بقلم: الاستاذ الدكتورانطوان كرم
استاذ الادب الحديث في الجامعة
الامريكية وعميد كلية الآداب اللبنانية
((انما الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا)).
الا فليتبارك الموت الذي هو
اليقظة الكبرى او ليتبارك لانه سبيل الحياة التي لاحد لها.
واذا كان الموت سبيل الحياة،
فاننا لم نحتفل ذكرى، ولا استرجاع حداد على فواجع مصرع، وانما نحتفل بالحياة التي
انبثقت من الموت وبالبداية التي انطلقت من النهاية، لتنمو بوجود مكثف مستديم.
تتجسد الفكرة انساناً، ويزول
الانسان، وتعظم الفكرة بزواله، كأنها لم تتجمد إلاّ بموته او كأنها كانت في ارتقاب
خروجه من حدود المكان، وعبودية الزمان، لتكسر قيد المكان والزمان وتخرج من الشكل
الواحد لتكتسي الواحد في انعطافها العرف الاشكال.
فمن الامام الاول، كرم الله وجهه،
الى العاشر من محرم، في السنة الهجرية الستين مرحلة تنتهي في التاريخ ليبدأ بها
التأريخ ويينتهي الانسان لتحيا الفكرة. فتورق اغصانه وتتفرع، وتعمق جذورها
وتسترسخ، لتصبح شجرة حضارية قائمة بذاتها.
حتى اذا بلغت الفكرة منتهى مجالات
البعاد، عادت، فابدعت صاحبها ابداعاً جديداً وغدت رمزاً قدسياً، وهالة من جلال.
ولئن كان الوجود الحق مرهوناً
بمدى الاسهام الذي نسهمه في عمارة الحضارة، فحسبك أن يسقط من حصيلة التراث العربي
ما أسهم به اعلام الشيعة، ليهوى جناح عظيم من هذا البناء العتيد.
ولئن كان التاريخ تعبيراً عن
مرافق النشاط البشري في اعلى عطائه، فانظر كيف تعددت المرافق، وتجمهرت فنون
النشاط، وتلقح فيها السامي بالآري ليرتقي التراث الى مستواه الانساني الاشعل.
فاطلب الفكر بذلك ما كان من طبيعة
العقل عندهم، يعدى من المجمل ليستقضي التفاصيل ويتبع الظلال المكنونة وراء
التفاصيل: بالمنطق حيناً، والتأمل الروحي حيناً والعلوم الموضوعية حيناً آخر. حتى
تدرك الاصول بالاجتهاد المؤول ويستوي التأمل مستوياً بالفنوسطية، خصيباً بالتصوف،
مرتقباً الى النور العلوي الشعشعاني من جوهر الانسان الكامل او يغوص على اسرار
الطاقة الروحية في الانسان، فيعلل أسباب الوصال بين الراهن المتناهي، والغيـبـي
اللامتناهي. يستفسر الامانة والعصمة، ويفك اللغز من التخيير والتسيير، ما قدر
للعقل ان يقلب معاني الغيب. ثم ترى هذا العقل نفسه يصهر المعارف الانسانية كيفما
وقعت له، وبمنـزعه الموسوعي، يحدد منطلق الفلسفة في الاعلام، ويستوفي بناءها، فشق
من في العقيدة راسخ، وشق في المنطق الصارم فتتفتح القضايا مع الكندي، ويتكون
النظام مع الفارابي، ويكمل ابن سينا نهايات التحديد، والمعجم الفلسفي، ومسألة
الأزلية، وماهية النفس، أو قل هو التصوف يخلع عنه اثقال المادة، ويجاوز المتطور في
غبطة السكرات الروحية، مشاهدة واتصالاً وفناء. ثم يشد هذا الحلم السعيد الى قوالب العقل
ليصبح العقل بذاته مدرجة للتأمل والانخطاف، ويتلهى في تصيد المجردات، ويثب من
الطبيعة الى ما وراء الطبيعة.
او ترى هذا العقل يرتد عندهم الى
العلوم الموضوعية، فيستهلك ما استجمعت جهود المترجمين، ويبدأ من حيث انتهى
الاقدمون في الطب والكيمياء. في الرياضيات والعلوم الطبيعية. ويضيف الى التراث
المخزون، خلاصة ما اسهم به جابر بن حيان، والخوارزمي والرازي والبيروني.
