بقلم: السيد ياسين الموسوي
إستخدم الأئمة عليهم السلام أسلوب إرجاع الأُمَّة إلى العلماء، وأمروا شيعتهم بالرجوع إليهم في الأمور المتنوعة في حياتهم؛ فأرجعوهم إليهم بالفتوى، كما أرجعوهم إليهم بالقضاء، وحلِّ خصوماتهم, بل عَمَّتْ أمورهم الحياتية المتنوعة، فأعطوهم مقام النيابة، والوكالة العامة، عن المعصوم عليه السلام.
وكثيراً ما وجدنا المعصوم عليه السلام يحتجب عن شيعته، ومواليه، ويأمر كلَّ مَنْ يراجعه بالرجوع إلى أحد أصحابه (رضوان الله عليهم) مِمَّنْ حَمَل حديثهم، وتربّى في مدرستهم عليهم السلام؛ أما لماذا؟
فقد يكون السبب الكامن وراء هذا الموقف هو الدَّواعي الأَمنية، والظروف الصعبة التي كان يعيشها الائمة عليهم السلام من قبل السلطات الجائرة في عصور التقية، أو أنَّهم عليهم السلام كانوا يطلبون من وراء ذلك تعويد الفقهاء بشكل خاص والأُمَّة عموماً على الطريقة الجديدة للتعامل مع الإمام عليه السلام ليتأهّلوا نفسياً, وعملياً عندما يعيشون تحت ظلّ إمامة الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه الشريف في ظروف الغيبة الصغرى, أو الغيبة الكبرى، ولهذا نجد التأكيد على هذا المنهج يشتدّ ظهوراً كُلَّما تقدم التاريخ, وقرب زمن ولادة صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وأهم ما يبرز أمامنا في عصر الإمامين العسكريين عليهما السلام هو التأكيد على إرجاع الأُمَّة إلى الفقهاء.
ومع إنَّنا نعلم أنَّ منهج الإرجاع إلى العلماء, وإعطائهم الموقع القيادي النيابي عن المعصوم عليه السلام قد أسَّسه الأئمة السابقون عليهم السلام كما جاء ذلك في روايات كثيرة منها:
مارواه الكليني عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن الحسين، عن محمَّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داوود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين، أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة أيحل ذلك؟. قال:
مَنْ تحاكم إليهم في حق، أو باطل؛ فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنَّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لإنَّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}[1].
قلت فكيف يصنعان؟. قال: ينظران إلى مَنْ كان منكم ممَّنْ قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنَّما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدِّ الشرك بالله.
قلت: فإنْ كان كلُّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا, فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟.
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولايلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لايفضل واحد منهما على الآخر.
قال: فقال: ينظر إلى ماكان من روايتهم عنَّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك, فيؤخذ به مِنْ حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فأنَّ المجمع عليه لاريب فيه، وإنَّما الأُمور ثلاثة: أمر بَيِّنٌ رُشْدهُ فيُتَّبع، وأمر بَيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتَنب، وأمرٌ مشكل يُرَدُّ علمه إلى الله، وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حلال بَيِّنٌ, وحرام بَيِّنٌ، وشبهات بَين ذلك, فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لايعلم.
قلت: فان كان الخبران عنكما مشهورين, قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة, ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك أرايْتَ إنْ كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب، والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة، والآخر مخالفاً لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟. قال: ما خالف العامَّة, ففيه الرَّشاد.
فقلت: جعلت فداك فإنْ وافقهما الخبران؟. قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك، ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإنْ وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟.
قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات[2].
ونعلم أيضاً أن الأئمة المتقدمين عليهم السلامقد أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أصحابهم ليأخذوا منهم معالم دينهم، كما جاء ذلك بروايات كثيرة ننقل لك بعض ما ورد منها:
1 . روى الصدوق باسناده عن أبان بن عثمان: ان أبا عبد الله عليه السلام قال له:
ان أبان بن تغلب قد روى عَنِّي رواية كثيرة، فمما رواه لك فأروه عني)[3].
2 . وروى الكشي بالاسناد عن ابن أبي عمير، عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رُبَّما احتجنا أنْ نسأل عن الشيء, فَمَنْ نسأل؟.
قال: عليك بالاسدي، يعني أبا بصير[4].
