بقلم: الدكتور علي كاظم المصلاوي
لاريب انَّ لموقف زينب عليها السلام يوم الطف وبعده أثرا كبيرا وفعالا في نجاح ثورة الحسين عليه السلام بكل أبعادها، ولما قاد الحسين عليه السلام ثورته بالسيف ضد يزيد وأتباعه واصلتها زينب عليها السلام بسيف الكلام مع أخواتها من بيت الرسالة ومع الإمام العليل زين العابدين عليه السلام، وخطبها، ومواقفها في الكوفة ودمشق لتكشف عن صلابتها وقوة عزيمتها وإيمانها الصادق الحقيقي بما كتب الله جل وعلا عليها وعلى إخوتها من مصاب أليم، واستطاعت أن تهزَّ عرش الأمويين وتقضَّ مضاجعهم وتنبه الناس الغافلين المخدوعين بما آل إليه ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أيدي يزيد وأتباعه، فكانت الامتداد الحقيقي للخطاب الثوري الذي انتهجه الحسين عليه السلام، ولربما فقدت ثورة الحسين عليه السلام جذوتها لولا أخته العقيلة زينب وهو ما أثبته التاريخ والواقع.
ولما نعرج على ما قاله الشاعر في زينب عليها السلام نجده قد وقف متألماً عليها وحالها وحال أخواتها وهنَّ ينظرن إلى الحسين عليه السلام مقتولاً مسلوباً مع أولاده وصحبه وقد سحقت صدورهم خيول الأعداء ثمَّ قاموا بحرق خيامهنَّ وسبيهنَّ بصورة يندى لها الجبين.
فيمثل الشاعر زينب عليها السلام بالعاتبة على أخيها الحسين عليه السلام وهو لا يقوم بنصرتها ويخلصها من أيدي الأعداء، وأي عتب تعتبه على من صار نهباً لسيوف أعدائه ورماحهم وقد توزعت أشلاؤه، إنه عتب لا يجدي ولكنه عتب أليم وتذكره زينب وتذكر معه صفاته الرجولية كسرعة الإجابة ونجدة المستغيث أو تذكره بأنها كانت في الحرم المنيع مصانة مخدرة ولكنها الآن أصبحت بوضع آخر بعده، فيقول[1]:
وتقول عاتبة عليه وما عسى *** يجدي عتـــاب موزع الأشلاءِ
قد كنت للبعداء أقرب منجــد *** واليوم أبعدهم عن القرباء
أدعوك من كثب فلم أجد الدعـا *** إلا كما ناديت للمتنائي
قد كنت في الحرم المنيع خبيئة *** واليوم نقع اليعملات خبائـي
لقد استعمل الشاعر المقارنة بين حالين كان عليهما الحسين عليه السلام مع أخته زينب، فقد كان أقرب منجد للقرباء والبعداء، وصار اليوم بعيداً عنها وهي القريبة منه، بل أقرب القرباء وإنها لتدعوه إلى نجدتها ولكنه ذهب ونأى بعيداً عنها فأصبحت بحالة جديدة من بعده بعد أن كانت بمعيته في الحرم المنيع مصانة محفوظة لا يطلع عليها الغرباء، ثمَّ تأتي صيحتها الأليمة:
أسبى ومثلك من يحوط سرادقي *** هذا لعمري أعظم البرحاء
ماذا أقول إذا التقيت بشامت *** إني سبيت وإخوتي بازائي
وتسلم زينب عليها السلام إلى الأمر الواقع وحكم الحمام لما هم عليه إخواتها من بلاء:
حكم الحمام عليكم أن تعرضـوا *** عني وإن طرق الهوان فنائــي
ولكنها تتعجي وتنكر على إخوتها أن تهون عليهم وهي تسير إلى أعدائهم من الطلقاء:
