بقلم: الشيخ علي الفتلاوي
(أيُّها الناسُ، إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قال: مَنْ رَأى سُلْطاناً جائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَمِ اللهِ، ناكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، يَعْمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بالإثْمِ والعُدوان، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفعْلٍ ولا قَوْلٍ، كان حَقّاً على الله أنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ.
نص خطبة الإمام الحسين عليه السلام
(أيُّها الناسُ، إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قال: مَنْ رَأى سُلْطاناً جائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَمِ اللهِ، ناكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، يَعْمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بالإثْمِ والعُدوان، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفعْلٍ ولا قَوْلٍ، كان حَقّاً على الله أنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ.
ألاَ وَإنَّ هؤلاءِ قَدْ
لزِمُوا طاعَةَ الشَّيطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأظْهَرُوا الفَسادَ،
وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، واسْتَأثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأحَلُّوا حَرامَ اللهِ،
وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأنا أحقُّ مَنْ غيري لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، قد أتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وقَدِمَتْ عليّ رُسُلُكُمْ ببَيْعَتِكُمْ؛
أنَّكُمْ لا تُسْلِموُنِي ولا تَخْذُلُوني، فَإنْ تَمَمْتُم عَلى بَيْعَتِكُم
تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ.
فأنا الحسينُ بنُ عليّ،
وابنُ فاطمةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم نَفْسِي
مع أنْفُسكُمْ، وَأهْلِي مَعَ أهْلِكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أسْوَةٌ، وَإنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أعْناقِكُم،
فَلَعَمْري مَاهِي لَكُمُ بنُكْرٍ، لقد فَعَلتُموها بِأبِي وَأخِي وابْنِ عَمِّي
مُسْلِمٍ، والمَغْرُور مِنْ اغَتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أخْطَأتُمْ، وَنَصيبَكُمْ
ضَيَّعْتُمْ، وَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللهُ
عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ).
المعنى العام
1: (أيُّها الناسُ، إنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قال: مَنْ رَأى سُلْطاناً
جائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَمِ اللهِ، ناكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخالِفاً
لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، يَعْمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بالإثْمِ والعُدوان، فَلَمْ
يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفعْلٍ ولا قَوْلٍ، كان حَقّاً على الله أنْ يُدْخِلَهُ
مَدْخَلَهُ).
يتعرض الإمام عليه السلام
لبيان التزامه بنهج جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وذلك من خلال الاحتجاج
بحديثه الشريف حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم من رأى حاكماً ظالما أجاز ارتكاب
الحرام وانتهاك الحرمات والمقدسات، وناقضا ونابذا لميثاق الله تعالى ومعاكسا
لشريعة رسول الله، ويتعامل مع عباد الله تعالى بما حرم الله تعالى، ومن لم يتصدَ
له بقول أو فعل ويمنعه من ذلك ليتحول إلى المعروف استحق أن يكون معه يوم القيامة.
2: (ألاَ
وَإنَّ هؤلاءِ قَدْ لزِمُوا طاعَةَ الشَّيطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ،
وَأظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، واسْتَأثَرُوا بِالْفَيْءِ،
وَأحَلُّوا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأنا أحقُّ مَنْ غيري لقرابتي من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد أتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وقَدِمَتْ عليّ
رُسُلُكُمْ ببَيْعَتِكُمْ؛ أنَّكُمْ لا تُسْلِموُنِي ولا تَخْذُلُوني، فَإنْ
تَمَمْتُم عَلى بَيْعَتِكُم تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ).
ويشير الإمام عليه السلام
إلى بني أمية ومن لف لفهم أنهم من عبدة الشيطان فانقادوا له وتركوا عبادة الله
تعالى ذي الرحمة الواسعة، وأعلنوا ما هو نتن وقذر وتركوا العمل بحدود الله تعالى،
واختصوا بالغنيمة والخراج، وأجازوا كل ما هو ممنوع من قبل الشريعة، ومنعوا كل ما
هو مباح ومرخص، وأنا أول من ردع هؤلاء وحولهم إلى ما هو صواب، قد جاءتني رسائلكم،
ودخلت عليّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تدفعوني منقادا ولا تتركون نصرتي وعوني، فإن
أنجزتم بيعتكم نلتم وأدركتم هداكم وتوفيقكم.
3: (فأنا
الحسينُ بنُ عليّ، وابنُ فاطمةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّم نَفْسِي مع أنْفُسكُمْ، وَأهْلِي مَعَ أهْلِكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ
أسْوَةٌ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي
مِنْ أعْناقِكُم، فَلَعَمْري مَاهِي لَكُمُ بنُكْرٍ، لقد فَعَلتُموها بِأبِي
وَأخِي وابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، والمَغْرُور مِنْ اغَتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ
أخْطَأتُمْ، وَنَصيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ، وَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى
نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكاتُهُ).