3 . وروى الكشي عن حمدويه بن نصير قال: حدَّثني محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الحسن بن محبوب السَّراد، عن العلاء بن رزين، عن يونس بن عمار قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنَّ زرارة قد روى عن أبي جعفر عليه السلام: إنَّه لايرث مع الأُم, والأَب, والابن, والبنت؛ أحد من الناس شيئاً إلا زوج, أو زوجة؟.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام فلا يجوز أن تَرُدَّهُ.
وأما في الكتاب في سورة النساء فإنَّ الله عزَّ وجل يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}[5].
يعني أُخوة الأب، وأم, وأخوَّة الأب، والكتاب, يايونس؛ قد ورث ههنا مع الأبناء, فلا تورث البنات إلا الثلثين[6].
4 . وروى الكشي بالإسناد عن الحَجَّال، عن يونس بن يعقوب قال: كُنَّا عند أبي عبد الله عليه السلام, فقال:
أما لكم مِنْ مَفْزَعٍ, أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري[7].
5 . وروى الكشي عن محمَّد بن قولويه, عن سعد بن عبد الله عن محمَّد بن عيسى عن أحمد بن الوليد، عن علي بن المسَّيب قال: قلتُ للرِّضا عليه السلام: شقتي بعيدة، ولستُ أصل اليك في كل وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟. فقال:
مِنْ زكرّيا بن آدم القمي, المأمون على الدِّين والدنيا.
قال علي بن المسيَّب: فلمَّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم، فسألته عمَّا احتجت إليه[8].
6 . وروى الكشي عن صالح بن السندي، عن أُمية بن علي، عن مسلم بن ابي حية قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام في خدمته، فلمَّا أردتُ أن أفارقه، وَدَّعْتُهُ، وقلتُ له: أحبّ أنْ تزودني.
قال: إئت أبان بن تغلب, فإنَّه قد سمع مِنِّي حديثاً كثيرا،ً فما روى لك عنِّي فأروِ عنِّي[9].
7 . وروى الكشي عن محمَّد بن نصير, عن محمَّد بن عيسى، وحدَّث الحسن بن علي بن يقطين بذلك أيضاً قال: قلتُ لأبي الحسن الرِّضا عليه السلام: جُعِلْتُ فداك, إنِّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟.
فقال: نعم[10].
8 . وروى الكشي عن علي بن محمَّد القتيبي قال: حدَّثني الفضل بن شاذان قال: حدَّثني عبد العزيز بن المهتدي، وكان خير قُميٍّ رأيته، وكان وكيل الرضا عليه السلام, وخاصته، قال: سألتُ الرِّضا عليه السلام, فقلت: إنِّي لا ألقاك في كل وقت, فَعَنْ مَنْ آخذ معالم ديني؟.
قال: خذ من يونس بن عبد الرحمن[11].
9 . وروى الكشي عن جبرئيل بن أحمد قال: سمعت محمَّد بن عيسى, عن عبد العزيز بن المهتدي, قال: قلتُ للرِّضا عليه السلام: إنَّ شُقَّتي بعيدة, فلست أصل إليك في كل وقت, فآخذ معالم ديني مِنْ يونس مولى ابن يقطين؟.
قال: نعم[12].
ولكن كان للإمامين العسكريين عليهما السلام دور الإعلان الرَّسمي للمنهج الرئاسي, والمرجعي الديني للأُمَّة المبتني على أهم فقرتين في هيكله القانوني:
الفقرة الاولى
عدم السماح للمكلَّف العادي بالاستقلال بآرائه الاعتقادية, والفقهية، ولزوم الرجوع إلى الفقهاء, والعلماء لمعرفة الصحيح من العقائد، والعمل بفتاواهم في المسائل الفرعية.
الفقرة الثانية
حَصْرُ المرجعية الدينية بكل أبعادها بالعلماء أمناء الله عزَّ وجل على حلاله وحرامه.
ومع أنَّ مقام العلماء المرجعي كان ثابتاً، ومنصوصاً عليه عند الائمة السابقين عليهم السلامبوجوب الرِّجوع إليهم, والتحاكم عندهم، ولكنَّه كان يُمَثِّل بشكله القانوني البديل المؤقت حينما يصعب الوصول إلى الإمام المعصوم عليه السلام، كما قرأنا ذلك في مجموعة من الرِّوايات التي نَصّت على هذا القيد منها: صحيحة ابن أبي يعفور:
(قال: قلتُ لأبي عبدالله عليه السلام: إنَّه ليس كلُّ ساعة ألقاك, ولايمكن القدوم، ويجيء الرَّجل من أصحابنا, فيسألني، وليس عندي كل ما يسألني عنه؟.
