الصياغة وإظهارها لمقدرة الشاعر الأدبية

بقلم: د. علي حسين يوسف

صاغ الشيء صياغة إذا سبكه، وهذا شيء حسن الصيغة أي حسن العمل[1]، والصياغة في الشعر ترادف السبك، لأنَّ السبك أن ترتبط كلمات البيت بعضها ببعض[2]. وآيته سلامة السياق اللفظي، وخفته، وعذوبته في السمع[3]، وفي الصياغة تظهر مقدرة الشاعر الأدبية، فلا قيمة للمادة اللغوية قبل أن يركبها بطريقة " تعبر عن دلالات أشد توهجاً، لا يستطيع جزؤها المفرد التعبير عنها "[4].

وفي العمل الشعري يعمد الشاعر إلى عدد من الطرق والفنون والأساليب لصوغ أفكاره، وهذه الأساليب تتنوع " بتنوع أحاسيس الشاعر والهدف الذي يرمي إليه من إيثار هذا الأسلوب على غيره"[5]. ولا ضابط لحصرها وعدها لكثرتها ولذا فقد اقتصر الباحث على ما شاع استعماله من تلك الأساليب وشكل ظاهرة واضحة في مراثي هذه الحقبة بحيث لا يمكن التغاضي عنه , ومهما يكن من امر فان هذه الاساليب اما ان تكون اساليب تركيبية (كالاستفهام والامر والنداء والتقديم والتاخير والحذف) او بيانيه (تصويرية) كالتشبيه والاستعارة والمجاز , او اساليب بديعية يدخل عدد منها في الوظيفة الايقاعية كالاقتباس والتضمين والتكرار والجناس والترصيع والتصريع والتدوير وقد رتبت بحسب اهميتها في مراثي هذه الحقبة.

هذا التباين في أساليب الصياغة كان سمة واضحة في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، ويمكن تفسير ذلك في تباين أمزجة الشعراء، وطرق تعاملهم مع اللغة، وتباين درجة وعيهم، ومصادر ثقافتهم، فضلاً عن الهدف الذي ينشده كل شاعر منهم، لكن مع وجود ذلك التباين لوحظ أنَّ أسلوب الاستفهام كان حاضراً بشكل واضح أكثر من الأساليب التركيبية الأخرى.

وإذا كان الاستفهام في حقيقته السؤال عن شيء مجهول[6]، فإنَّ شعراء المراثي طالما أخرجوه عن معناه الأصلي إلى معانٍ تستفاد من السياق، فكان يعبر عن تجاربهم الشعورية، ويدل على معاني الذهول والتفجع.

ومما يؤيد ذلك أنَّ أكثر الأدوات المستعملة في مراثي الإمام: الهمزة التي تخرج إلى معنى التعظيم والتفجع[7]، فكان الأسلوب المصاغ منها يشير بوضوح إلى حزن الشاعر، ولاسيما وأنها قد تتكرر في القصيدة في أكثر من مرة[8].

ومما يشابه تكرار الهمزة؛ استعمال الشاعر أكثر من أداة استفهام في المرثية الواحدة، يقول محمد صالح بحر العلوم[9]: (من الطويل)

متى عرف التاريخ حقاً بلا دمٍٍ *** يُصانُ؟ ومجداً بالدموع يشيَّدُ
وأين الذي يصغي لدعوى بلايدٍ *** تطالب فيها، أو نضالٍ يؤيدُ
وهل أنَّ سداً عائقاً لمسيرةٍ *** يزولُ بلا ضربٍ عليهِ يُسددُ
وكيف يفوز الحقُّ في سحق باطلٍ *** إذا لم يكن للحق حزبٌ مجندُ

إنَّ هذا التنوع في أسلوب الاستفهام يشير إلى تقرير ما يستفهم عنه، أكثر من إشارته إلى الاستخبار، وقد نبَّه ابن وهب على ذلك الأمر حينما قال: " من الاستفهام ما يكون سؤالاً عما لا تعلمه لتعلمه، فيخص باسم الاستفهام، ومنه ما يكون سؤالاً عما تعلمه ليقر لك به فيسمى تقريراً "[10].

