بقلم: السيد نبيل الحسني
يمضي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في إظهار منزلة فاطمة عليها السلام لديه وذلك من خلال بيان أن حب فاطمة وبعلها وبنيها هو متلازم مع حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثمّ فإن هذا الحب يقود إلى غاية شرعية أظهرها القرآن الكريم وهو ضمن العناوين الآتية:
ألف: إنّ المراد من الحب الإتباع
إن هذا العنوان الشرعي المبين لإحدى دلالات الحب، وهو الإتباع جاء من خلال القرآن الكريم كما هو واضح في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...}[1].
بمعنى: لا يمكن أن ينزرع حب الله في قلب أي إنسان وينمو ويعطي ثماره ما لم يكن هناك إتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل لا معنى للحب بدون الإتباع وهو ما عليه الوجدان الإنساني والسير العقلائي، بل يكفي لو تأمل الإنسان أن ذلك سنته كونية جرت في النبات والحيوان وإن اختلف المحرك في الإتباع بين القطرة والغريزة والحب، فعندها يكون الحب في الموجودات فطري وغرائزي يدفع الإنسان إلى ما يحب حتى وإن اختلفت الأهداف فقد يكون الإنسان محب للشهوات لكنه في طبيعته وفطرته يندفع لهذه الشهوات ويتبع كل ما يحقق له إشباع هذا الحب.
ولذلك: وجود الحب يقتضي الإتباع وبدون الإتباع لا معنى للقائل بأنه يحب وذلك لأنه يكون قد خالق الخلقة والفطرة التي فطر الله عليها الموجودات، بل كلما كان الحب أكبر كلما كان الإتباع أشد حتى لا يستطيع المحب الانفكاك عن المحب، بل حتى يكون صورة له في أفعاله وأقواله وهديه وسمته وسننه، وهذا الذي يريده القرآن من حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي أن يكون المحب ــ وبحسب ــ مستوى هذا الحب صورة تحاكي المحب في الهدي والسمت والسنة.
من هنا: حينما نأتي إلى معرفة أولئك الذين كانوا مصداقاً للحب النبوي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك من خلال أنهم كانوا يمثلون في فعلهم وقولهم وهديهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا لا يمكن أن نتعدى أهل بيته عليهم السلام وذلك حسبما أكدته النصوص ودلت عليه الروايات.
1 ــ روى الترمذي عن عائشة قال: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلا وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم)[2].
والحديث يكشف عن رتبة فاطمة عليها السالم ومنزلتها الاتباعية لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته فلمن يكن أحد بعد علي بن أبي طالب عليه السلام ــ كما سيمر ــ في مثل إتباعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبحت تشابهه في سمته ودله وهديه فكان الناظر إليها يخال نفسه ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2 ــ وفي سنة الإتباع التي فطر الله تعالى عليها الخلق فكان الحب قائد المرء في إتباعه للأشياء هو درجة حبه لها، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يكشف للناس لاسيما أولئك الذين يدعون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أبعد الخلق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجم حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبح المصداق الأول لهذه السنة في الإسلام فيقول:
«ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به؛ ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري؛ ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس حق عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير»[3].
إذن: يقتضي حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإتباع كما دلّ عليه القرآن والسُنّة وسيرة العقلاء، وأن أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي وفاطمة وولديهما عليهم السلام فقد كان مصداق هذا الحب من خلال الإتباع المطبق لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمته وسنته وخلقه.
باء: إنّ المراد من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان به
يطرح القرآن قضية حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إطار آخر وتحت عنوان شرعي جديد إلاّ وهو الإيمان بالله تعالى إذ يبدأ القرآن في أول الأمر عند تأسيس هذا العنوان الشرعي والبنائي للمجتمع المسلم من خلال بيان أن الإيمان هو عين الحب لله تعالى، ومن ثمّ فالذين أمنوا هم أشد الناس حباً لله تعالى كما دل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...}[4].
ثم يمضي القرآن في التأسيس لهذا العنوان الشرعي في نفوس الناس كي يتم بناء المجتمع الأنموذج الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فيكون مصداق لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[5].