فقال: ما يمنعك من محمَّد بن مسلم الثقفي..)[13].
وربَّما يمكن أن يقال: إنَّ الرِّوايات أمرت بالرجوع إلى الإمام عليه السلام، وروايات التوقف، والروايات التي أجاز بها الأئمة فقهاء أصحابهم بالفتوى, ثُمَّ الرِّجوع إلى الإمام عليه السلام. والرِّوايات التى أمرت شيعتهم بلقاء الإمام عليه السلام بعد الحج.قد أريد منها من جملة ما أريد منها هو إعطاء العلماء المقام البديل لهم عليهم السلام.
وبلفظ آخر: أن يشغل الفقهاء مقام الإمامة, ويملأوا الفراغ القيادي بالحجم المخوَّل لهم من قبلهم عليهم السلام.
وإنَّما جوّز الأئمة عليه السلام الرِّجوع إلى أصحابهم الفقهاء, العلماء, لإنَّهم يفتون بأقوال الأئمة عليهم, أو باستنباط الأحكام من القواعد التي أسّسها الأئمةعليهم السلام لشيعتهم، وليس لآراء الفقهاء الشخصية دَخْل فيما يقولون، لذلك روى الكليني في الكافي عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن علي بن اسماعيل, عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي اسحاق النَّحوي, قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام, فسمعته يقول: إنَّ الله (عزَّ وجل) أدّب نبيه على محبته فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[14].
ثُمَّ فَوَّض إليه, فقال (عزَّ وجل): {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[15].
وقال (عزَّ وجل): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[16].
قال: ثُمَّ قال: وإنَّ نبيَّ الله فَوَّض إلى عليّ, وائتمنه, فَسَلَّمْتُم, وجحد النَّاس فوالله لنحبكم أنْ تقولوا إذا قلنا, وأنْ تصمتوا إذا صمتنا, ونحن فيما بينكم وبين الله (عزَّ وجل)، ما جعل الله لاحد خيراً في خلاف أمرنا[17].
وقال الشيخ الكليني بعد هذا: عِدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي اسحاق قال: سمعت أبا جعفرعليه السلام يقول؛ ثُمَّ ذكر نحوه).
وروى الشيخ حسن بن سليمان الحلي في مختصره لبصائر الدرجات للشيخ الأقدم الثقة سعد بن عبد الله الأشعري بسندٍ صحيح: عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد, والعباس بن معروف، عن حَّماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله بن الجارود، عن الفضيل بن يسار قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كلُّ ما لم يَخرُج من هذا البيت فهو باطل)[18].
وروى عن أيوب بن نوح, عن جميل بن دراج, والحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة الخزاز، عن العباس بن عامر القصباني، عن الرَّبيع بن محمَّد المكي، عن يحيى بن زكريا الأنصاري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول:
مَنْ سَرَّه أنْ يستكمل الإيمان, فليقل القول مِنِّي في جميع الأشياء قولِ آل محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فيما أَسَرُّوا، وفيما أعلنوا، وفيما بَلَغَنِي, وفيما لم يبلغني)[19].
وروى عن أحمد بن محمَّد، عن علي بن الحكم، عن أبي بكر الحضرمي، عن الحجَّاج بن الصباح قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنّا نُحَدِّث عنك بالحديث, فيقول بعضنا: قولنا قولهم؟. قال:
فما تريد؟! أتريد أنْ تكون إماماً يقتدى بك؟! مَنْ رَدَّ القول الينا, فقد سلم)[20].
ومع أنَّ الائمة المعصومين السابقين الذين تقدَّموا الإمام الهادي عليه السلام كانوا قد أسسوا قاعدة الرُّجوع إلى فقهاء أصحابهم, ولكنَّهم لم يعطوها الأهمية الكبرى التي تمَّيزت به في عصر الإمام الهادي عليه السلام؛ فإنَّها كانت محدودة ميدانياً، ولم تأخذ عمقها التأصيلي في الحياة الشيعية، فقد صدرت النُّصوص مقترنة بظروف خاصة أكدَّت عليها كلماتُ نفس تلك الروايات، وحددت مهمتهم بالدور النيابي للمعصومين عليهم السلامفيما إذا لم يتمكن المكلَّف الشيعي من الوصول إلى إمامه عليه السلام.