ما كنت أحسب أن يهون عليكــم *** ذلي وتسييري إلى الطلقاء
ثمَّ تخبرهم بالواقع الأليم لنساء الوحي والرسالة من بعدهم:
هذي يتامــاكم تلوذ ببعضهــا *** ولكم نساء تلتجــي بنســـاء
وصورة العاتبة لم تنفك تبارح خيال الشاعر فنراه يصفها بقوله[2]:
تعاتبهم وهي العليمة أنهــم *** بريئون مما يقتضي قول عاتبِ
وهنا يبرء الشاعر الحسين عليه السلام وإخوته من عدم إغاثتها فضلاً عن علمها بذلك، ثمَّ يقول:
ومذهولة في الخطب حتى عن البكـا *** فتدعو بطرف جامد الدمع ناضبِ
فهو يصورها بالمذهولة التي جمد دمعها لهول المصاب وهي تخاطب عشائر مفقوديها ليقوموا بنجدتهم ويخلصوهم من هذا الوضع وهم من هم في الشجاعة والنجدة في النوائب ثم تعذرهم فتسلم إلى البكاء والشجن:
عذرتكم لم أتهمكم بجفوة *** ولا ساورتكم غفلة في النوائـب
شكت وارعوت إذ لم تجد من يجيبها *** وما في الحشى ما في الحشى غير ذاهب
ونلحظ الشاعر قد عمد إلى التكرار في عجز البيت الثاني مما أضفى دفعاً حزيناً وثقلاً عتيداً على هذا المصاب الذي لم ولن يبارح القلب والحشا، وهذه الصورة تتكرر عند الشاعر ولكن بتفاصيل أخرى هدفها إبراز الحزن والأسى الذي أصاب العقيلة فنراه يقول[3]:
وزينب تدعو والشجى ملء صدرها *** بمن ملأت صدر الفضاء نوالها
ثمَّ تخاطب أخوتها خطاباً مراً ملؤه العتب والتحسر:
أيا إخوتي لا أبعد الله منكم **** وجوهاً تود الشهب تمسي مثالها
نشدتكم هل ترجعون لحيكم *** فتحيى عفاة أتلف الدهر حالها
نشدتكم هل تركزون رماحكم *** بدار لها الوفاد شدَّت رحالها
وهل اسمعن تصهال خيلكم التي *** يود بأن يمسي الهلال نعالها
وهل انظر البيض المحلاة بالدما *** تقلدتموها وانتضيتم نصالهـا
فيا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة *** ببحبوحة تحمى وأنتم حمى لها
وتمسي دياري مثل ما قد عهدتها *** ملاذ دخيل ظلَّ يأوي حجالها
إنه اعتزاز الأخت بإخوتها الذين كانوا لها كهفاً وملجأ ولما ذهبوا ضاع ذلك العز وهتك ذلك الخدر، وإلحاحها عليهم بتكرار (نشدتكم) مفتتح بيتين متتاليين ثم استعمال أداة الاستفهام (هل) في مفتتح البيتين التاليين تؤكد على عمق الرابطة التي تجمعها بإخوتها وماذا يمثلون لها وكيف تنظر لهم نظرة الإجلال والاحترام والحب، فهم جديرون بها، وهم أصحاب الوجوه النيرة، والرماح الطويلة، والشجاعة والكرم والنجدة، وبيتهم الملاذ الآمن لمن يأوي إليه، وأبدع الشاعر حين جاء بالفعل (يود) الذي يظهر معنى الاشتياق وتلهف وأسنده للهلال كي يكون نعالاً لا لإقدام إخوة زينب عليها السلام وإنما لخيلهم التي يركبونها وهي مبالغة واضحة ولكنها مقبولة إذ جاءت على لسان زينب التي تفدي إخوتها بكل غال ونفيس، فلا يبعد عنها أن ترى في كل ألأشياء في الكون مطاعة لإخوتها الأجلاء.
