بقلم: الدكتور مهدي حسين التميمي
وفي الرقعة المحدودة والمتصلة من الأرض التي شهدت ولادة وانبعاث الرسالات الدينية السماوية ومعها انبعاث الحضارات الأولى للإنسان ــ تمثل المشهد الروحي الإنساني وتضحياته، ومعها ولادة الضمير الروحي الذي استقر شاخصاً في مشاهد حية وعلى امتداد الأرض من بلدان الشام، وما جاورها من أرض الرافدين وحاذاها من أرض مصر، وما امتد إليها إلى أرض الجزيرة العربية، روافد متصلة للمجد الحضاري والروحي ارتسمت فيها صورة الخلود للمواقف الروحية والإنسانية المثلى.
وقد انتصبت فوق مرتقياتها وسهولها مقامات المجد الروحي، فعلى المرتقى من أرض سوريا يشمخ مقام (قابيل) ولد آدم الذي سجل مأثرة الوداعة والحلم مقابل بغي وعدوان أخيه هابيل، فكان له نصيب من الذكر في مزار معتبر يؤمه الناس على مدى السنين الطويلة من حادثة النزاع بينهما، نزاع بين الخير والشر.
وعلى مدى آخر من تفاوت الزمن انتصب مشهد الرحلة الطويلة لأبي الأنبياء الموحدين إبراهيم الخليل في أكثر من موقع من بلاد الشام، وبلاد الرافدين، وأرض مصر، وارتقت في أرض الجزيرة العربية مأثرته الروحية في مشهد بيت الله الحرام وكعبته المشرفة في مكة المكرمة، وارتقت مشاهد النبوة وأولياء النبوة شواخص للذكر، وعلى مرتقيات الأرض وسهولها فانتصبت المساجد والكنائس والمعابد إلى جانب مقامات الأنبياء والأولياء تتعانق بها ألوية الإيمان بين الرسالات الدينية.
ويكون الوفود على مقامات الشهادة منها وفوداً أكثر حرارة يحمل فيه المؤمنون – كما هو الحال في المقامين المتقابلين في الجامع الأموي بدمشق لمرقد النبي يحيى بن زكريا ومقام رأس الإمام الحسين (عليهما السلام) مشاعر مشتركة من المهابة والتقديس هي علامة دالة لمشتركات الإمان الذي يجمع ما بين الأديان ورموزها من الشهداء والمجاهدين من أجل شرائعها، وحيث ظلت الشريعة ومعها الشهادة هي الأكثر إضاءة في تاريخ الإيمان الديني، وفي ذلك صح قول (أشعيا):
(اسألوا الشريعة والشهادة، من لم ينطق بهذا الكلام فلا يضيء له الصبح)[1].
ويجد القاصد لدمشق ما بين شمالها وجنوبها شواخص تلك الشهادة التي امتدت ذكراها على طوال الأزمان، لتقام تلك المنائر والقباب المهيبة، كمثل ما يكون في ريف دمشق من المقام المهيب لمرقد السيدة زينب عليها السلام أخت الإمام الحسين عليه السلام، والتي حضرت مسرح الشهادة في واقعة الطف بكربلاء وتجرعت محنها وآلامها، وسارت في موكب الشهادة مع الرؤوس المنتصبة على الرماح في رحلة طويلة وشاقة ما بين كربلاء في العراق إلى دمشق في بلاد الشام، وتجرعت محنة الإقامة في الخربة إلى جوار قصر الحاكم الجائر، والتي تحولت بعدئذ إلى مقام مهيب لطفلة الإمام الحسين عليه السلام (رقية) والتي فارقت الحياة فيها وهي تعانق رأس والدها، وقد كان للسيدة زينب عليها السلام ذلك الموقف الجريء أمام الحاكم الجائر وخطبتها المثيرة في مجلسه..
وقد اندرست قصور أولئك الحكام الطغاة ولم يبق لهم من الذكر ما يستحق بإزاء ذلك الذكر والمقام المشهود لآل بيت النبوة ولأولياء النبوة في معاقل أولئك الحكام، وفيما انتصبت وعلى مسافة من الأرض ما بين جنبات دمشق منارات وقباب شامخة تزدان على مدار الأيام والسنين بعدد لا يحصى من الزائرين، والمتبركين بهم، والمستذكرين للمواقف الجهادية لسليلتي النبوة، وكمثل ذلك ما يكون من المشهد المعتبر لمقام النبي الشهيد يحيى بن زكريا والذي يقابل مقام الرأس للشهيد الإمام الحسين، والناس على مدار الأيام والسنين تقصدهم للزيارة والتبرك بهم، مقامات مهيبة لها في نفوس الملايين من الناس على مدى الأحقاب كل هذا الاعتبار والتقديس، هو ذلك الاعتبار والتقديس لشهادة الأنبياء والأولياء، والتي كانت العلامة التي رسمت على وجه الأرض، وفي نفوس البشر دلالة الثبات على المنهج الرسالي القويم، والتضحية من أجل أن تظل كلمة الله هي العليا، وإرادته هي الغالبة، وذكره الذي أبلغه برسالاته هو المحفوظ: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[2].
ويوثق شاعر العربية محمد مهدي الجواهري في قصيدته عن الإمام الحسين عليه السلام لما آمن به أحرار النفوس المدركون بعقولهم مآثر الشهادة وصروحها سر الخلود الرسالي للشهادة، خلود الحقيقة في خلود الشهادة في مأثراتها وصروحها الخالدة:
وحار بي الشك فيما مع الـ *** ـجدود الى الشك فيما معي
الى ان أقمت عليه الدليـ *** ـل وأعطاك إذعانه المهطع
فنوّرت ما أظلمّ من فكرتي *** وقوّمت ما اعوجّ من اضلعي
وآمنت ايمان من لا يرى *** سوى العقل في الشك من مرجع
بأن الإباء ووحي السماء *** وفيض النبوة من منبع
تنزّه عن (عرض) المطمع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أشعيا 8: 21
[2] الحجر 9.
إرسال تعليق