يعرّف
الإمام عليه السلام نفسه ونسبه لكي يلقي الحجة عليهم، ويؤكد أنه لا يمتاز عليهم
ولا يتركهم ويواسيهم بنفسه وأهله، ويقول لهم إني لكم قدوة ومثل، وإن لم تعلموا هذا
ونكثتم ميثاقكم، ونزعتم بيعتي من رقابكم، فلعمري للقسم ما هذه الفعلة بجديدة عليكم
أو بأمر مجهول حيث لكم في ذلك سابقة، إذ فعلتم هذا النكث بأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب أبي وبالحسن بن علي أخي وبمسلم بن عقيل ابن عمي، والجاهل أو المخدوع من
انخدع بكم أو غفل عنكم، فنصيبكم أخطأتم وحصتكم أذهبتم، ومن نقض فإنما ينقض على
نفسه حيث سيأخذ به يوم القيامة، وسيعوضني الله تعالى بغيركم ويرفع حاجتي إليكم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــ الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد: كلمة مأخوذة من
(الجهد) أي التعب والمشقة أو من (الجُهد) أي بذل الوسع والطاقة، ومن خلال مزج
المعنيين يكون المعنى التام للجهاد: بذل الوسع والطاقة وتحمل التعب والمشقة في
سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وحفظ راية الإسلام والدفاع عن الحق والعدل.
لقد حثت الآيات الكريمة
والأحاديث الشريفة على التمسك بهذا الفرض الكريم الذي يعد من الأسس التي بني عليها
الإسلام.
الجهاد في القران الكريم
1ــ قال الله عزّ وجل: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)([1]).
2ــ قال تبارك وتعالى: (إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)([2]).
3ــ قال الله سبحانه وتعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ
لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)([3]).
4ــ قال الله تبارك وتعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)([4]).
(يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ)([5]).
الجهاد في الروايات الشريفة
وما
ورد من الحث على الجهاد في الروايات والأحاديث نذكر منها:
1ــ
قال الإمام علي عليه السلام: «إنَّ الجِهادَ بابٌ مِنْ
أبْوابِ الجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخاصَّةِ أوْلِيائِهِ، وَهُوَ لِباسُ
التَّقْوى، ودِرْعُ اللهِ الحَصينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثيقَةُ»([6]).
2ــ
وعنه عليه السلام قال: «الجِهادُ عِمادُ الدّينِ،
وَمِنْهاجُ السُّعَداءِ»([7]).
3ــ عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: «الجِهَادُ أفْضَلُ
الأشْياءِ بَعْدَ الفَرائِضِ»([8]).
4ــ
قال الإمام علي عليه السلام: «إنَّ اللهَ فَرَضَ
الجِهَادَ وَعَظَّمَهُ وَجَعَلَهُ نَصْرَهُ وناصِرَهُ، وَاللهِ، ما صَلُحَتْ
دُنْيا وَلاَ دِينٌ إلاّ بِهِ»([9]).
5ــ وعنه عليه السلام: «إنَّ
الجِهادَ أشْرَفُ الأعْمالِ بَعْدَ الإسْلامِ، وهُوَ قِوامُ الدِّينِ، والأجْرُ
فيهِ عَظيمٌ مَعَ العِزَّةِ والمَنْعَةِ، وَهُوَ الكَرَّةُ، فِيهِ الحَسَناتُ
وَالبُشْرى بِالجَنَّةِ بَعْدَ الشَّهادَةِ»([10]).
6ــ جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما
السلام: «الجِهادُ واجِبٌ مَعَ إمامٍ عادِلٍ»([11]).
ومن خلال بعض الآيات الكريمة وبعض الروايات الشريفة
يظهر أن للجهاد أنواعاً متعددة وهي كما يلي:
الأول: جهاد النفس
وهو محاربة وقتال الهوى والاستيلاء والسيطرة على
الشهوات والرغبات وجعلها تصب في مضمار الحق والرخص التي رخص بها الله تعالى لعباده
لكي يصل بنفسه إلى القرب الإلهي.
ولهذا أرشدتنا الآيات الكريمة كما في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)([12]).
إلى ضرورة الالتزام بالطاعة ونبذ المعصية ومصارعة الهوى، كما أكدت الروايات
الشريفة على هذا المعنى وورد في الأحاديث الشريفة التالية:
1ــ قال الإمام علي عليه السلام: «إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ سَرِيَّةً، فَلَمّا رَجَعوا قالَ: مَرْحَباً بِقَوْمٍ قضوا الجِهادَ
الأصْغَرَ وَبَقيَ عَلَيْهِمُ الجِهادُ الأكْبَرُ. قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ،
وما الجِهادُ الأكْبَرُ؟ قالَ: جِهادُ النَّفْس»)([13]).