وإذا ما تركنا صورة العاتبة الشجية الباكية نرى الشاعر يصورها بصورة الواعظة لأعدائها وأعداء أخيها الحسين عليه السلام وإخوتها جميعاً، فقال ممهداً لوعظها الأليم[4]:
لم أنس زينب إذ تقول وقد *** كضَّ المصاب فؤادهــا كضا
لله رزء قد أصاب لنـا *** ندبــا فعطَّل بعده الفرضا
ومضى بصحة ديننــا فغدا *** حتى المعاد يعــد في المرضى
إنه مصاب جليل قد وقع على هذا الدين حين قتل الحسين عليه السلام ولن يتعافى هذا الدين إلى المعاد فهو يبقى علامة أو ندباً واضحاً لا يمكن تجاوزه، ثمَّ يقول[5]:
وترد تدعو القوم واعظـة *** إذ ليس يسمع كافـر وعظـا
إن الأمر اللافت في هذا البيت هو وعظ زينب عليها السلام لهؤلاء القوم على الرغم من تيقنها من أنهم لا يسمعون وعظها، لأنهم كافرون، والكافر لا يسمع وعظ الكلام.
ثمَّ تخاطبهم على الرغم من ذلك بقولها:
يا قوم قتلكم الحسين أمـــــا *** يكفيـكم عن صدره الرضـــا
إنها متألمة على حال أخيها الذي قضى ظامئاً بحد سيوفهم ثم هؤلاء يرضون صوره بخيولهم بعد قتلهم إياه، ثم تواصل استفهاماتها الإنكارية إذ تقول:
أو ما كفاكم نهبكم خيم النسوا *** نِ عن ابرادهــا تنضـــــــى
إنها تثير بقايا الكرامة والغيرة العربية علها موجودة في قلوبهم القاسية فتسألهم إذا كنتم نهبتم ما في الخيام فلماذا تنضون النساء ملابسها التي تلبسها أما عندكم غيرة أو كرامة ولكن هذه التساؤلات قد ذهبت أدراج الرياح:
أبريتم أصواتنــا جزعــــا *** ولطالما هي تألف الغضـــــا
فهي تشير إلى خدرها وخدر أخواتها من بنات الرسالة إذ لم تـالف أن يسمع لها صوت من الأجنبي ولكنها اليوم لشدة جزعها وما أصابها قد علا صوتها وارتفع، ثم تخاطبهم قائلة:
أرقدتهم عين الضلال بنــــا *** ومنعتم عين الهدى غمضــــا
لقد شخص الشاعر بهذا البيت على لسان زينب عليها السلام عمق المصيبة التي حلت بقتل الحسين عليه السلام، فالحسين ابن الرسالة المحمدية وهو الممثل الحقيقي لها (عين الهدى) التي حاول ألأعداء لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغمضوا هذه العين ويطفئوا نور الله جل وعلا فضلاً عن إشارة الشاعر في صدر البيت إلى أن أهل بيت النبوة قد ارقدوا (عين الضلال) وهي إشارة إلى فضل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في إخراج العالم من ظلم الكفر والطغيان إلى نور الهدى والإيمان.
وهذا الأمر يسترسل به الشاعر فيقول متسائلاً على لسان زينب عليها السلام:
ما كان ذنب محمد لكــم *** حتى قتلتم آلــــه بغضــا
ثم يقول [6]:
بالأمس أبرمنا عهودكــم *** واليوم أسرعتم لها نقضــــا
أكبادكم للغيظ أوعيـــــة *** بالطف ألفيتم بها نفضـــــا
فلشد ماربضت كلابكـــــم *** حذر الأسود فلم تطق نهضــا
جئتم بها شوهاء معضلـــة *** لا تملكون لعارها رحضــــا
إنها تذكرهم بإبرامهم العهود مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد سارعوا اليوم إلى نقضها بقتل ابن بنت نبيه سيد شباب أهل الجنة وهم لم يكونوا صادقين في ذلك فحقدهم وغيظهم منه قد بان في الطف وفي ذلك إشارة إلى المثل المعروف (كل إناء ينضح بما فيه) ولكن الكلاب تخاف الأسود ولشد ما بقت في مكانها مرتعبة من صولاتهم وهم الكلاب فالآن وجدوا الفرصة وقاموا بفعلتهم الشوهاء البغيضة التي بسببها سيلاحقهم العار ولا يستطيعون دحضها ونكرانها إلى أبد الدهور هكذا خاطبتهم العقيلة في خطبها المروية في الكوفة والشام وقد استوحى الشاعر من خطبها تلك المعاني والصور[7].
