بقلم: السيد عبد الله شبر
قال تعالى في معرض الامتنان: ((لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)) [1].
وقال تعالى: ((فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا))[2] يعني بالإلفة[3].
ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُواْ))[4].
وقال: ((وَلا تَكُونُواْ كالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ(([5].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه[6].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من آخى أخاً في الله[7] رفع الله له درجة[8] في الجنة لا ينالها بشيء من عمله[9].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به[10].[11]
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله والتولي لأولياء الله[12] والتبري من أعداء الله[13].[14]
وقال الباقر عليه السلام: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب[15].
وتحقيق المقام في بيان الحب والبغض في الله: إن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق ــ كالصحبة بحسب الجوار وبحسب الاجتماع في مدرسة أو سوق أو سفر أو على باب السلطان أو غير ذلك ــ وإلى ما ينشأ اختياراً أو يقصد، وهو الذي يبعث على الأخوة في الدين، إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية[16].
والصحبة عبارة عن المجالسة والمخالطة والمجاورة، وهذه الأمور لا يقصد بها الإنسان غيره إلا إذا أحبه، فإن غير المحبوب يجتنب ويباعد ولا تقصد مخالطته.
والمحبوب إما أن يحب لذاته، وإما أن يحب ليتوصل به إلى مقصود آخر وراءه، وذلك المقصود إما أن يكون مقصوراً على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكون متعلقاً بالآخرة، وإما أن يكون متعلقاً بالله تعالى. فهذه أربعة أقسام:
القسم الأول:
وهو حبك الإنسان لذاته، وهو ممكن أن يكون هو في ذاته محبوباً عندك على معنى أنك تلتذ برؤيته ومعيته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له، فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله، وكل لذيذ محبوب، واللذة تتبع الاستحسان، والاستحسان يتبع الملاءمة والمناسبة والموافقة بين الطباع.
ثم ذلك المستحسن إما أن يكون الصورة الطاهرة ــ أي الخلقة ــ وإما أن يكون الصورة الباطنة، وهي كمال العقل وحسن الخلق، ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة، ويتبع كمال العقل غزارة العلم، وكل ذلك مستحسن عند ذي الطبع السليم والعقل المستقيم. وكل مستحسن مستلذ به ومحبوب، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا، فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة وحسن في خلق وخلق، ولكن بمناسبة باطنة توجب الإلفة والموافقة، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشباه الباطنة خفية ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، وعنه عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف[17]. فالتناكر نتيجة التباين، والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف.
ويدخل في هذا القسم المحبة للجمال إذا لم يكن المقصود قضاء الشهوة وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله، بل هو الحب بالطبع وشهوة النفس، وهو إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً وإلا فهو مباح.
القسم الثالث:
أن يحبه لا لذاته بل لغيره، وذلك الغير غير راجع إلى حظوظه في الدنيا بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة، كمن يحب أستاذه وشيخه لأن يتوسل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة، فهذا من جملة المحبين لله، وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويترقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء. قال عيسى عليه السلام: من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء[18].
ولا يتم التعليم إلا بمتعلم، فهو إذاً آلة في تحصيل هذا الكمال، فإن أحبه لأنه آلة له إذ جعل صدره مزرعة لحرثه فهو محب لله.
بل نزيد ونقول: من يجمع الضيفان ويهيئ لهم الأطعمة اللذيذة تقرباً إلى الله فأحب طباخاً لحسن صنعته في الطبخ فهو من جملة المحبين في الله، وكذا لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله.
بل نزيد على هذا ونقول: من أحب من يخدمه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه لتفرغه بذلك للعلم والعمل، ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة فهو محب في الله.
القسم الرابع:
أن يحب في الله ولله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته، وهذا أعلى الدرجات وأعظمها، وهذا القسم أيضاً ممكن فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد، فمن أحب إنساناً حباً شديداً أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يخدمه وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه، وكذلك من أحب الله تعالى أحب أحباءه. ويأتي الكلام في محبة الله إن شاء الله تعالى[19].
ويلزم المحب في الله أن يبغض في الله، فإذا أحببت إنساناً من حيث إنه مطيع لله تعالى فإذا عصى ربه فلا بد أن تبغضه لأنه عاصٍ للّه وممقوت عند الله[20].
روي أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي، ولكن هل عاديت فيّ عدواً أو واليت فيّ ولياً؟![21].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأنفال/ 63.
[2] سورة آل عمران/103.
[3] أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام وإتباع نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 4/ 164، تفسير سورة آل عمران.
[4] سورة آل عمران / 103.
[3] أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام وإتباع نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 4/ 164، تفسير سورة آل عمران.
[4] سورة آل عمران / 103.
[5] سورة آل عمران/105.
[6] المعجم الأوسط، الطبراني: 4/294. وفيه النص: من ولي من أمر المسلمين شيئا فأراد الله به خيرا رزقه وزيرا صالحا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه.
[7] في الفيض: الله عزّوجل.
[8] في الفيض: رفعه الله درجة.
[9] فيض القدير، المناوي: 5/ 526/ ح7789.
[10] في النهج: به منهم.
[11] نهج البلاغة، الشريف الرضي: 470، حكم أمير المؤمنين عليه السلام /ح12.
[12] في المعاني: وتولي أولياء الله.
[13] في المعاني: الله عزّوجل.
[14] معاني الأخبار، الصدوق: 398 ــ 399، باب نوادر المعاني/ح55.
[15] مصادقة الإخوان، الصدوق: 51، باب محبة الإخوان/ ح3.
[16] قال المجلسي: النية تطلق على النية المقارنة للفعل و على العزم المتقدم عليه سواء تيسر العمل أم لا وعلى التمني للفعل وإن علم عدم تمكنه منه والمراد هنا أحد المعنيين الآخرين ويمكن أن يقال إن النية لما كانت من الأفعال الاختيارية القلبية فلا محالة يترتب عليها ثواب وإذا فعل الفعل المنوي يترتب عليه ثواب آخر ولا ينافي اشتراط العمل بها تعدد الثواب كما أن الصلاة صحتها مشروطة بالوضوء ويترتب على كل منهما ثواب إذا اقترنا. بحار الأنوار، المجلسي: 67/200، كتاب الإيمان والكفر، أبواب مكارم الأخلاق، باب 53 النية وشرائطها / بيان حديث 4.
[17] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق: 4/380، كتاب الفرائض والمواريث، باب النوادر، من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجزة/ ح56.
[18] منية المريد، الشهيد الثاني: 121، الفصل 5 في فضل العلم. وفيه النص: من علم وعمل فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء. وأورده أيضا ابن عساكر في تاريخ دمشق: 47/457. بهذا النص: من علم وعمل وعلم كان يدعى عظيما في ملكوت السماء.
[19] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 145 ــ 149، كتاب آداب الألفة والأخوة، بيان معنى الأخوة في الله وتمييزها من الأخوة في الدنيا. الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 319 ــ 322، الباب الخامس في الإخاء والألفة، الفصل الأول أقسام الحب والمصاحبة. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 3/293 ــ 302، كتاب آداب الصحبة والمعاشرة، بيان معنى الأخوة في الله وتمييزها عن الأخوة في الدنيا.
[20] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 2 / 149، كتاب آداب الألفة والأخوة، بيان البغض في الله.
[21] مستدرك سفينة البحار، النمازي: 4/375، زهد الأنبياء وخاتمهم.
إرسال تعليق