بقلم: محمد البغدادي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات
وأهمها وبهما تستقيم بقية الفرائض وتؤدّى.
وارتباط قضية الحسين عليه السلام بمبدأ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من الواضحات، بل لعل كونها من آثاره ونتائجه من المعلوم
عند كل أحد وقد نقل عن الإمام الحسين عليه السلام: «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً
ولا مفسدا ًولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله
وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي»([1]).
إلاّ أن هذا ليس الموقف الوحيد.
للأمر والنهي موردين مركزيين:
فمرة يكون الأمر والنهي في حالات جزئية فردية ضيّقة
حينما يعصي امرؤ معصية ما، فإنه يؤمر ويُنهى بالمراتب المعروفة فإن انتهى وإلا حرض
عليه الآخرون، أو قوطع، وأهمل.
ومرة يكون مورد الأمر والنهي حالات مهمة ضخمة يكون
طرفها السلطان والدولة والجماعة المستأسدة ونحو هؤلاء.
والحسين مارس الأمر والنهي مع طواغيت بني أمية بل
مع فرعونهم وهو في قمة تفرعنه وطغيانه وتمكّنه، وذلك حين كتب معاوية إليه يرهبه
ويتوعده فأجابه الإمام بأروع كتاب أذل به عزه وشموخه وكبرياءه، وفي حكاية كتابه
عليه السلام وكتاب معاوية فوائد لا نرغب فواتها:
تحريض مروان ابن الحكم لمعاوية ضد الإمام الحسين
عليه السلام
فقد روي: أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية ــ وهو
عامله على المدينة ــ: أما بعد: فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجلاً من أهل
العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي وذكر أنه لا يأمن وثوبه، وقد
بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما
بعده فاكتر إليّ برأيك في هذا والسلام.
فكتب إليه معاوية: أما بعد: فقد بلغني ما ذكرت فيه
من أمر الحسين، فإياك أن تعرض للحسين في شيء، واترك حسيناً ما تركك، فإنا لا نريد
أن نعرض له في شيء ما وفي بيعتنا ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك
صفحته والسلام.
كتاب معاوية للإمام الحسين عليه السلام
وكتب معاوية إلى الحسين بن علي عليهما السلام: (أما
بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقاً فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، ولعمر
الله إنّ مَن أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، فإن كان الذي بلغني باطلاً
فإنك أنت أعزل الناس لذلك، وعظ نفسك فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنك متى ما تنكرني
أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شق عصا هذه الأمة، وأن يردهم الله على يديك في
فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، ولا يستخفنك
السفهاء والذين لا يعلمون.
جواب الإمام الحسين على كتاب معاوية وتهديده

وأما ما ذكر أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه
إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله
إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضياً بترك ذلك ولا عاذراً بدون الإعذار
فيه إليك وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين.
ألست القاتل حُجراً أخا كندة والمصلّين العابدين
الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم
قتلتهم ظلما وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة
ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك.
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه، وصفرت لونه، بعدما
أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل،
ثم قتلته جرأةً على ربك واستخفافاً بذلك العهد.
أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد
ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الولد
للفراش وللعاهر الحجر».
فتركت سنة رسول الله تعمداً وتبعت هواك بغير هُدىً
من الله ثم سلطته على العراقين، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم
على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.
أولست صاحب الحضرميين الذي كتب فيهم ابن سمية إنهم
كانوا على دين علي صلوات الله عليه فكتبت إليه: أن أقتل كل من كان على دين علي،
فقتلهم ومثل بهم بأمرك، ودين علي عليه السلام والله الذي كان يضرب عليه أباك
ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.
وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، واتق
شق عصا هذه الأمة، وإن تردهم إلى فتنة، وإني لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الأمة من
ولايتك عليها ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
علينا أفل من أن أجاهدك فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته فإني استغفر الله
لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك
تكدني، فكدني ما بدا لك فإني أرجو أن لا يضرني كيدك في، وأن لا يكون على أحد أضر
منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلك، وتحرصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط ولقد
نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق،
فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا
وتعظيمهم حقنا فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا
قبل أن يدركوا.

وقد اطلع يزيد على هذه الرسالة وحاول أن يستفزّ
والده ويحرشه لاتخاذ موقف قاس من الإمام عليه السلام أو يرد عليه برسالة استنقاص
فأجاب معاوية: وما عسيت أن أعيب حسيناً، والله ما أرى للعيب فيه موضعاً([3]).
ماذا نستكشف من جوابه عليه السلام لكتاب معاوية
ما صدر عن الإمام عليه السلام من خلال هذه الرسالة
من أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ما لم يكن ليقدم عليه غيره ولا
له من الأثر لو كتب هذه الرسالة سواه، ويكفي بها سجلاً خالداً، على انحراف بني
أمية وكفرهم وهمجيتهم.
ولا نغالي إذا قلنا: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر هو المحرك المركزي لنهضة الإمام الحسين عليه السلام وهو المرجع لبقية
الأسباب وعنده تلتقي.
منكر معاوية ويزيد ابنه افضع من منكر الجاهلية
وطغاتها في زمن رسول الله
لكن، من المهم الالتفات إلى أن مستوى المنكر الذي
صدر من معاوية وولده يزيد وولاتهما وما رشح عن نظام حكمهما ليس منكراً كيف كان، بل
لو قلنا إن منكرات معاوية في سبيل هدم الكيان الإسلامي كله وفته تفتيتاً، وكذلك رد
الناس على أعقابهم إلى جاهلية ألعن من جاهلية أبيه أبي سفيان.

تصريح مسلم بن عقيل بأهداف الثورة الحسينية أمام ابن
زياد بعد اعتقاله
هذا، وقد أصحر مسلم بن عقيل بهدف الثورة ــ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ــ أمام الطاغية ابن زياد بعدما قال ابن زياد: اخبرني يا مسلم: لم أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئم،
فشتت أمرهم بينهم، وفرقت كلمتهم؟ ــ وهو نفس منطق مشركي قريش أيام الإسلام الأولى
ــ.
فقال مسلم: ما لهذا أتيت،
ولكنكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمرتم على الناس بغير رضى منهم،
وحملتموهم على غير ما أمركم به الله، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم
لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنا أهل
ذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([4]).
بل من قبل هذا كان سيد الشهداء عليه السلام على ما
روي قد سجل في وصيته المكتوبة لأخيه ــ ابن الحنفية ــ: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا
بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه
وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن
أبي طالب...»([5]).
إرسال تعليق