وذلك من خلال ترسيخ حب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمه على كل شيء تعلق به الإنسان في الحياة وارتبطه.
فيقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[6].
وهذا التأسيس والبناء للعقيدة الإسلامية وبهذه الكيفية التي يطرحها القرآن ويريدها الله تبارك اسمه فيكون حب رسول الله صلى الله عليه وآله يرتكز على الإيمان به وإن مراتب هذا الإيمان مرتبطة بمراتب هذا الحب كما هو مبين في الآية الكريمة من خلال الروابط النفسية والروحية والاجتماعية التي يرتبط بها الإنسان فتعلق بها، بل ويصرف في بقائها ودوامها الكثير من متعلقاته الأخرى وذلك بحسب التفاوت القائم لدى كل إنسان فيما يرتبط به من علاقة أبوية أو أخوية أو والدية أو قرابية أو زوجية أو مالية، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة.
فهذه العلائق تتفاوت الناس في التعاطي معها والارتباط بها حتى تأتي العلاقة بالله ورسوله متأخرة أو متقدمة بحسب الإيمان الذي يختلج في قلب الإنسان.
وعليه: يجعل القرآن حب الله ورسوله والجهاد في سبيله هو المقدم على هذه العلائق التي ارتبط بها الإنسان وأحبها وتفاوتت فيما بينها لديه في الحب والأهمية فقد يكون المال أحب جميع هذه الأشياء وقد يكون الأبناء وقد تكون الزوجة.
إلاّ أن المنهج القرآني في بناء العقيدة الإسلامية للمسلم هو أن يكون حب الله ورسوله هوالعنوان الأول والأساس فيما يرتبط بالإنسان من أشياء عديدة.
ثم ليأتي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا النص القرآني ليبين للناس وللمسلمين تحديداً وفي إطار العقيدة القرآنية التي أرادت أن يبنى الإسلام عليها أن يكون حب فاطمة وعلي وولديهما عليهم السلام هو تبع لحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل لا يمكن أن يصدق عنوان الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن هناك حب لفاطمة وعلي وولديهما عليهم السلام كما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة فكانت كالآتي:
1 ــ روى ابن عساكر وغيره عن زيد بن أرقم، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرت فاطمة عليها السلام وهي خارجة من بيتها إلى حجرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها إبناها الحسن والحسين عليهم السلام وعلي في أثرهم فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «من أحب هؤلاء فقد أحبني ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني»[7].
2 ــ روى الشيخ الصدوق والطوسي والترمذي والحاكم والبخاري وغيرهم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أحبوا الله لما يغدوكم به مننعمة، وأحبوني لحُب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»[8].
3 ـ روى ابن تيمية وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي»[9].
4 ــ روى ابن أبي شيبة الكوفي، والطبراني وابن عساكر وغيرهم، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح قال: قال العباس: يا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يصيبوا خيراً حتى يحبوكم لله ولقرابتي، أترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب»[10].
5 ــ روى أحمد بن حنبل، ومحمد بن سليمان الكوفي، والترمذي، والحاكم النيسابوري، وغيرهم بطرق عدة، منها ما رواه أحمد عن عبد الله بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقى بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا تعرفنا؟!
قال: فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضباً شديداً، وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله»[11].
والملاحظ في الحديث بعض النقاط منها:
أ: تخصيص الإيمان بالله تعالى وأنه مرهون بحب أهل البيت عليهم السلام، أي يكون حب كل رجل أو امرأة لأهل البيت عليهم السلام خالصاً لله تعالى وإن كانوا يجدون من يقول بخلافهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم كآبائهم وأبنائهم كما نصت الآية الكريمة التي مرّ ذكرها.
ب: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغضب غضباً شديداً لتغير وجوه قريش في وجه عمه العباس وذلك لما أحدثه الإسلام من تغيرات في المجتمع فكيف يكون حاله عند قتل ابنته فاطمة وولدها عليهم السلام على النحو المعروف ــ نعوذ بالله من سوء المنقلب ومن غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ــ.
