أساليب التصوير الفني في القصيدة الحسينية التصوير الحسي أنموذجا

بقلم: د. علي حسين يوسف

يعد التصوير الحسي من أبسط فنون التصوير، وأقربها إلى بيئة الشاعر، ولاسيما وأنه يعتمد اعتماداً أساسياً على التشبيه الذي يقوم بدوره على الموازنة بين أمرين[1]، يحاول الشاعر استمدادهما من واقعه بوساطة حواسه، مما يضفي على الصيغ الشعرية شكلاً من الصنعة الفنية، يقول عبد القاهر الجرجاني: " إنَّ لتصور الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلته واجتلابه إليه من النيق (المكان) البعيد باباً آخر من الظرف واللطف، ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه من العقل "[2].

ولعلَّ من أهم فنون التصوير الحسي في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) تلك الصور التي اعتمدت على حاسة البصر، يقول محمد حسن أبو المحاسن[3]: (من البسيط)
 
دريئةٌ لسهام القوم مهجتُه *** كأنَّه غرضٌ يرمى ويرتشقُ

فقد جعل الشاعر المفردة (غرض = المشبه به) نكرة في إشارة إلى استخفاف القوم بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجمع بذلك الحزن بالغضب، مما جعل الطابع الانفعالي في الصورة واضحاً، من خلال تأمل المتلقي لتلك السهام، وهي تنطلق نحو جسد الإمام (عليه السلام).


وقد حاول الشعراء توظيف خيالهم في صياغة صور بصرية جديدة، معبرة عمّا في أذهانهم من معانٍ وانفعالات، ومنسجمة مع تجدد الذكرى الحسينية، قال الشاعر إبراهيم الوائلي[4]: (من الكامل)
 
يا يومَ وقعةِ كربلاء كفى أسىً *** الاّ يطاقُ تصبّر وتجلدُ
ودم الحسين الطهر كل عشية *** شفق بآفاق السماء مجسَّدُ

من خلال الاعتماد على التشبيه المؤكد – وهو ما حذفت منه أداة التشبيه[5] – (دم الحسين شفقٌ) حاول الشاعر رسم صورة بصرية موحية برفض الخنوع والاستسلام من خلال تشبيه دماء الحسين بالشفق في إشارة إلى خلود مبادئ الثورة الحسينية، المعبرة عن قيم البطولة والتحدي، وقد يستوحي الشاعر صورته من الموروث الشعري، لكنه يضع لمساته المعاصرة عليه لتعبر عن المعنى الذي يبتغيه، كقول عبد الحسين الحويزي[6]: (من الكامل)

وبسدفةِ النقع المثار تخاله *** بدراً تحفُّ به نجومُ سماءِ
قد ذكَّر الأعداء بدرُ جبينهِ *** بدراً فهاجتْ في لظى البغضاءِ

فالتشبيه بالبدر والشمس مألوف في الشعر العربي القديم، ومما هو قريب من صورة الحويزي بيت النابغة المشهور في مدح النعمان[7]: (من الطويل)

فإنَّك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ

لقد اكتسبت صورة الحويزي أهميتها، حينما وظف الشاعر الجناس التام في البيت الثاني في اللفظة (بدر) وما أفادته من معنيين مختلفين منحا الصورة بعداً جمالياً من خلال دلالة الأول على نورانيَّة الإمام الحسين (عليه السلام) بوصفه امتداداً طبيعياً لفيوضات النور المحمدي، ودلالة الثاني على الامتداد الأخلاقي لطرفي معركة ألطف إلى ما يماثلهما في معركة بدر.


وقد ارتفع شعراء المراثي الحسينية بالتصوير الحسي إلى درجات من التأثير ربما لا نجد ما يماثلها في الصور التقليدية، كقول محمد حسن أبي المحاسن[8]: (من الطويل)
 
وحفّت به سمرُ القنا فكأنَّهُ *** لدى الحرب عينٌ والرماحُ لها هدبُ

إنَّ جدَّة الصورة وطرافتها تكمن في دقَّة تعبيرها للموقف المؤثر الذي صار إليه الحسين بعد مقتل أصحابه، فجاءت لفظة (عين) معبرة عن منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) من جهة، وعلى قسوة أعدائه من جهة أخرى، مما جعل الصورة لوحة فنية تعلق في ذهن المتلقي.


