بقلم: الدكتور مهدي حسين التميمي
والملاحظ في مجرى التاريخ
الرسالي أن شواخص الأنباء الرسالي، كمثل ما هو التوافق في الأحداث الرسالية يشكل
علامة من علامات الوثوق والمصداقية لإنباءات الرسالات الدينية، وقد كانت النبوءات
الصادقة عن سير الأحداث في التاريخ الرسالي قد عبرت وفي حقب متفاوتة من ذلك عن تلك
الحقيقة كمثل ما كان من نبوءات أشعيا وأرميا - من أنبياء بني إسرائيل - فيما ان
يوحنا (النبي يحيى بن زكريا) هو الذي عناه النبي أشعيا من قبل في نبوءته عنه كمثل
نبوءته عن السيد المسيح: "هيئوا طريق الرب.. واجعلوا سبله مستقيمة" (متى
3: 1-3).
وقد كان أرميا قد تنبأ بسقوط أورشليم وتدمير هيكل
سليمان وقد أرعب ذلك قومه فأخذ إلى مصر ورجم هناك بالحجارة لتنبؤاته الكئيبة، وأن
أرميا كما ذكر في كتاب (أهل البيت في الكتاب المقدس) قد ورد عنه أخباره عن ملحمة
الطف، مما نقل من الأصل العبري من العهد القديم وفيها تعظيم لفداحة ما يحدث في
شمالي نهر الفرات (تسافونا على يد نهر فرات)، والتأكيد على أن الخراب والسيوف ستشع
وترتوي من الدماء التي ستسيل في ساحة المعركة، كذلك أخبار "يوحنا" عن
مذبحة كربلاء مما ورد من التحليل اللغوي للنص العبري الخاص بذلك والمستقى من
المعجم الحديث (عبري - عربي) للدكتور ربحي كمال.
وفيه ما يذكر عن أنباء السيد
المسيح عن شهادة الإمام الحسين عليه السلام ـ وهي شهادة صادقة صدق ما أنبأ عن
حوادث الزمان التي تحققت بعده: أن عيسى بن مريم مر بأرض كربلاء فراى ظباءً ترعى
هناك فكلمته بأنها ترعى هنا شوقا إلى تربة الفرخ المبارك فرخ الرسول أحمد وانها
آمنة في هذه الأرض، ثم اخذ المسيح من أبعارها وشمه وقال: اللهم أبقه حتى يشمها
أبوه فتكون له عزاءً وسلوة، فبقيت الابعار إلى مجيء الإمام علي بكربلاء وقد اصفرت
لطول المدة فأخذها وشمها ثم دفعها إلى ابن عباس وقال: احتفظ بها فإذا رأيتها تفور
دما فاعلم ان الحسين عليه السلام قد قتل، وفي يوم عاشوراء بعد الظهر رآها تفور
دما.([1])
وقد أخبر النبي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم عن مأساة حفيده الإمام الحسين عليه السلام منوها في ذلك بمأساة
النبي يحيى بن زكريا عليه السلام وصلتها مع مأساة الإمام الحسين عليه السلام
ومكانتها عند الله وما يكون لها من الوقع المؤلم والأثر في سير الأحداث بعدها في
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال جبريل: قال الله تعالى: إني قتلت بدم
يحيى بن زكريا سبعين ألفاً وإني قاتل بدم الحسين بن علي عليهما السلام سبعين
ألفاً"([2]).
وأنه عدا تلك النبوءات
التي توافر عليها الذكر النبوي لواقعة الطف فقد شهدت هذه الواقعة حضور الموقف
الرسالي فيها مجسداً بما كان من مواقف أهل الإيمان في سائر الأديان، ومن ذلك ما
كان من التحاق (وهب بن عبد الله الكلبي) الرجل المسيحي بركب الشهادة في موقعة الطف
ما مر ذكره.
