علم القراءات وأثره في تفسير القران الكريم

بقلم : الدكتور عدي جواد علي الحجار


أهمية علم القراءات

علم القراءات من أشرف العلوم الشرعية، لارتباطه بكتاب الله تعالى من حيث معرفة وجوه القراءة ونسبتها، وضبط الرسم تشكيلاً ونقطاً، وصيانة اللفظ قراءةً ونُطقاً, للوقوف على المعاني, للاستفادة منها علماً وعملاً, في معرفة التفسير وبيان الحكم الشرعي وما ينتظم من المعاني التي تدخل في كل جوانب دنيا الإنسان وأخراه.


ما هو علم القراءات

علمٌ يعرف به كيفية أداء كلمات القرآن, وطريق أدائها اتفاقاً واختلافاً مع نسبة كل وجه منها لناقله. ومن الجدير بالذكر «أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيان والإعجاز, والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كَتْبَةِ الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما»( الزركشي: البرهان 1 /318).


اثر تعدد القراءات في استنتاج أكثر من تفسير

دأب المفسرون على ذكر القراءات ووجوهها وحججها ليقفوا على تفسير تلك الآيات, إذ لم يزل العلماء يستنبطون من كل حرف يقرأ به قارئ معنى لا يوجد في قراءة الآخر, فإنه قد ترد قراءتان مختلفتان في الآية الواحدة, ينتج عنهما تفسيران, كالاختلاف في قراءة "سكرت" من قوله تعالى: >لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ<( سورة الحجر:15).

فقد «قرئ سكرت بالتشديد والتخفيف ويحتمل أن يكون مشتقاً من السكر, فيكون معناه أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته, أو من السكر وهو السد, فيكون معناه منعت أبصارنا من النظر»( التسهيل لعلوم التنزيل:2 / 144 – 145).

وقد أسهب ابن جرير الطبري (ت310هـ) في نسبة القراءتين وتفصيلات معانيها, ومن ذلك قوله: «واختلفت القراء في قراءة قوله: "سكرت" فقرأ أهل المدينة والعراق: سكرت بتشديد الكاف، بمعنى: غشيت وغطيت، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه. وذكر عن مجاهد أنه كان يقرأ: لقالوا إنما سكرت. حدثني بذلك الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدث عن حمزة، عن شبل، عن مجاهد أنه قرأها: سكرت أبصارنا خفيفة. وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى: حبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح، وذلك سكونها وركودها، يقال منه: سكرت الريح: إذا سكنت وركدت.

وقد حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه: قد غشى أبصارنا السكر»( جامع البيان: 14/17), إلا أنه اختار قراءة التشديد ولم يجوز القراءة بغيرها لادعائه الإجماع عليها(المصدر نفسه: 14/19).

ومن أجاز القراءة بالتخفيف فحجته أن (وجه التخفيف أن هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفف)( الطوسي - التبيان:6 / 322).

فورود هاتين القراءتين أفاد تعدداً في المعنى, فلفظ "سكر" بالتشديد يعطي معنى السد والحبس, وبالتخفيف يعطي معنى التغطية والغشاوة(الجوهري- الصحاح:2 / 687). والملاحظ أن هاتين القراءتين وإن افترقتا في المعنى إلا أنهما يصبّان في واد واحد, وهو إنكار الكفار للحقيقة الجلية, تذرعاً بدعوى صرفهم عما يدعون أنه حقيقة, لشدة عنادٍ تحملهم على التشكيك في المشاهدات وجحدها, وإنكار المعلومات ورفضها(مجمع البيان:1/297). فلم يترتب على تعدد الفهم جراء القراءتين خلاف عقائدي أو فقهي أو غيره, بل هو نافع في مقام وصم الكفار بهذه الأوصاف.


أثر تعدد القراءت في استنتاج الحكم الشرعي

أما تغاير القراءتين الذي ترتب عليه تعدد في الفهم وابتنى عليه خلاف في الحكم الشرعي فمثاله القراءتين الواردتين في قوله تعالى: > تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا < (سورة النساء: 43).

إذ اختلف القراء في قراءة قوله تعالى: "أو لامستم النساء".

فقرئت "لامستم" بإثبات الألف, وهي مقصورة على معنى واحد, وهو الجماع, سواء كان من باب المشاركة,أم الفاعل الواحد(مجمع البيان: 3/90), وهي من الكناية البليغة.

وقرئت "لمستم" وهي صريحة في اللمس باليد خاصة(التبيان: 3/205).

