بقلم: عدي جواد علي الحجار
المجمل في اللغة ما يتناول الجملة، وقيل المجمل ما يتناول جملة الأشياء أو ينبئ عن الشيء على وجه الجملة من دون البيان والتفصيل، فهو ما لا يفهم المراد به إلا بغيره([1]), فهو اسم لما يكون معناه مشتبهاً وغير ظاهر فيه, والمبين اسم لما يكون معناه واضحاً وغير مشتبه، فالمجمل: ما لم تتضح دلالته وهو ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده إذا كان لفظاً وما جهل فيه مراد المخاطِب ومقصوده, ومرجع ذلك إلى أن المجمل هو اللفظ الذي لا ظاهر له، ويقابله المبين وهو ما كان له ظاهر يدل على مقصود قائله على وجه الظن الراجح أو اليقين([2]).
وبعبارة أخرى: إن المجمل ذلك التعبير الذي يُترك على عواهنه من دون إيضاح, فإذا وضّح وبُيِّن وأُتبِع بما يرفع إبهامه سمي المُبَيَّن, فالمجمل هو التعبير الذي يحتاج إلى إيضاح وبيان لرفع الإبهام, فقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ([3]).
يتحدث عن نزول القرآن في شهر رمضان, على الإجمال.
وجاء قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}([4]).
فبينت أن إنزال القرآن في شهر رمضان, كان في ليلة مباركة من ذلك الشهر العظيم, وسكتت الآية هنا عن تعيين تلك الليلة, وجاء قوله تعالى: {اِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ([5]).
فبينت تلك الليلة, فالقرآن أنزل في شهر رمضان على الإجمال, وفي ليلة مباركة, على إجمال أوضح, وفي ليلة القدر التي بيين أن فيها نزل القرآن العظيم([6]).
والمجمل منه ما جاء بيانه في السورة نفسها, ومنه من ابتعد عنه بيانه في سورة أخرى, ومنه ما جاء بيانه من السنة الشريفة, لما تقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة ولم يذكر ذلك على وجه التفصيل ومن تلك المصالح إفادة الإعمام, ليذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور, ليكون بيانه موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وذلك مصداقٌ لقول الحق سبحانه: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ([7]).
فأمرهم مثلاً بالصلاة والزكاة على طريق الإجمال وليكون بيانه بعد التشوق والتشوف إليه لأنه يكون ألذ للنفس وأشرف عندها وأقوى لحفظها وذكرها وأرعى لمقام الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك قوله جلّ وعلا: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الوُسطى} ([8]).
وقد شغلت مسألة تعيين الصلاة الوسطى حيّزاً من جهد المفسرين وكتبهم, حتى امتلأت بتنوع الأقوال ومستنداتها, وهذا أيضاً من المصالح التي ترتبت على هذا الإجمال، لما فيه من الدواعي للتأمل في مدى الاهتمام بأمر الصلاة من المولى سبحانه، ومن العبد تبعاً لذلك، وهكذا فتعرضوا لتقصي بيان إجمال الآية من ناحية أن لفظ الوسطى يحتمل أن يكون بمعنى الفضلى أو بين صلاتين أو غيره, فهل هي الظهر أو العصر أو المغرب أو غير ذلك مما ذكروه([9]), فمن ذلك, قولهم أنها:
1 - صلاة الجماعة([10]).
2 - صلاة الصبح([11]).
3 - صلاة الظهر([12]).
4 - صلاة العصر([13]).
5 - صلاة المغرب([14]).
6 - صلاة العشاء الآخرة([15]).
7 - صلاة الجمعة([16]).
8 - صلاة الصبح والعصر معاً([17]).
9 - صلاة العتمة والصبح([18]).
10 - الصلوات الخمس بجملتها([19]).
11 - صلاة الضحى وهي التي (حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم) ([20]).
12 - أنها مخفية بين الصلوات وغير معينة, ليجتهد الناس في المحافظة على جميع الصلوات, وذلك كإخفاء اسمه تعالى الأعظم, وليلة القدر بين عدة ليالٍ, وساعة الاستجابة بين ساعات الجمعة([21]).
وهذا التنوع في التفسير مما أسهم فيه الإجمال بنحو كبير, يراه المتتبع لكتب التفاسير مترافقاً مع اختلاف المدارك التفسيرية عقلية ونقلية والتي عوّل عليها المفسرون في فهم النص, فكانت اختلافات النقول عن الصحابة من أحاديث شريفة في مقام بيان إجمال الآية, ومن تفسيرات الصحابة أنفسهم لها أثر كبير في اختلاف الفهوم لدى من تبعهم من المفسرين, حتى نقل عن سعيد بن المسيب قوله: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هكذا في الاختلاف، وشبك من أصابعه)([22]).
وهذا الاختلاف فسح مجالاً لذهنية المفسر في النظر إلى لحاظات التوسط بين الصلوات من حيث الليل أو النهار أو من حيث التقدم في تشريع الظهر أولاً أو النظر إلى ما يترتب على الإخفاء من المصلحة أو الإفادة من أحاديث متفرقة ومعالجتها لما ينفع في مقام البيان لهذا الإجمال, إلى غير ذلك من التأملات والحراك الفكري.