2ــ وقال عليه السلام: «أفْضَلُ
الجِهادِ مَن جاهَدَ نَفْسَهُ الّتي بَيْنَ جَنْبَيْهِ»([14]).
3ــ ورد في مستدرك الوسائل عن فقه الرضا عليه
السلام قال:نَرْوي أنَّ سَيّدَنا رَسُولَ اللهِ صلى الله
عليه وآله وسلم رأى بَعْضَ أصْحابِهِ مُنْصَرِفاً مِنْ بَعْثٍ كانَ بَعَثَهُ، فيه
وَقَدِ انْصَرَفَ بِشَعْثِهِ وغُبارِ سَفَرِهِ، وسِلاحُهُ (عَلَيْهِ) يُرِيدُ
مَنْزِلَهُ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: انصرفتَ مِن الجِهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ. فقيلَ
له: أوَجِهادٌ فوقَ الجهاد بالسّيفِ؟ قال: نعم، جهاد
المرء نفسه»)([15]).
4ــ عن الإمام علي عليه السلام: «أفْضَلُ الجِهادِ جِهادُ النَّفْسِ عَنِ الهَوى، وفِطامُها
عَنْ لَذّاتِ الدُّنْيا»([16]).
5ــ وعنه عليه السلام: «غايَةُ
المُجاهَدَةِ أنْ يُجاهِدَ المَرْءُ نَفْسَهُ»([17]).
ومن
بعد التأمل في هذه الروايات الشريفة يظهر لنا:
ألف:
أن سقوط الألم على البدن عند الاشتباك مع العدو أخف وطأة من الألم الناتج عن
محاربة الهوى.
باء:
أن محاربة الهوى وقتال النفس الأمارة بالسوء حالة مستمرة لا نهاية لها إلا بالخروج
من رتبة النفس الأمارة إلى رتبة النفس المطمئنة فلذا يعيش صاحبها ألماً دائماً وهذا
ما يؤكده حديث المعراج الشريف في صفةِ أهلِ الخيْرِ وَأهْلِ الآخِرَةِ: «يَمُوتُ النّاسُ مَرّةً، وَيَموتُ أحَدُهُمْ في كُلِّ يومٍ
سَبْعينَ مَرّةً مِنْ مُجاهَدَةِ أنْفُسِهُم وَمُخالَفَةِ هَواهُمْ والشَّيْطانِ
الّذي يَجْري في عُروقِهِمْ»([18]).
فهذا
الحديث يشير أيضا إلى أن الموت والقتال مع النفس متكرر لا ينتهي بمرة واحد فيرتاح
صاحبها بعدها بل هو في ألم وصراع دائم.
جيم:
أن ثواب وأجر مجاهد النفس أكثر من ثواب وأجر المجاهد في ميدان المعركة وهذا ما
أكدته الروايات السابقة في المقاطع (فقيل له: أو جهاد فوق الجهاد بالسيف؟ قال: «نَعْم، جِهَادُ المَرْءِ نفْسَهُ».
وقول أمير المؤمنين عليه السلام في الرواية
السابقة: «أفْضَلُ الجِهَادِ جِهَادُ النفْسِ عَنِ
الهَوى...».
الثاني: جهاد وقتال الكفار المشركين
مجاهدة ومحاربة عبدة الأوثان الذين يشركون مع الله
إلها آخراً، والملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله تعالى لكي تكون كلمة الله تعالى
هي العليا ولكي لا يعبد إلا هو سبحانه حقيقة العبادة، وهذا ما أكدته الآيات
الكريمة حيث قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)([19]).
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي
كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)([20]).
ولكن قبل أن يقع السيف بين هؤلاء وبين المسلمين لابد من
توجيه الدعوة لهم للدخول في الإسلام الذي يكفل لهم ولغيرهم سعادة الدنيا والآخرة
بالحكمة والموعظة الحسنة وإفحامهم بالحجة البالغة حتى يصلوا إلى معرفة الحق، فإن
أبوا بعد ذلك إلا جحوداً وجب قتالهم وجهادهم حتى يسلموا أو يستسلموا فيرى الإمام
العادل والحاكم الشرعي وولي الأمر رأيه فيهم حسب ما تقتضيه المصلحة الإسلامية وهذا
متروك الخوض فيه إلى كتب الفقه.
الثالث: جهاد وقتال أهل الكتاب
يطلق على اليهود والنصارى والمجوس والصابئة بأنهم
أهل الكتاب، ولا يجب قتالهم ومجاهدتهم إلا إذا حاربوا الإسلام والمسلمين أو الذين
لا يلتزمون بذمة وعهد مع المسلمين الذين يعيشون معهم وهذا ما تشير إليه الآية
الشريفة: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ
دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)([21]).
