مأثرة الحسين عليه السلام في الشهادة، المواساة والموالاة الخالدة

بقلم: الدكتور مهدي حسين التميمي


والمواساة كمثل ما هي الموالاة حالة من التعاطف والنصرة مرهونة بظرفها وحالتها في سلوك البشر في كل جيل، وعلى وفق الاعتبارات السائدة، وتكون الموالاة هي الأخص في وحدة التعاطف المنحكمة إلى موقف مبدئي تندرج فيه الحالتان من وجوه التعاطف والنصرة معاً ليشكل ذلك عنواناً من عناوين الاعتقاد.

ويلاحظ تماماً أن الولاء الديني، كمثل ما هي النصرة فيه تتفوق على ما سواها في ذلك، وهي الأكثر شأناً وقد كان تطورها ورسوخها تجسيداً للبعد المعتقدي في الأديان، وقد سرى مفعوله على المدى الطويل في حياة الأفراد والشعوب، وكان للأنبياء والأولياء حصة من ذلك، وفي حياة الشعوب نجد الشاهد التاريخي لذلك في حيوية الدور والمكانة المعتبرة لتلك الشخوص المؤثرة في مجرى حياتها، وحالة الإمام الحسين عليه السلام في المواساة والموالاة هي من بين تلك المشاهد الأثيرة لذلك اللون التاريخي المتجدد من المواساة والموالاة معاً، والتي يحمل تاريخ الأديان ألواناً منها، كانت ولا تزال تقوم على وفق طقوس ومراسيم تؤدى بالطرق والوسائل التي يعهدها كل شعب بحسب موروثه المعتقدي.

ومن بعض تلك المشاهد في التعبير عن المواساة والموالاة ما يكون في الذكرى المتجددة لواقعة الطف على هذا النحو الذي تتعدد مظاهره في مختلف البلدان التي يقيم فيها المتأسون والموالون للامام الحسين عليه السلام معالم الاستذكار لها بوسائل متعددة، هي عنوان ذلك الامتداد العاطفي في حالة من الرشد، أو في حالة من الغلواء، ما يوفي به المواسون والموالون، العارفون بتفاصيل واقعة الطف، والمستوعبون لدروسها، أو المنغمرون بعواطفهم في ذلك وعلى وفق وسائلهم في التعبير عن ذلك، متأسين بما كان من بشاعة وفظاعة ما جرى لآل بيت النبوة في واقعة الطف من القتل المروّع، والتمثيل بجثث الشهداء فيها وحمل رؤوسهم على الرماح ولمسافات طويلة، وما لحق بالسبايا من النساء والأطفال خلال ذلك من العسف والعنت، وما مر بعدئذ من المشاهد الانتقامية الفظة الأخرى التي جرت لآل بيت النبوة على مر السنين التي أعقبت واقعة الطف.

والتي حركت بواعث الحزن والأسى في نفوس مواليهم، وقد تنوعت مظاهرها وأشكالها ما بين إقامة مجالس الأحزان، واحتفاليات الاستذكار لواقعة الطف، والتهافت على مراقد الأولياء الشهداء من آل بيت النبوة ومناصريهم، وجاهلٌ بحقائق السيرة الدينية للشعوب من ينكر على الناس مثل هذه المشاهد وطقوس التعبير عن المواساة والموالاة لرموز الأديان والمضحين من أجلها، فقد شاهدت في أثناء زيارتي لبعض المعابد في الهند ذلك الإقبال على أضرحة الأولياء ومظاهر التقديس لهم، مع الاعتداد بسجل الأحداث المرتبطة بحياتهم والاحتفاء بها.

وكمثل ذلك ما شاهدته في زيارتي لبعض المعابد في اليابان، وقد رأيت خيوط الأقمشة بألوانها المتعددة معقودة على جانب من ساحة النصب التذكاري للقنبلة الذرية التي ألقيت على مدينة هيروشيما، كما شاهدت النذور، وماء التبرك في أفنية الكنائس والمزارات المسيحية، وفي كل ذلك ما يقيم الدليل على أن مشهد التعبير عن المواساة والموالاة للأولياء هي على الحالة الواحدة من المكانة في النفوس معبراً عنها بشتى الصيغ والأساليب، وهي تمتد لتشمل كل نفس من كل دين وهي تتعاطف مع الفجيعة، وهو هذا الذي دفع بالبعض من المسيحيين للمشاركة في مواكب العزاء الحسيني وانه لعزائهم بفجيعة السيد المسيح (عليه السلام)، ومشاركة الصابئة في المواكب الحسينية، وانهم ليستذكرون في ذلك فاجعة النبي يحيى بن زكريا (عليه السلام)، وينصب نفر من الصينيين العاملين في احدى شركات التسويق في مدينة الناصرية موكباً لاستقبال زوار كربلاء المارين عبرها ولأيام، ثم لينتقلوا منها الى مدينة كربلاء وحتى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، ويذكر "ليون" الرجل البوذي منهم: ان قضية الإمام الحسين عليه السلام هي قضية عالمية تخص كل الإنسانية، وهو هذا العائد الرسالي الكبير لثورة الحسين (عليه السلام)، في توالي، وتواتر، وشيوع استذكارها وعلى هذا النحو المتجدد، والمتفاوت المشاهد، وهو هكذا يجسد الغاية من استذكار الأحداث المأساوية في التاريخ الإنساني.