ويأتي أسلوب الأمر بعد أسلوب الاستفهام بوفرة ملحوظة، وغاية الأمر " طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام"[11]، وبما أنَّ هذا المعنى لا يليق في موضع مخاطبة الإمام الحسين (عليه السلام)، لذا فإنَّ الشعراء لجأوا إلى إخراج الأمر إلى معنى الدعاء[12] في هذا الموضع، ولاسيما في خواتيم المراثي التي غالباً ما تخصص لطلب الشفاعة من الحسين، يقول عبد القادر رشيد الناصري[13]: (من الخفيف)

يا ابن رب البيان كن لي شفيعاً *** يوم لا شافع سواكم ومطلبْ
واذكرَنّي لدى إلهك إن جئـ *** ـت ومن حوله التسابيح تسكبْ

واستعمل الشعراء صيغة الأمر لمناجاة الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد تكرر ليدل على نوع من التوحد بين الشاعر والإمام، بطريقة تشبه طرق المتصوفة، من ذلك قول محمد جمال الهاشمي[14]: (من الطويل)

أعنّي بوحيٍ منك إن خانني الشعرُ *** وهيهات أن يسمو إلى سرِّك الفكرُ
..............
أعنّي عسى أن ألمس السرَّ، فالحجى *** تعصى عليهِ الرأي والتبس الأمرُ

ثمَّ يكرر الشاعر الفعل (أعدها)، فيقول[15]:

أعدها على الجيل الجديد رسالةً *** تشع على الإيمان آياتها الغرُّ
أعدها على دنيا الزوابع نسمة *** ترقرق فيها الحُبُّ وانتشر العطرُ
أعدها أعدها نغمةً سرمديَّةً *** تجمَّد منها البحر وانفلق الصخرُ
أعدها دماء يسكر المجد لونها *** أعدها إباء باسمه يهتف الفخرُ

إنَّ تكرار فعل الأمر (أعدها) على لسان الشاعر مخاطباً الإمام الحسين، دلَّ على أنَّ الأمر هنا ليس حقيقياً، وذلك لتفاوت منزلتي المخاطِب والمخاطَب، مما جعل النفس الصوفي يظهر في هذه الأبيات في ثنايا الجرأة في مخاطبة الإمام الحسين (عليه السلام) التي تشبه ما اعتاد عليه المتصوفة في أثناء مناجاتهم لله، في ساعات الوجد والاتصال بالخالق عز وجل[16].

وقد يستعمل الأمر على حقيقته، ولاسيما في مواضع مخاطبة الصحب، وإبداء الرأي، والنصيحة، والموعظة في مقدمات المراثي[17].

وقد يكرر الشاعر أكثر من فعل أمر في مواضع المحاججة ومحاولة إفحام الخصم، ويقول السياب[18] موجهاً خطابه إلى يزيد بن معاوية: (من الكامل):

ارمِ السماء بنظرة استهزاء *** واجعل شرابك من دم الأشلاءِ
واسحق بظلك كل عرضٍ ناصع *** وابح لنعلك أعظم الضعفاءِ
واملأ سراجك ان تقضى زيته *** مما تدر نواضب الأنداءِ
واخلع عليه كما تشاء ذبالةً *** هدب الرضيع وحلمة العذراءِ
واسدر بغيك يا يزيد فقد ثوى *** عنك الحسين ممزق الأشلاءِ
قم واسمع اسمك وهو يغدو سبَّةً *** وانظر لمجدك وهو محض هباءِ

أفادت صيغ الأمر – في الأبيات السابقة – معنى الإهانة، وهو أحد المعاني التي يخرج إليها الأمر[19]، والمعنى الظاهر من الأبيات هو العتاب واللوم والتوبيخ، وهذا يشبه قوله تعالى: ((كونوا حِجَارَةً أو حَدِيْدَاً)) [ الإسراء: 50 ] .