فعلى القراءة الأولى تدل على الجماع, وعلى الثانية تدل على اللمس باليد, ولمّا قامت القرائن على إرادة المعنى الكنائي وهو الجماع انصرفت إليه.

وقد تؤخذ القراءتان على الوجهين, وعليه يفصّل في الحكم, فيكون الوضوء على من مس باليد, والغسل على من لامس بالمعنى الكنائي وهو الوطء, وتكون القراءتان بمنزلة آيتين مستقلتين, ولاسيما إذا كان الاختلاف من جهة المادة، أو من جهة الهيئة التي تفيد تغير المعنى, «إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجازاً, ولا كناية صريحاً, في حال واحدة، ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة»( أحكام القرآن:2 /467).

ومن أفاد من القراءتين معنى الوطء بالدلالة الصريحة أو الكنائية فيرتب عليه وجوب الغسل, «فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما»( جامع البيان: 5 /151 – 152), واختلف الفقهاء(الأم: 1 /29 -31 ) في ذلك تبعاً لهاتين القراءتين في الحكم, إلا أن الترجيح بجانب المعنى الكنائي إذ أن «المراد بالمس الجماع إلا أن الله تعالى حَييٌّ يكنى بالحسن عن القبيح كما كنى بالمس عن الجماع وهو نظير قوله تعالى: > وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ < ( سورة البقرة: 237).

والمراد الجماع»( المبسوط:1/ 68), وبقرينة ما روي (مسند أحمد: 6/62) في هذه المسألة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وحبر الأمة ابن عباس, وزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة, وعدم منافاته مع المعنى اللغوي(العين:7 / 208 - 209و268). ولهذا أولى المفسرون(جامع البيان: 5/ 151) هاتين القراءتين عنايةً لبيان نسبتيهما والحجة فيهما.


سبب وقوع الاختلاف في القراءات

بقي أن يذكر أن من الأسباب التي أسهمت في اختلاف القراءات هو أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من أخذ عنه أهل تلك الجهة قراءتهم, وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل, فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما يخالف الخط, ثم نشأ الاختلاف بين قرّاء الأمصار(فتح الباري:9/ 28), فكان للخط المصحفي القديم الذي خلا من الضوابط التي تحكم اللفظ وتجعله على صورة واحدة, الأثر الكبير في اختلاف القراءات بوصفه محتملاً للنطق بوجوه متعددة, يضاف إلى ذلك تباين الضبط لدى الصحابة لوجوه القراءات, ولو التزم أخذ القراءة من نبع صافٍ واحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي واكب القرآن آية آية ألا وهو أمير المؤمنين عليه السلام لما اتسع الخلاف في الصدر الأول وأخذ بالتشعب والازدياد.


هل كان تعدد القراءات موجودا في عهد رسول الله صلى الله عليه واله؟

ودعوى الاختلاف في القراءة في عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تكاد لا تنهض, إذ أنها «لا تستند إلى حقيقة تاريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة»( تاريخ القرآن: 103), حيث أن الروايات الواردة عن وجود مثل هذا الاختلاف في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تشير إلى «كيفية هذا الاختلاف ونوعية فروقه, فلم يصرح بجميع ذلك مما يجعلها روايات قابلة للشك, ومع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو والاشتباه»(المصدر نفسه: 103-104), وقد ينشأ الاختلاف بين القرّاء من الاجتهاد والرأي بالاستناد إلى الشاهد اللغوي.


الخلاصة

وعلى كل حال فالاختلاف في القراءات كان من دواعي تنوع الفهم الذي أسهم في اختلاف التفسير, وشواهده كثيرة لا ينكرها من تتبع كتب التفسير. وليس المراد في هذا المقام تفصيل القول في صحة قراءة وردّ أخرى, ولا الحديث عن حجية هذه القراءات مما يُعدّ خارجاً عن صلب الموضوع.

1 التعليقات:

غير معرف الكاتب

تعدد القراءات وان كان مهما في فهم كلام المفسرين ومهما في عملية التفسير الا ان الاساس المهم في رايي ان هذه القراءت لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه واله
وهذا يعني اننا ابتلينا بها لان المسلمين ابتعدوا عن اهل البيت وعن امامتهم فاخذهم التيار يمينا وشمالا ووجدت عندنا هذه القراءات التي زادت المسلمين فرقة وتفرقا .
انا لله وانا اليه راجعون..

علي من السويد

تعليق

إرسال تعليق