وقد يمكن أنْ يقال بإنَّنا رُبَّما نفهم من بعض الروايات المرجعة إلى الفقهاء كمقبولة ابن حنظلة (التي أعطت للفقهاء تنصيباً نيابياً عنهم عليهم السلام، بمعنى أنَّ الإمام الصادق عليه السلام قد شَرَّع قانون شرعية منصب الفقهاء بالقضاء. وحينئذ يمكن للمكلَّف أنْ يرجع إلى الفقيه حتى مع عدم وجود العذر من الرِّجوع إلى المعصوم عليه السلام اعتماداً على الزَّمن المستقبل، عندما يغيب المعصوم عليه السلام ولم يأخذ العنوان المؤقت في حياة الإمام الصادق عليه السلام إلا ذريعةً لإنشاء الحكم ليس إلا.
ومع أنَّنا هنا لسنا بصدد البَتّ بهذه المسألة، بل موكليها إلى محلِّها من أبحاثنا الاختصاصية المتعلقة بهذه المسألة، ولكننا نؤكد صحة الفهم من تشريع هذه القاعدة (وهي النيابة العامة للفقيه عن الإمام العصوم عليه السلام إما في القضاء, أو في الدائرة الأوسع ضمن الأُطروحة المعنونة بولاية الفقيه على تفصيل ذكرناه في محلِّه في غير هذا البحث) بإنَّ المقصود من ذلك التشريع هو النظر إلى المستقبل الذي رسمه الله عزَّ وجل للبشرية عند غياب المعصوم عليه السلام عن الأُمَّة ظاهراً, فقد أُعطي الفقهاء منصب النيابة عن المعصومين عليهم السلام كما جاء ذلك في الروايات المروية عن الائمة عليهم السلام.
ولكنَّنا نلاحظ شيئاً مُلفتاً للانتباه في تلك الروايات؛ وهو إنَّ لسان تلك الروايات لم يكن بالصَّراحة, والوضوح بإعطاء مقام النيابة للفقهاء بعكس لسان الروايات التي وردت عن الائمة الثلاثة (العسكريين والحجة المهدي المنتظر عليهم السلام) فإنَّها كانت واضحة، وبَيّنَة جداً بحيث اخترنا عبارة (الإعلان) عن ذلك المنصب، كما تلاحظ ذلك في رواية الإمام الهادي عليه السلام بتقليد الفقهاء، والتوقيع الشريف الذي خرج من الناحية المقدَّسة بلزوم الرجوع إلى الفقهاء في الحوادث الواقعة في زمن الغيبة، وحرّم الردّ على الفقهاء لأنَّهم منصوبون في ذلك المنصب بأمر الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فإنَّ تنصيب الأئمة عليهم السلام للفقهاء العدول لم ينشأ من قاعدة مَلْء الفراغ الحاصل بغياب المعصوم عليه السلام عن الأُمَّة حسب، وإنَّما كان داخلاً في جملة المخطط الإلهي العام للبشرية الذي تمرّ به في المرحلة الثانية من خاتمية المعصومين عليهم السلام, وتبتدئ من حين بداية غيبة المعصومين عليهم السلام متفاعلة بشكل طردي بين سعة الولاية للفقيه, ووسع دائرة غيبة المعصوم عليه السلام عن الأُمَّة فلذلك كان دور العلماء في الأُمَّة بما أوكله المعصوم عليه السلام لهم في حياة أوسع مما كان عليه في حياة الأئمة السابقين من أبائه عليهم السلام.
ثُمَّ توسعت دائرة المرجعية للفقهاء في حياة الإمام العسكري عليه السلام أكثر مما كانت عليه في حياة الإمام الهادي عليه السلام لأنَّ دائرة غيبته عن الأُمَّة قد توسعت, وكبرت، وازدادت على ما كانت عليه في حياة أبيه الإمام الهادي عليه السلام.
ونجد المنصب المرجعي قد وصل إلى شكله الأكمل في حياة الإمام المهديعليه السلام لأنَّ الأُمَّة قد دخلت في مرحلة جديدة من حياتها التاريخية بدخولها في الغيبة.