ويأتي النداء بعد أسلوب الأمر، والغالب أنَّه استعمل في معاني التوجع والتحسر، وأكثر أدواته استعمالاً في مراثي هذه الحقبة الهمزة، وغالباً ما تتكرر في أكثر من بيت[20] في المرثية الواحدة، في إشارة إلى إحساس الشاعر بقربه من المنادى، وإلى البحث عن الأمان النفسي الذي ينشده الشاعر في حضرة الإمام الحسين (عليه السلام).

وتأتي بعد الهمزة الأداة (يا) التي غالباً ما تستعمل لنداء البعيد[21]، لكنها قد تستعمل لنداء القريب في " إشارة إلى علو مرتبته، فيجعل بعد المنزلة، كأنه بعد في المكان... وأنت معه على أنَّ المنادى عظيم القدر، رفيع الشأن"[22]، كقول محمد مهدي الجواهري[23]: (من المتقارب)

فيا بن البتول وحسبي بها *** ضماناً على كل ما أدعي
ويا ابن التي لم يضع مثلها *** كمثلك حملاً ولم ترضعِ
ويا ابن البطين بلا بطنة *** ويا ابن الفتى الحاسر الأنزع
ويا غصن هاشم لم ينفتحْ *** بأزهر منك ولم يفرع
ويا واصلاً من نشيد الخلود *** ختام القصيدة بالمطلع
يسير الورى بركاب الزما *** نِ من مستقيم ومن أظلعِ
وأنت تُسيِّرُ ركب الخلو *** دِ ما تستجد له يتبعِ

ومما يدخل في الصياغة أسلوب التقديم والتأخير، وهو من الظواهر التركيبية التي يلجأ إليها الشعراء لتأكيد أهمية المقدم، أو تعظيمه، أو تنبيه السامع إلى علو منزلته، كما في قول محسن أبي الحب[24]: (من البسيط)

لكربلا تربةٌ طابتْ وقد طهرتْ *** فيها الشفاءُ منَ الأسقامِ والعللِ

فقد قدَّم الشاعر شبه الجملة (لكربلاء) لسمو وشرف موضعها، ولاسيما وهي تحتضن بين جنباتها جسد أبي الأحرار، وكان ذلك التقديم منسجمًا مع ما قدَّمه الشاعر في بداية الشطر الثاني، كأنَّما جعله علَّة لما قدمه أولاً، مما انعكس على سبك البيت، وتلاحم أجزائه.

وقد تقدم الصفة على صاحبها، لتحقيق معنى الذم، كقول عبد الحسين الحويزي[25]: (من الوافر)

عوتْ مثلَ الذئابِ عتاةُ حربٍ *** وقد زأرت لبيت الوحي أُسْدُ

فقد قدَّم الشاعر الحال (مثل الذئاب) للإشارة إلى صفة الغدر في نفوس أعداء الإمام، وقد أكَّد الشاعر هذا المعنى في المقابلات بين (عوت وزأرت)، و(الذئاب والأسد)، و (عتاة وبيت الوحي) ولاسيما وأنَّ الشاعر غلَّب الطرف الثاني على الأول، واستعمل الاستعارة مع أهل البيت، والتشبيه مع الأعداء، والاستعارة أرفع من التشبيه، والتقديم والتأخير يستتبع الحالة النفسية للشاعر، حينما يكون بين حال الرغبة في تقديم ما ينسجم مع ما يريده، ويريح ضميره، وحال النفور مما لا يرغب في تأكيده، فيضع كل واحد في موضعه تبعاً لحاله، وحال المتلقي.