فيلزم من هذا الحكم الإلهي مقاتلة هؤلاء إلى أن
يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية لدولة الإسلام ويلتزموا مع المسلمين بعهد وذمة،
وهذا الأمر يترك تفصيله إلى كتب الفقه أيضا لضيق المقام ولخروجه عن البحث.
الرابع: الجهاد دفاعاً عن الإسلام والمسلمين
وهذا هو الجهاد الدفاعي الذي يختلف عما سبق من
الأنواع أو أنه يجب على كافة المسلمين الذين تتعرض بلادهم لعدوان من قبل الكفار أو
المرتدين الذين يريدون النيل من بيضة الإسلام وطمس أصول الدين وانتهاك فروعه ومنع
شعائره وطقوسه وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «... وإنْ خافَ عَلَى
بَيضَةِ الإسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ قَاتلَ، فَيَكونُ قِتالُهُ لِنفسِهِ لَيْسَ
لِلسّلْطانِ لأنّ في دُروسِ الإسلامِ دُروسِ ذِكرِ محمد صلى الله عليه وآله وسلم»([22]).
الخامس: جهاد وقتال أهل البغي
وهؤلاء الذين يجب جهادهم هم الذين يخرجون على نظام
الحكم الإسلامي الصحيح ويحاربون الحاكم الإسلامي العادل للإطاحة به لتحقيق أغراضهم
الشخصية وأهدافهم الدنيوية، أو لفرض اجتهاداتهم وآرائهم الخاصة على الحاكم.
ولكي يتضح الأمر جليا سنتعرض لبيان من يجب جهادهم
وقتالهم.
الفئات الباغية التي يجب جهادها
الفئة الأولى
يجب جهاد وقتال كل من يبغي على الحاكم الإسلامي
العادل الذي يحكم بما أنزل الله سبحانه، والذين يعملون ضد نظام الحكم الإسلامي
الصحيح لأغراض شخصية وأهداف دنيوية كما حصل ذلك مع أمير المؤمنين عليه السلام
عندما خرج عليه طلحة والزبير وعائشة في معركة الجمل، ومعاوية في صفين والخوارج في
النهروان.
الفئة الثانية
هي الفئة التي تأبى الصلح والالتزام بالحكم الشرعي،
ويكون ذلك في حالة اقتتال فئتين من المسلمين بسبب الخلافات فيتدخل الحاكم الشرعي
أو المسلمون للإصلاح فتأبى إحدى الفئتين ذلك، فتستخدم القوة لفرض موقفها أو رأيها.
الفئة الثالثة
بغي الحاكم على الأمة والاستبداد برأيه وفرض الباطل
والمنكر عليها بالقوة والقهر، فيجب مقاتلة هذا الباغي ومنعه من الظلم والعدوان
والفسق والفجور وهذا ما قام به الإمام الحسين عليه السلام مع يزيد الفاسق في واقعة
كربلاء.
وبعد هذا العرض الموجز اتضح لنا مدى أهمية هذا
الفرض الإسلامي ودوره في رفع كلمة الله تعالى وجعلها العليا ودحض كلمة الباطل
وجعلها السفلى.
([1]) سورة الحج، الآية: 78.
([2]) سورة التوبة، الآية: 111.
([3]) سورة النساء، الآيتان: 74 و75.
([4]) سورة الأنفال، الآية: 39.
([5]) سورة الأنفال، الآية: 65.
([6]) نهج البلاغة: الخطبة 27. ميزان الحكمة: ج2، ص584، ح2665.
([7]) غرر الحكم: 1346. ميزان الحكمة: ج2، ص584، ح2666.
([8]) مشكاة الأنوار: 154. ميزان الحكمة: ج2، ص584، ح2668.
([9]) وسائل الشيعة: ج11، ص9، ح15. ميزان الحكمة: ج2، ص584، ح2671.
([10]) نور الثقلين: ج1، ص408، ح429. ميزان الحكمة: ج2، ص585، ح2675.
([11]) وسائل الشيعة: ج11، ص35، ح9. ميزان الحكمة: ج2، ص585، ح2678.
([12]) سورة النازعات، الآيتان: 40 و41.
([13]) معاني الأخبار: ص160، ح1. ميزان الحكمة: ج2، ص596، ح2742.
([14]) المصدر السابق.
([15]) مستدرك الوسائل: ج11، ص140، ح12651. ميزان الحكمة: ج2، ص596، ح2743.
([16]) غرر الحكم: 3232. ميزان الحكمة: ج2، ص596، ح2744.
([17]) غرر الحكم: 6370. ميزان الحكمة: ج2، ص596، ح2746.
([18]) بحار الأنوار: ج77، ص24، ح6. ميزان الحكمة: ج2، ص598، ح2756.
([19]) سورة الأنفال، الآية: 39.
([20]) سورة التوبة، الآية: 36.
([21]) سورة التوبة، الآية: 29.
([22]) وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج11، ص20، ح2.
إرسال تعليق