ونجد الشاعر يميل إلى المقارنة مستغلاً ثقافته التاريخية خير استغلال، فيقول[8]:
ونال شجى من زينب لم ينلــه من *** (صفية) إذ جاءت بدمع مدفــق
فكم بين من للخدر عادة كريمــة *** ومن سيروها في السبايا لجلـــق
فهو يصطنع مقارنة بين موقف زينب (عليها السلام في واقعة الطف وكيف وقفت على جسد أخيها وقد قطع إرباً إرباً وفصل رأسه الشريف وموقف (صفية) اخت (حمزة) عليه السلام عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد وقفت أيضاً على جسد أخيها أسد الله ورسوله ورأته وقد مثلت به هند بنت عتبة، ولا شك في أن الموقفين عظيمان جداً عليهما ولكن الحال اختلف بعد ذلك فصفية قد عادت إلى خدرها معززة مكرمة مصانة بينما ذهبت زينب عليها السلام مع قاتلي أخيها سبية تساق من بلد إلى بلد على النياق المهزولة لتصل إلى يزيد بن معاوية الذي كنى عنه الشاعر بـ(جلق).
ويستعين الشاعر بالمعين التاريخي مرة أخرى لرصد أبعاد الموقف العصيب على أهل البيت (عليهم السلام)، اذ يقول[9]:
لئن ثوى جسمه في كربلاء لقــى *** فرأسه لنساه في السباء رعـــــى
ثم يحول خطابه إلى الجمع المخاطب من الكرام لينجدوا هذه الكرائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
نسيتم أو تناسيتم كرائمكـم *** بعد الكرام عليها الذل قد وقعا
أتهجعون وهم أسرى وجدهــم *** لعمه ليل بدر قط ما هجعـا
فليت شعري من (العباس) ارقه *** أنينه كيف لو أصواتها سمعا
فهو يذكر موقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وقد أسر عمه (العباس) فلم يذق طعم النوم وكانت عينه ترنو إلى عمه خوفاً عليه وعطفاً ومحنَّة وقد سمع أنينه هذا وعمه لم يمس بسوء ولم يعتدى عليه وهو رجل فكيف بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو سمع بناته في ليلة الحادي عشر من محرم الحرام وقد قتل فيه من يدافع عنهم ضد أعدائهم الذين لم يرعوا لهم حرمة أو ذمار وقد أحرقت خيامهم وسلبوا.
ولم يكتف الشاعر بهذه المقارنة التاريخية فألحقها بأخرى ليزيد من الحزن والألم وليثير القلوب والعيون، فقال[10]:
وهادر الدم من (هبار) ساعة إذ *** بالرمح هودج من تنمي له قرعا
ما كان يفعل مذ شيلت هوادجهـا *** قسراً على كل صعب في السرى ظلعا
ما بين كل دعي لم يراع بهــا *** من حرمة لا ولا حق النبي رعــى
و(هبار) هذا كان شاعراً هجا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دمه يوم فتح مكة لأنه روَّع زينب بنت رسول الله زوجة أبي العباس بن الربيع حين حملها حموها إلى المدينة ليلحقها بأبيها بعد وقعة بدر فتتبعها (هبار) وقرع هودجها بالرمح وكانت حاملا فأسقطت ما في بطنها، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الإسلام يجب ما قبله [11]، فهذا الموقف يوظفه الشاعر بشكل لطيف ليصنع المفارقة في المواقف موقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من (هبار) وكيف عفى عنه على الرغم مما فعل وموقف يزيد وأتباعه مع أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما فعلوا فيهم، أركبوهم على ظهور النياق المهزولة، وكانوا يضربونهن بالسياط ويشتمونهن بسبب وبلا سبب كرهاً وبغضاً لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرعوا عهداً ولم يبقوا له حرمة تستر هؤلاء الأدعياء المجرمين.