ومن الأساليب التركيبية التي كثر استعمالها في مراثي الإمام الحسين الحذف، وهو باب من أبواب الإيجاز، يعمد إليه المتكلم للمحافظة على نشاط المتلقي، وإبعاد الملل عنه[26]، وقد عدَّه ابن جني من شجاعة العربية[27] لأهميته في تحسين الكلام، وهو على أنواع كثيرة[28]، يشترك فيها كلها وجود القرينة التي تعين المحذوف[29]، لفسح المجال أمام المتلقي لتخيله واحتماله[30]. قال الجواهري[31]: (من المتقارب):

فداءُ لمثواك من مضجعِ *** تنوَّر بالأبلج الأروعِ

فقد يحتمل المتلقي أكثر من معنى لما حذفه الشاعر في بداية البيت مما يضعه في حال من الانشغال والتفكر المستعذب، وهذه الإمكانات الاحتمالية للمحذوف زادت البيت جمالاً وغزارة في المعنى، ولاسيما وأنَّ المتلقي على علم بشرف المفدَّى.
ومن الحذف ما جاء في قول محمد حسن أبي المحاسن[32]: (من الطويل)

صريعاً يفدّى بالنفوس وسيفهُ *** كَسيرٌ تفدّيهِ السيوفُ الرهائفُ

فقد حذف الشاعر الفعل والفاعل، وأبقى على الصفة في إشارة إلى حسن العاقبة التي صار إليها الإمام الحسين (عليه السلام)، ولاسيما وأن الشاعر عضَّد الحال بالصورة المعبرة (يفدّى بالنفوس) في إشارة إلى منزلة الإمام في قلوب المسلمين، وكأنَّ الشاعر حينما حذف الفعل والفاعل قد دلَّ على تلهفه لإظهار جزعه على مصاب الإمام.

ومما يدخل في الصياغة، أساليب بناء الصورة الفنية باستعمال الفنون البيانية كالتشبيه والاستعارة والمجاز او بعدم استعمال تلك الفنون كما هو الحال في الصورة التقريرية، ولأهمية اساليب التصوير، فقد أفرد موضوعها مستقلاً في الصفحات القادمة.

ــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: لسان العرب: 4 / 2527.
[2] ينظر: البديع في نقد الشعر: 163.
[3] ينظر: المعجم المفصل في اللغة والأدب: 2 / 708.
[4] لغة الشعر الحديث في العراق: 181.
[5] لغة شعر ديوان الهذليين (رسالة ماجستير): 83.
[6] ينظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 1 / 181.
[7] ينظر: م. ن: 1 / 189.
[8] ينظر: ديوان بحر العلوم: 2 / 121، وأدب الطف: 10 / 46.
[9] ديوان بحر العلوم: 2 / 122.
[10] البرهان في وجوه البيان: 113.
[11] معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 1 / 133.
[12] ينظر: بلاغة التركيب: 210.
[13] ديوان الناصري: 2 / 146.
[14] مع النبي وآله: 190.
[15] مع النبي وآله: 190.
[16] ينظر: الشعر الصوفي: 178.
[17] ينظر: أزهار الريف: 56، وديوان الحاج عبد الحسين الأزري: 399.
[18] أزهار ذابلة وقصائد مجهولة: 88.
[19] ينظر: جواهر البلاغة: 66.
[20] ينظر: أزهار الريف: 67 – 68.
[21] ينظر: أصداء الحياة: 94.
[22] جواهر البلاغة: 88.
[23] ديوان الجواهري: 3 / 234 – 235.
[24] ديوان أبي الحب: 143.
[25] ديوان الحويزي: 2 / 85.
[26] ينظر: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: 127.
[27] ينظر: الخصائص: 2 / 362.
[28] ينظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 1 / 351.
[29] ينظر: م. ن: 1 / 351 – 360.
[30] ينظر: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: 131.
[31] ديوان الجواهري: 3 / 233.
[32] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 141.

إرسال تعليق