وهذه بعض النصوص التي قنَّنت هذه المادة القانونية لهذا المرحلة، وهي الأخبار المروية عن الائمة الثلاثة (الهادي، والعسكري، والمهدي عليهم السلام) التي توضح مجموعها الإعلان التاريخي لحاكمية، ومرجعية الفقهاء في غيبة الإمام الخاتم، الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف:
1 . روى الكشي عن حمدويه، وإبراهيم ابني نصير، قالا: حدَّثنا محمَّد بن اسماعيل الرازي،قال: حدَّثني علي بن حبيب المدائني، عن علي بن سويد السائي (السابي، النسائي خ.ل)، قال: كتب إليَّ أبو الحسن (وهو في السجن): وأما ماذكرت، ياعلي مِمَّنْ تأخذ معالم دينك؟ لا تأخْذُنَّ معالم دينك عن غير شيعتنا؛ فإنَّك إنْ تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله، ورسوله، وخانوا أماناتهم؛ إنَّهم ائتمِنوا على كتاب الله (جلَّ وعلا) فَخَرَّبوه، وَبَدَّلُوه؛ فعليهم لعنة الله، ولعنة رسوله، ولعنة ملائكته، ولعنة آبائي الكرام البررة، ولعنتي، ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة[21].
2 . وروي الكشي عن أبي محمَّد جبرائيل بن محمَّد الفاريابي (جبرائيل بن أحمد خ.ل)، قال: حدَّثني موسى بن جعفر بن وهب، قال: حدَّثني أبو الحسن الثالث عليه السلام: أساله عمَّنْ آخذ ديني؟.
وكتب أخوه أيضا بذلك؛ فكتب إليهما: فَهِمْتُ ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلِّ مُسنًّ في حبِّنا، وكلِّ كثير القِدَمِ في أمرنا، فإنَّهم كافوكما إنْ شاء الله تعالى[22].
3 . وفي الاحتجاج للطَّبرسي، عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام إنَّه قال في جملة كلامه عليه السلام في تفسير الآية: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيَهُمْ ثُمَ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ}[23].
قال: قال رجل للصَّادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذَمَّهَمْ بتقليدهم, والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاكعوامنا يُقَلِّدون علماءهم؛ فإنَّ لم يجز لأُولئك القبول من علمائهم لم يجز لهولاء القبول من علمائهم؟.
فقال عليه السلام: بين عوامِّنا، وعلمائنا، وبين عوامِّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة، وتسوية من جهة. أما من حيث أَنَّهم أستووا: فإنَّ الله قد ذَمَّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما (قد) ذَمَّ عوامَّهم. وأما من حيث أنهم افترقوا فلا.
قال: بَيِّنْ لي ذلك يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال عليه السلام: إنَّ عوامَّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصُّراح، وبأكل الحرام، وبالرُّشا، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات, والعنايات، والمصانعات. وعرفوهم بالتعصُّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنَّهم إذا تَعَصَّبُوا أزالوا حقوق مَنْ تَعَصَّبُوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم.
وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرَّمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أنَّ مَنْ فَعَلَ ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يُصَدَّق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله؛ لذلك ذمَّهم (الله خ0ل) لمَّا قَلَّدوا مَنْ قد عرفوا، ومَنْ قد علموا، إنَّه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عَمَّنْ لم يشاهدوه، ووجب عليهم النَّظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وكذلك عوامُّ أمَّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة, والتكالب على حطام الدنيا, وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه إن كان لإصلاح أمره مستحقاً، وبالترفق (بالتوفير، بالترفرف خ.ل) بالبر, والإحسان على مَنْ تَعَصَّبُوا له، وإن كان للإذلال, والإهانة مستحقاً.
فَمَنْ قَلَّد مِنْ عوامِّنا (من خ.ل) مثل هولاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمَّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.
فأمَّا مَنْ كان مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللِّعوام أن يقلدوه.
وذلك لا يكون إلا (في خ. ل) بعض فقهاء الشيعة, لاجميعهم؛ فإنَّ مَنْ ركب القبائح، والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامَّة فلا تقبلوا منهم عنَّا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنَّما كثر التخطيط فيما يتحمل عنَّا أهل البيت لذلك؛ لأنَّ الفسقة يتحملون عَّنا فهم يُحَرِّفُونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير (مواضعها و خ.ل) وجوهها, لِقِلَّةِ معرفتهم؛ وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا (ليحرزوا خ.ل) من عرض الدنيا ما هو زادهم الى نار جهنم.