إن هذا التلميح والتصريح بالإشارات التأريخية يكشف عن وعي الشاعر بحركة التاريخ فضلاً عن استعمال هذه الإشارات بشكل متميز وتوظيفها شعرياً ينبئ عن إمكانية معلوماتية فنية واضحة، وهذا الأمر نجده أيضاً في تعرضه إلى ما أصاب أم عبد الله الرضيع الذي قتل وهو يحمله الحسين عليه السلام ليطلب له الماء من أعدائه وجاءت هذه الأبيات بعد أبيات يصف فيها سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المرضعة هي واحدة من هذه السبايا، إذ قال [12]:
وربَّ مرضعة منهنَّ قد نظــرت *** رضيعها فاحص الرجلين في التــربِ
تشوط عنه وتأتيه مكابـــــدة *** من حاله وظماهـــا أغظم الكــرب
فقل (بهاجر) (اسماعيل) أحزنها *** متى تشط عنه من حر الظمــا تؤب[13]
فقد قارن الشاعر بين أم إسماعيل (هاجر) عليهما السلام حين تركت رضيعها (إسماعيل) لتبحث له عن ماء عندما تركها إبراهيم عليه السلام في واد غير ذي زرع، ومن سعيها وراء السراب ظناً منها أنه ماء ثم عودتها إلى إسماعيل أصبح السعي بين الصفا والمروة وهو من الشعائر المعروف في الحج، فقارن الشاعر بين هذه الأم وأم عبد الله الرضيع ولكن هذه الأم لم تستطع أن تأتي بالماء إلى ولدها وقد رأته يابس الشفتين فاحص الرجلين في التراب ولكنها عمدت إلى فعل آخر قارنه الشاعر بصورة تاريخية أخرى بقوله:
وما حكتها ولا (أم الكليم) أســى *** غداة في اليم ألقته من الطلــبِ[14]
ففعل أم الرضيع حين عمدت إلى أن تعطي ولدها لأبيه ليطلب له الماء من أعدائه بعد أن يئست ونشف منها حليبها كفعل أم الكليم حين عمدت إلى إلقائه في اليم ليواجه خطر الماء، ولكن ذاك واجه الخطر مع الأعداء وأي أعداء لا يرحمون حتى الرضيع، ثم يبرز حال أم إسماعيل وحال أم الكليم بقوله:
هذي إليها ابنهــا قد عاد مرتضعاً *** وهذه قد سقي بالبارد العـــــذبِ
ولكن حال أم عبد الله الرضيع اختلف وأي اختلاف:
فأين هاتان ممن قد قضى عطشا *** رضيعها عنها أو نأى عنها ولم يؤبِ
بل آب مذ آب مقتولاً ومنتـــهلاً *** من نحره يوم كالغيث منسكـــبِ
لقد عاد رضيعها مسقياً بالدم منحوراً بيد الأعداء، ثم قال[15]:
شاركنهـا بعموم الجنس وانفدت *** عنهنَّ فيما يخص النوع من نسبِ
كانت ترجى عزاءاً فيه بعـــد أب *** له فلـم تحــظ بابن لا ولا بـأب
هكذا هو حال أم عبد الله الرضيع، قتل ابنها وكان رجاءها وذخرها ولم يتوقع أن يقوم الأعداء بقتله فليس له ذنب ولكنها فوق فقدها ابنها وبعلها سبيت مع سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا اختلفت هذه المرأة بما جرى عليها من مصائب مع تلك النساء اللواتي التقت معهن بالولد الرضيع..