وقد اعتمد الشعراء في صورهم الحسية – البصرية – على قرائن لفظية مثل (بدا، رأى، لمع، طار، مرَّ، أسرع)[9].

ومن أنواع التصوير الحسي في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) الصور السمعية، لما لحاسة السمع من " قوة في التقاط الأصوات المتمثلة بالألفاظ عند نطقها لتكوين الصورة السمعية، فضلاً عن الحركة التي توحي بها الصورة، ونحس بها منتشرة في مفاصل الشعر... "[10].

لذلك فقد تكون الصورة السمعية أكثر تأثيراً من غيرها في المتلقي لما توحي به من أفعال وحركات.

يقول إبراهيم حموزي[11]: (من الخفيف)
 
فأتاهُ من العدى سهمُ حتفٍ *** ليته شقَّ مهجتي وجناني
وانتحى قلبهُ فرنَّ صداهُ *** في حشى الدينِ صرَّة الآذانِ

الصورة في قول الشاعر (رنَّ صداه) اكتسبت فاعليتها التأثيرية مما يحدثه رنين الأجسام من صرير في الآذان، ولاسيما وأنَّ الشاعر عقد الصلة بين الصدى المتمثل في الطبيعة، ومجاله هنا المتمثل في (حشى الدين) في إشارة إلى عظم وقع المصاب، وشدة هوله.


وأكثر الشعراء من الصور السمعية في معرض وصف شجاعة الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه في إشارة إلى شدَّة بأسهم وصلابة موقفهم، وهم يذودون عن ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من ذلك ما جاء في مرثية السيد رضا الموسوي الهندي[12]: (من الكامل)
 
يتمايلون كأنَّما غنَّى لهم *** وقع الظبى وسقاهم أكوابا
برقت سيوفهم فأمطرت الطلى *** بدمائها والنقع ثار سحابا
وكأنَّهم مستقبلون كواعباً *** مستقبلين أسنَّة وكعابا

إنَّ الصورة السمعية في قول الشاعر (غنى لهم وقع الظبى) وضعت الأساس لسلسلة من المعاني التي وظفت لوصف شجاعة أصحاب الحسين (عليه السلام) بلغت أشد دلالاتها حينما صوَّرت أولئك الأبطال وهم مستأنسون لصليل السيوف وكأنَّه غناءٌ، والمنايا كأنَّها كواعب حسان.


ومن التصوير الحسي، الصور التي تعتمد على حاسة اللمس، لكنه كان أقل حضوراً في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، ومنه ما جاء في مرثية عبد القادر رشيد الناصري[13]: (من الخفيف)
 
ولدته الزهراء كالكوكب الفـ *** ـذّ بهي الشعاع أزهر أشهبْ
بين كفيه رايةٌ لنبيٍّ *** لمَّ من قومه الشتاتَ وقرَّبْ

جمعت الصورة (لم من قومه الشتات وقرَّبْ) أهم المقومات الرسالية التي توفرت في الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي من أهمها أنَّ ثورته كانت محاولة لتصحيح الانحراف الذي أصاب الواقع الإسلامي جرّاء السياسات الخاطئة لبني أمية.


ـــــــــــــ
[1] ينظر: نقد الشعر: 124، وكتاب الصناعتين: 261.
[2] أسرار البلاغة: 108 – 109.
[3] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 148.
[4] ديوان الوائلي: 1 / 154.
[5] ينظر: جواهر البلاغة: 234.
[6] ديوان الحويزي: 1 / 14.
[7] ينظر: ديوان النابغة الذبياني: 78.
[8] ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 6.
[9] ينظر: ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 3 / 534، وديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 42، وديوان الحاج عبد الحسين الأزري: 340، ,أدب الطف: 10 / 57.
[10] الصورة السمعية في الشعر العربي الجاهلي: 154.
[11] أدب الطف: 10 / 29.
[12] ديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 42.
[13] ديوان الناصري: 2 / 144.

إرسال تعليق