ومنهم قوم نُصَّاب لا يقدرون على القدح فينا؛ يتعلمون بعض علومنا الصحيحة, فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون (بنا خ.ل) عند نُصَّابنا, ثُمَّ يضيفون إليه أضعافه، وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها, فيتقبله المسلمون (المستسلمون خ.ل) من شيعتنا على أنَّه من علومنا, فَضَلُّوا, وأضلّوهم (وأضلوا خ.ل).
وهم أضَرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليهما السلام, وأصحابه؛ فإنَّهم يسلبونهم الأرواح, والأموال، وللمسلوبين عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.
وهؤلاء علماء السوء, النَّاصبون, المشبهون بأنَّهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون؛ يُدْخِلُونَ الشَّكَ، والشُّبْهَةَ على ضعفاء شيعتنا؛ فيضلونهم, ويمنعونهم عن قصد الحقِّ, المصيب[24].
4 . وروى الشيخ الصدوق في كمال الدين: عن محمَّد بن محمَّد بن عصام الكليني (رضي الله عنه), قال: حدَّثنا محمَّد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمَّد بن عثمان العَمْرِي (رضي الله عنه) أنْ يوصل لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أَشْكَلَتْ عَلَيَّ.
فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزَّمان عليه السلام: أمَّا ما سألْتَ عنهُ أرشدك الله، وَثَبَّتَكَ مِنْ أمرِ المُنْكِرِينَ لي من أهل بيتنا، وبني عمنا، فاعلم أَنَّه ليس بين الله عزَّ وجل وبين أحد قرابة، ومَنْ أنكرني فليس منِّي، وسبيله سبيل ابن نوح عليه السلام.
إلى أنْ قال عليه السلام: وأما الحوادثُ الواقعةُ فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله عليهم..)[25].
ــــــــــــــــ
[1] سورة النساء / من الآية (60).
[2] الكافي/ الكليني / ج1، ص67،ح10.
[3] من لا يحضره الفقيه / ج4، ص435 / الوسائل / ج27، ص140، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح8.
[4] اختيار معرفة الرجال / الكشي / ج1، ص400، ح291، ونقله الحر العاملي في وسائل الشيعة ج27، ص142، ح15، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11.
[5] من الآية (11) / سورة النساء .
[6] اختيار معرفة الرجال / ج1، ص346، ح211، ونقله الحر العاملي في الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح17.
[7] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص628، ح620، ونقله الحر العاملي في الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح24.
[8] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص858، ح1112، ونقله عنه الحر العاملي في الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح27.
[9] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص622، ح604، ونقله الحر العاملي في الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح30.
[10] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص784، ح935، ونقله عنه الحر العاملي في الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب11، ح33.
[11] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص779، ح910، ونقله عنه الحر العاملي في الوسائل, كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح34.
[12] اختيار معرفة الرجال / ج2، ص785، ح938، ونقله عنه الحر العاملي في الوسائل, كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح35.
[13] اختيار معرفة الرجال / ج1، ص383، ح273، ونقله عنه الحر العاملي في الوسائل, كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، باب 11، ح23.
[14] الآية (4) /سورة القلم.
[15] من الآية (7) / سورة الحشر.
[16] من الآية (80) / سورة النساء.
[17] الكافي / ج1، ص265، ح1.
[18] مختصر بصائر الدرجات / ص62.
[19] بصائر الدرجات / ص93.
[20] بصائر الدرجات / ص92.
[21] رجال الكشي / ص4، ف4؛ ونقله الحر العاملي في: الوسائل / ج27، ص150، أبواب صفات القاضي، باب11، ح42.
[22] رجال الكشي / ص5، ف 7؛ ونقله الحر العاملي في: الوسائل / ج27، ص151، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح45.
[23] الآية 79 من سورة البقرة.
[24] تفسير العسكري (عليه السلام) / ص299 ــ 301؛ الاحتجاج / الطبرسي / ج2، ص262
[25] كمال الدين / ص483 ــ 484، باب 54، ح4.
إرسال تعليق