وقد ظلت الحالة الحسينية في المواساة والموالاة تكتسب خصوصيتها في طبيعة المشهد وتكرره، وتنوع مظاهره، ففي المشهد الواحد من مواكب الذكرى لمأساة الإمام الحسين عليه السلام تجد ألواناً من التعبير تمتزج فيها العاطفة المرهفة المعبر عنها بالدموع، مع جلسات الاستذكار لما جرى في واقعة الطف تتخللها جوانب من الوعظ والإرشاد مع أناشيد الحزن ترافقها الدموع، ويمضي الشوط هكذا في مسيرات تتنوع فيها مشاهد التعاطف مع الأحداث المروعة في ألطف، متفاوتة بين الضرب الخفيف على الصدور والرؤوس إلى الضرب القوي عليها تأسياً، وتتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك من حالات الأسى والتي تبلغ ذروتها في مسيرة الحزن الراجلة لمسافات طويلة تمتد من المدن البعيدة من كربلاء وإليها وهي تحمل معها كل ما يمكن التعبير فيه عن صدق المواساة والموالاة، مع ذلك السخاء في تقديم المآكل والمشارب لوفود الزائرين وعلى امتداد المسافات البعيدة عن كربلاء وحواليها.

وقد وجدنا من الموالين من ينحر الذبائح التي يحرص على تهيئتها خصيصاً لأيام عاشوراء، وثمة من يخصص جزءاً من محصول أرضه لهذه الغاية، وهو يرى أن البركة تحل في إيرادها وفي المال الذي يبذله بسخاء لمثل هذه المناسبة، وفيما تتوزع محطات الخدمة للراجلين بين المدن والقصبات البعيدة والقريبة من مدينة كربلاء المقدسة، ويقدم فيها من بين ما يقدم فيها "التمر" مخلوطاً بعصارة السمسم "الراشي"، المادة الغنية بالطاقة والحيوية والتي نوه بها الدكتور صبري القباني: أنها هي التي تمنح سكان الصحراء القوة وبعض صفاتهم الأخرى كالرشاقة، والطول، والمناعة ضد الأمراض، وفيما كان في تاريخ العرب وقصص حياتهم وحروبهم دور كبير للتمر كغذاء رئيس من أغذيتهم وبصورة تفسر كيف أنهم استطاعوا أن يجدوا القوة على أن يفتحوا البلاد والأمصار ويقاتلوا الدول، وليس في جوف المقاتل العربي سوى بضع تمرات، وذكر ان ابن الحمام السلمي في غزوة بدر قد انتحى ناحية له ليمضغ بضع تمرات حسب عادة المحاربين يومئذ([1])، وما يدرينا فلعل من المقاتلين العرب في واقعة الطف من كان له مثل ذلك مما لم ننبأ عنه بخبر يقين.

ومن الشواهد ذات الدلالة في مشهد المواساة بالصبر والفجيعة ما وجدناه في ذلك الموكب الذي حمل اسم "موكب النبي أيوب" الذي انتظم خلف لافتته لفيف من المواسين في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) وهم من أهل الحي المجاور لمقام النبي أيوب (عليه السلام) والكائن في منطقة ما بين ناحية القاسم ومدينة الحلة مركز محافظة بابل، فكأن النبي أيوب (عليه السلام) هاهنا يعزي من خلال هؤلاء الإمام الحسين (عليه السلام) في فجيعته والتي اشتملت في مأساته الدورة الكاملة للشهادة في التاريخ الرسالي.

ومن المشاهد الأثيرة من مشقات الزحام الشديد، والآلام في مسيرة الولاء والعزاء ما لم تكن فيه الآلام الناتجة من عثرات الطريق، وما يكون من الضرب على الصدور والرؤوس، وما يصيب البعض من الكدمات والجروح في أثناء ذلك مؤذية او مؤلمة لهم ومثالها في الجانب الاعتباري من ذلك ما يكون للمرأة التي لا تبالي بمشهد الألم والدم النازف منها في أثناء الولادة ولا يكون لذلك من أثر سلبي على صحتها، وتعليل ذلك أن المرأة في ذلك، وكمثل ما يكون للرجل وهو يتحمل عنف الصدمات وأهوال المواجهة لأقداره معتداً بإرادته في ذلك ما يفسر جانباً مما ذكرناه في موضوعنا عن "الصحة النفسية والطب الإداري" في أن ثمة ما يكون من المعالجة بالصبر، وأن في جسم الإنسان صيدلية تجهزه في الحالات الطارئة وبحسب الطلب من مركز القرار فيه بحاجته إلى المادة العلاجية.

وان ثمة ما يشبه مركز الإسعاف الداخلي والذي يتولى إسعاف الأجسام المتحفزة والمتوقدة الإرادة بما يلزمها للصمود في مواقع المواجهة وعند الأعباء الجسيمة، وهو هكذا الذي قد حصل للأنبياء أولي العزم ولأوليائهم من الشهداء، أنهم قد استطاعوا بعزائمهم معززين بموارد الإمداد الروحي في ذواتهم، ومع ذلك القدر غير المحدود من إسعاف السماء وهي تمدهم بالفيض من القدرات الإضافية التي تقوي عزائمهم في ان يمضوا قدماً في تبليغ ما كلفوا به وتحمل تبعاته ومع كل ما كلفهم ذلك من الكيد وألوان البطش ما ذكرنا نبذا منه في موضوعنا "رموز الشهادة والتضحية في الأديان"، ليكون لهم من ذلك شاهد من الذكر في الأرض تتعالى معه شواهد الاستذكار بالمواساة والموالاة لهم، هي التعبير الحي عن فيوض المشيئة الإلهية في إرادتها الغالبة، من أجل أن يظل الذكر الرسالي ومشاهده هذا الذكر وعلاماته في التضحية والشهادة شاخصة في الوجود ما شاء الله لها أن تشخص معبرة في ذلك عن خلود المشهد الرسالي في كل الأزمان عنواناً لخلود الله في الوجود.




([1]) الغذاء لا الدواء، ص: 96-97. 

إرسال تعليق