ج: من البديهي أن أسباب حصول الغضب يضادها أسباب حصول الرضا، بمعنى: كلما زاد إيمان الإنسان كلما زاد حباً لأهل البيت عليهم السلام وكلما كان الحرص شديد على خدمتهم وإدخال السرور عليهم فإن بذلك إدخال للسرور على قلب سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
6 ــ روى أحمد بن حنبل، والترمذي، والدولابي، والطبراني جميعاً عن علي بن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد بن علي الباقر عن أبيه الإمام علي بن الحسين عن أبيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد حسن وحسين عليهما السلام فقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة»[12].
والحديث الشريف يجمع ما قدمناه من دلالات في أن معنى الحب هو الإتباع والاقتداء والهدي بهؤلاء إلى المستوى الذي يكون الشخص بسمته وطريقة معيشته وتعامله مع الناس صورة حاكية عن الحسن والحسين وعلي وفاطمة عليهم السلام فمن استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من الحب فإنه لا شك وبنص الحديث النبوي الشريف سينال من الرضا والقرب الإلهي ما يجعله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة في الدرجة التي أعدها الله تعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في جنة عدن أو الفردوس لأنه قد بلغ رتبة من التقوى العملية ما مكنته من الوصول إلى هذه المنزلة.
ــــــــــــــ
[1] سورة آل عمران، ألآية: 31.
[2] سنن الترمذي: ج5، ص361؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص78؛ المستدرك للحاكم: ج4، ص272؛ فتح الباري لابن حجر: ج8، ص103؛ السنن الكبرى للنسائي: ج5، ص96؛ نصب الراية للزيلعي: ج6، ص156؛ مطالب السؤول لابن طلحة: ص36؛ سبل الهدى والرشاد للشامي: ج11، ص46.
[3] نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: ج2، ص157.
[4] سورة البقرة، الآية: 165.
[5] سورة آل عمران، الآية: 110.
[6] سورة التوبة، الآية: 24.
[7] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج14، ص154؛ كنز العمال للهندي: ج12، ص103؛ كشف الغمة للأربلي: ج1، ص525؛ سبل الهدى للصالحي الشامي: ج11، ص57.
[8] الأمالي للصدوق ص446؛ الأمالي للطوسي: ص633؛ سنن لترمذي: ج5، ص330؛ المستدرك للحاكم: ج3، ص150 التاريخ الكبير للبخاري: ج1، ص183؛ تفسير ابن كثير: ج4، ص123؛ الآداب للبيهقي: ج2، ص23؛ الدر المنثور: ج6، ص7.
[9] الوصية الكبرى لابن تيمية: ص297؛ البحر الزخار: ج6، ص131، حديث 2175؛ القول القيم لابن القيم: ص12.
[10] المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج7، ص518؛ المعجم الكبير للطبراني: ج11، ص343؛ كنز العمال: ج12، ص41؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج26، 337؛ تاريخ المدينة لابن شبة النمري: ج2، ص640؛ رأس الإمام الحسين لابن تيمية: ص201؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج2، ص112؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج24، ص235.
[11] مسند أحمد: ج1، ص207؛ وج4، ص165؛ المناقب لمحمد بن سليمان الكوفي: ج2، ص122؛ سنن الترمذي: ج5، ص318؛ سنن ابن ماجة: ج1، ص50؛ فضائل الصحابة للنسائي، ص23؛ المستدرك للحاكم: ج3، ص333؛ المعجم الكبير للطبراني: ص285؛ تهذيب الخصائص للسيوطي: ص432؛ الشفا للقاضي عياض: ج2، ص48؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج1، ص92.
[12] مسائل علي بن جعفر: ص50؛ كامل الزيارات: ص117؛ أمالي الصدوق: ص299؛ مسند أحمد بن حنبل: ج1، ص78؛ سنن الترمذي: ج5، ص305؛ تحفة الأحوذي: ج1، ص163؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص167؛ المعجم الصغير للطبراني: ج2، ص70؛ المعجم الكبير للطبراني: ج3، ص50؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص210؛ كنز العمال للهندي: ج12، ص97؛ تاريخ مدينة دمشق: ج13، ص196؛ تهذيب الكمال للمزي: ج6، ص228؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج10، ص284؛ ذكر أخبار اصبهان للحافظ الأصبهاني: ج1، ص192.
إرسال تعليق