وبعد مقتل الإمام الحسين،
وإذ رفعت رؤوس أعلام الشهادة في واقعة الطف على الرماح يتقدمهم رأس الإمام الحسين
عليه السلام، كان المشهد الآخر للموقف الرسالي، ما كان من ذلك الراهب في صومعته،
فإنه وقد نصب رأس الإمام الحسين عليه السلام على رمح إلى جنب صومعته، فإنه وفي
أثناء الليل - كما ذكر - سمع تسبيحاً وتهليلاً ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهر،
وسمع قائلاً يقول: "السلام عليك يا أبا عبد الله.." فتعجب حيث لم يعرف
الحال، وعند الصباح استخبر من القوم فقالوا له إنه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب
عليهم السلام وأمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم: تباً لكم
أيها الجماعة، صدقت الأخبار في قولها إذا قتل تمطر السماء دماً، وأراد منهم أن
يقبل الرأس فلم يجيبوه إلا بعد أن دفع إليهم دراهم، ثم أظهر الشهادتين وأسلم ببركة
المذبوح دون الدعوة الإلهية([3])، و هذا هو عنوان إسلام المؤمنين كلهم بالله، ورسله،
وكتبه، ومواثيقه، ومنها ميثاق الشهادة.
وفي مجلس الطاغية يزيد
مَثُلَ رأس الشهيد الإمام الحسين عليه السلام، كمثل ما مَثُلَ رأس الشهيد النبي
يحيى بن زكريا عند الطاغية، وفي ذات الموقع من مشهد الشهادة ذكر أنه كانت لرسول
قيصر – الرجل المسيحي المنصف – وهو حاضر آنذاك، وقفته المستنكرة لذلك المشهد
الفظيع والخارج عن قيم الأديان، مما بدر من يزيد في ضربه بعصاه للرأس الشريف، فإن
هذا الرجل قد ذكر لهم مشهدا من مشاهد التقدير عند أهل دينه لكل ما يؤول إلى النبوة
ويمت إليها بصلة: "إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى ونحن
نحج إليه في كل عام من الأقطار ونهدي إليه النذور ونعظمه كما تعظمون كعبتكم، فأشهد
أنكم على باطل"(23).
ويظل هكذا النفس المسيحي في الشهادة توأم النفس
الإسلامي فيها، إن معاناة السيد المسيح ومكابدته مع الطغاة هي نفسها معاناة
ومكابدة الإمام الحسين، وشهادته هي كمثل شهادته، وقد ارتقى القديسان المبجّلان
كلاهما على خشبة الشهادة ورؤوسهما تعلو إلى السماء منتصبة على سواري المجد
والخلود، وما زلنا كل عام نستمع إلى الأقباط المسيحيين في بلدنا وهم يعبرون في
ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام عن صدق مشاعرهم وولائهم لمشهد الشهادة،
وهو عنوان الولاء للشهداء الرساليين في كل دين، وقد كانت الإشارة في الذكر القرآني
لمودة المسيحيين (النصارى) لإخوانهم من مؤمني الإسلام، ما يكون من صدق إيمان
القسيسين والرهبان ومعرفتهم للحق في كل رسالة من رسالات الله: "لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا
أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ
وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ" (المائدة: 81-84).
وكمثل ذلك ما نرى من موقف الصابئة وهم يجدون في
شهادة الإمام الحسين عليه السلام حضور الشهادة لنبيهم الشهيد يحيى بن زكريا عليه
السلام، وأنهم في موطنهم في جنوب العراق ووسطه قد عاشوا جنباً إلى جنب مع الموالين
لأهل بيت النبوة، واندمجوا معهم حتى في أسمائهم، وقد تغنى الشاعر الصابئي المعروف
عبد الرزاق عبد الواحد بملحمة الإمام الحسين عليه السلام في قصيدة رائعة تعبر عن
كامل المعرفة والتقدير لمشهد الشهادة الحسينية في الطف:
فمذ كنت طفلا رأيت الحسين
|
مناراً إلى ضوئه أهتدي
|
|
ومذ كنت طفلاً وجدت الحسين
|
ملاذاً بأنواره أحتمي
|
|
سلام عليك فأنت السلام
|
وإن كنت مختضباً بالدم
|
|
وإنك معتصم الخائفين
|
يا من من الذبح لم يعصم
|
إرسال تعليق