وليس يستهويك ما ترك الاول من
مستحضرات ومحلولات، ومعادلة ما في الاجساد من طبائع. ولا خلف الثاني الحلول،
والارقام، والجبر والمقابلة، والازياج الفلكية وتجديد جغرافية بطليموس، ولا أن
يكون الثالث سيد من أسياد العقل وضجة في الطب القديم، ولا أن يكون الرابع قد وضع
قاعدة لقياس محيط الارض وحسب الوزن النوعي، وزن الجسم في الهواء والماء وضغط
السوائل وتوازنها، قد لا يستلفتك هذا كله لأنه أضحى من اوليات المعارف العلمية
المعاصرة، وانما يستهويك هذا الموقف العلمي الخلقي الركين الذي وقفوه من تحصيل
المعرفة، ودرك الحق حيث سلط العقل على الهوى، فذلك الهوى لتسلم الحجة، ويؤتمن
الحديد، وحيث يسلخ البيروني أربعين سنة من عمره في ارض الهند تكريساً للحقيقة التي
ينشد ثم ينقض كل حقيقة لم تصمد بالاختبار والتجربة، الى ان تكون التجربة أساس
المعرفة العلمية. وان شئت ديوان العرب، طالعتك من شعرائهم جمهرة، خيل معها اليك،
ان أرض الغنائية عند العرب قد ارتحب بهم على التدرج، حتى وسع الانشاد الكون. يقل
معه شظف الصحراء في شعر الفرزدق، فاذا طيبته نفحات من آل البيت شف، فرق ولان
وتداخل ديباجة العز المرتقب مع السيد الحميري، يخالطه حزن وانكسار، ويترصن حيناً
مع أبي نؤاس فيتحدى الجاهلية أم البلاغة، ويستهتر أحياناً حتى يستوقف الخفايا عن
لذائذه المركبة ويذوب الحضارة في الضاد بما حملت من خلاصات المعادلة الذهنية على
تمرد بلغ التحكم، وفاجع أقفل فارتد لهوا، وشك بنا فاستسلم للتوبة.
وفي عدادهم ابو تمام يثقل الشعر
برجحان الاستعارة الفلسفية، على أبهة الخلق الوعر، واختراع طلب النادر الأكمل،
فأسرف حتى تيتم. ولهم رواء السلسبيل من غير البحتري، يستقر لديه عمود الشعر.
ثم تزف ربة الشعر أبا الطيب
المتنبي، فيتعطر في قارورته اكسير من سبق ويجتني لها نضج الفلسفة الارسطية،
والمرارة الميتافيزيقية من أشواق الاسماعيلية وصبغ المتصوفة، ويتحول الفكر الى
قضايا وجود، والقضايا الى هبوط عاطفي، على ما في العاطفة من عتو، وفي الغرطوسة من
عطش الى المستحيل، وفي الانسان سبقته ذاته، فكلما ادركها شاءها في شوط أجد، علوة
أبعد، لتكون الحياة برمتها استباقاً يكون الموت من مظاهره.
وفيهم أبو العلاء المعري يرتد فيه
البصر لينشق بصائر، والعقل نور باحث في متاهة المجهول. يستكن أو يقترض، يستضيء
فيقبل، ولا يقر فيدحض، ما أن يستوقف اليقين حتى يرجرجه الشك، ويعصف به القلق المر،
تحت حكم القدر الذي لا يتزعزع ومن عبث اللغويين الى مغيبات ابن الفارج، وقد انطوى
في الجرم الصغير العالم الاكبر.
وان شئت كان لك ما نزعوا اليه من
تطور في مفاهيم السياسة، ومن تشوق الى الاصلاح في شؤون الاجتماع البشري.
اليس يسعدك أن تكون القيم على هذه
المؤسسة الكريمة، فيهم ايضاً ؟ ندى النفس جبل على معاني الخير مزاجه، وانـزنت
بالخلق السامي خطاه. يدرك حزورة المعلم فيلبيها ويبصر بتقدم العصر التقني فيندفع
في مضمار السبق، ويحول وجوده كانسان قضية مصلحة سعيدة، تكرس الهمة الشماء من
الصالح الامم، تحارب الشر بالمعرفة، وتقاوم العوز القاتم بضياء العلم المسوق الى
الخير الافضل.
الا فتبارك اليقظة الكبرى، وليتبارك
الحسين الذي هو حياة لا تحد.
إرسال تعليق