الطبرسي: 33، الباب الأول في الإيمان والإسلام وما يتعلق به، الفصل السابع في الرضا.
[5] تحف العقول، الحراني: 408، وروي عن الإمام الكاظم الأمين أبي إبراهيم ويكنى أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام في طوال هذه المعاني، وروي عنه عليه السلام في قصار هذه المعاني.
[6] في الكافي: "جعلته خيرا له".
[7] الكافي، الكليني: 2/ 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا والقضاء/ ح6.
[8] أي: "الإمام الصادق عليه السلام".
[9] أنظر: مسكن الفؤاد، الشهيد الثاني: 88، الباب الثالث في الرضا.
[10] الإمام الصادق عليه السلام.
[11] القرض: القطع. قرضه يقرضه، بالكسر، قرضا وقرضه: قطعه.
لسان العرب، ابن منظور: 7 / 216، مادة "قرض".
[12] المقراض واحد المقاريض التي يقرض بها.
مجمع البحرين، الطريحي: 3/ 488، مادة "قرض".
المقراض: هو ما قصصت به.
تاج العروس، الزبيدي: 4/ 422.
[13] الكافي، الكليني: 2/ 62، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء/ ح8.
[14] في مجموعة ورام: "وأحبط".
[15] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 2/ 185.
[16] مسكن الفؤاد، الشهيد الثاني: 86، الباب الثالث في الرضا.
[17]أنظر: مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/ 229 ــ 230، بيان الحب لله ولرسوله.
[18] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/ 230، بيان الحب لله ولرسوله. السيرة النبوية، ابن كثير: 4/ 181، وفد كندة.
[19] الفصد بالفتح فالسكون: قطع العرق، يقال فصد فصدا من باب ضرب، والاسم الفصاد. مجمع البحرين، الطريحي: 3/404، مادة "فصد".
[20] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/ 303، كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، بيان حقيقة الرضا وتصوره.
[21] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 8/ 92، كتاب المحبة والشوق والرضا والأنس، بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى.
[22] إشارة إلى قوله تعالى: ((فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)) سورة يوسف/31.
[23] سورة غافر/ 60.
[24] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 8/ 95، كتاب المحبة والشوق والرضا، بيان أن الدعاء غير مناقض للرضا ولا يخرج صاحبه عن مقام الرضا.
[25] أنظر: روضة الواعظين، الفتال النيسابوري:2/ 461،مجلس في ذكر قتل النفس والزنى.
[26] أنظر: كنز الفوائد، الكراجكي: 1/ 360، فصل من القول في القضاء والقدر.
[27] القائل: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
[28] ديوان الإمام علي عليه السلام، الإمام علي عليه السلام: 451.
[29] سورة غافر/ 44.
[30] أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 150 ــ 153، الباب الثاني في الرضا وطريق تحصيله. جامع السعادات، النراقي: 3/ 208 ــ 214. إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/ 302 ــ 308، كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى.
إرسال تعليق