بيد أن هذا الإجمال نوع من بين أنواع عديدة منه, فمنها ما كان مبينه في القرآن الكريم مع اختلافه في البعد والقرب, ومنها ما كان بيانه من السنة الشريفة, ومنها ما يرجع في بيانه إلى اللغة, ومنها ما يفهم من سياق المجمل أو مبينه, ومنها ما يتعدد بيانه, إلى غير ذلك مما يفسح المجال أمام الفكر للتنقيب عن معان ودلالات يحتملها النص.
وبعد هذه الجولة في أثر المباحث القرآنية في تنوع الفهم التفسيري لدى علماء التفسير, يودّ البحث أن يشير مرة أخرى إلى حسن هذا التنوع ما دام ملتزماً بالضوابط والأسس التفسيرية للنص القرآني والتي سيعرض البحث أهمها في الفصول اللاحقة.
فالقرآن كنز لا تنفد خزائنه ولا تنقضي عجائبه فهو كلام الله تعالى أنزله ليبقى مناراً للإنسانية ما شاء تعالى أن تبقى, فحمل من العلوم التي لا غنى للإنسان عنها على هذا المدى, وما التفسير إلا باب بل نافذة بل كوة يُطلع منها على يسير مما احتمل هذا القرآن بحسب قابلية عين ذلك المطلع, فعن أمير المؤمنين وأعلم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم, قوله: «لو شئت أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت»([23]), لذا كل ما كان الإنسان أقرب للكمال, كان أعرف في معاني هذا المقال فإنه من الله عزّ وجل.
فالإنسان ما يزال على مدى الأزمان يكتشف المزيد في باب التفسير, مما يدلل على أن هذا القرآن لم يزل حياً على مرّ العصور، فإن أغواره ما تزال تحتضن المزيد من المعاني والأسرار، التي يرى هذا الإنسان أنه عاجز عن الوصول إلى غاية مداها. بل بات جلياً أن الإنسان كلما ثوّر القرآن، فإنه يجده جديداً عليه في معانيه ومراميه، فكيف بالمفسرين؟! الذين ما زالوا كلما اجتهدوا في استجلاء مرامي ذلك النص، فيطلعون على معنى جديد للآيات القرآنية فكلما ترقت البشرية في مدراكها ومعارفها، كلما كانت أقدر على اكتشاف معاني القرآن، واستشراف مراد خطاب الباري جلّ وعلا فيه, فعن علي أمير المؤمنين عليه السلام , أنه قال في بيان جملة مما حمل القرآن الكريم بأن «فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة, وحكم ما بينكم, وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون»([24]).
وهذه السعة في ما اشتمل القرآن الكريم من المعاني فتحت باب التنوع التفسيري بحسب القابليات والفهوم, وما أتى به البحث من الشواهد ما هو إلا إشارة إلى ذلك التنوع غير المتنافي.
ــــــــــــــــ
[1] -ينظر:الجوهري-الصحاح:5/1790-1791وأبوهلال العسكري-الفروق اللغوية/129-130.
[2]-ينظر: الطوسي- التبيان:8/249 والراوندي-فقه القرآن:1/7 و320 وج2/82 والزركشي-البرهان: 2/183 والسيوطي- الإتقان:2/10 و49-54 والآلوسي- تفسير الآلوسي:1/ 247 وج2/127 وج4/ 190-193وعبد الرحمن السعدي- تيسير الكريم الرحمن:34 والشنقيطي- أضواء البيان:5/184.
[3] -البقرة:185.
[4] -الدخان:3.
[5] -القدر:1.
[6] -ينظر: محمد حسين علي الصغير- محاضرات علوم القرآن على طلبة الدراسات العليا-2006م.
[7]- سورة الحشر: 7.
[8]- سورة البقرة: 238-239.
[9]- الطبري: جامع البيان 2 /750 والنحاس: معاني القرآن 1 /239 والشريف المرتضى: رسائل المرتضى 1/275 والشيخ الطوسي: التبيان 2 / 276 والقطب الراوندي: فقه القرآن 1/113- 140 والقرطبي: تفسير القرطبي 3 /209.
[10]- ينظر:الطوسي-التبيان: 2/276.
[11]- ينظر:الشافعي-أحكام القرآن: 1/59.
[12]- ينظر: العياشي -تفسير العياشي:1/ 127.
[13]- ينظر:القمي-تفسير القمي: 1/79.
[14]- ينظر:ابن أبي حاتم الرازي-تفسير ابن أبي حاتم: 2/448.
[15]- ينظر:ابن عطية الأندلسي-المحرر الوجيز: 1/323.
[16]- ينظر:الطبرسي-مجمع البيان: 2/127.
[17]- ينظر:الرازي-تفسير الرازي: 6/161.
[18]- ينظر:أبو حيان الأندلسي-تفسير أبي حيان: 2/250.
[19]- ينظر:ابن عطية الأندلسي-المحرر الوجيز: 1/323.
[20]- الطبري: جامع البيان 2 /769.
[21]- ينظر:ابن عربي-أحكام القرآن: 1/299.
[22]- الثعلبي -تفسير الثعلبي: 2 /195.
[23]-السيوطي-الإتقان: 2/490.
[24]- الكليني-الكافي: 1/61.
إرسال تعليق