وفي إطار السبايا تناول الشاعر الباقي من ذرية الحسين عليه السلام وهو ابنه علي بن الحسين عليه السلام المشهور بـ(زين العابدين) الذي كان عليلاً ولم يستطع القتال فكان الوحيد الناجي، وقد سيق مع النساء من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصفه الشاعر مقيداً فوق بعير مهزول وهو يرنو إلى عماته وأخواته، فنراه يقول[16]:
أضحى وكانت له الأملاك حاملة *** مقيـداً فوق مهزول بلا قتـــبِ
يرنو إلى الناشرات الدمع طاويــة *** أضـلاعهنَّ على جمرٍ من النـوبِ
و(العاديات) من الفسطاط ضابحة *** و(الموريات) زناد الحزن في لهبِ
و (المرسلات) من الأجفانِ عبرتها *** و(النازعات) بروداً في يد السلبِ
و (الذاريات) ترابـاً فوق أرؤسها *** حزناً لكل صريع بالعرا تــربِ
فنلحظ الشاعر قد وظف أسماء بعض السور القرآنية وما يتجلى من آياتها في وصف هؤلاء النسوة، وجاءت صوره بشكل متقابل بين الصدر الممثل للصورة الأولى والعجز الممثل للصورة الثانية على مدى البيت الثالث والرابع، أما الخامس ابتدأ باسم سورة (الذاريات) ولكن صورته استمرت حتى نهاية العجز معرباً عن تخليه عن هذا اللون من التقابل إلى غيره من الفنون.
ويكرر الشاعر هذا المشهد في قصيدة أخرى، فيقول[17]:
وأمين الله في الأرض بعدا *** لسبطِ أضحى مقيَّداً مستضاما
تارة ينظـــر النســاء وطوراً *** أرؤساً بالرماح تجلو الظلامـا
كيف يسري بيـن الأعادي أسيـرا *** من يغادر وجــودها اعداما
قيدوه من حلمه بقيـود *** ربَّ حلم يقيد الضرغاما
فنلحظ الشاعر يصف الإمام زين العابدين عليه السلام بأنه (أمين الله) في ألأرض بعد أبيه السبط الحسين عليه السلام ولكنه مقيد مستضام مغلوب على أمره بين هؤلاء الأوباش الذين سبوا عماته وأخواته وقطعوا رأس أبيه وإخوته وعمومته وأصحاب أبيه فتارة ينظر إلى النساء وتارة أخرى إلى هذه الرؤوس النيرة التي تجلو الظلام، لقد قيَّد الأعداء حلمه، هذا الحلم النابع من اعتقاد راسخ بضرورة تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإن الذي يجري في ذات الله وتحت عينه فإن هذا الحلم سيصبح قيداً يقيده ولا يستطيع فكه.
هذه أبرز جوانب موضوع السبايا التي تناوله الشاعر، وهو موضوع حساس تعامل معه الشاعر بصورة تثير المشاعر بالحزن والألم لما أصاب زينب عليها السلام والإمام زين العابدين عليه السلام وبقية النساء بعد فقدهم الحسين عليه السلام ومن كانوا يحاموهم ويدافعوا عنهم وعكس هذا الموقف ظلم بني أمية لأهل البيت (عليهم السلام) وكيف أنهم لم يراعوا حرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعهوده ومواثيقه التي عاهدوه بها ونقضوها بفعلتهم النكراء في واقعة الطف..
ــــــــــــــــ
[1] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 18.
[2] م.ن: 21.
[3] م.ن: 40 .
[4] م.ن: 28.
[5] قافية البيت مخالفة لروي القصيدة فاثبتناها كما وجدت في الأصل.
[6] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي : 29.
[7] تنظر خطبتها في: بلاغات النساء: 20.
[8] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي : 36.
[9] م.ن: 32.
[10] م.ن: 33.
[11] سيرة النبي: 2 / 480.
[12] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي : 25.
[13] اشار القران الكريم اجمالا الى هذه القصة في سورة ابراهيم الاية 37 اذ ورد على لسان إبراهيم عليه السلام: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِــندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقــْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). أما تفاصيل القصة التي اعتمدها الشاعر فكانت مرجعياتها سنيَّة متمثلة بأحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر على سبيل المثال لا الحصر: قصص الأنبياء: 203 – 205.
[14] تنظر قصة ذلك في سورة القصص:7.
[15] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي : 25-26.
[16] م.ن: 25.
[17] م.ن: 44.
إرسال تعليق