بقلم: الدكتور مهدي حسين التميمي
وبينما يشهد التاريخ الإنساني عامةً، والتاريخ
الرسالي منه خاصةً حالات من العزم والعزيمة، والصبر على المكاره والأعباء، ما كان
للأنبياء والأولياء منه الحصة وعلى القدر المتفاوت فإن في مشهد الصبر على الفجيعة ما
كان للنبي أيوب والإمام الحسين - عليهما السلام- يشكل جانباً مما يصح التمثل
والاعتداد به، مع الفارق بين عوامل وآثار الفجيعة لكليهما.
وان المقابلة الموضوعية بين مشهد المعاناة
والمكابدة للنبي أيوب، والإمام الحسين - عليهما السلام - في أبعادها وتبعاتها ترسم
صورة للمقارنة الموضوعية بين حالتين متقابلتين في مجال الصبر، ومتفاوتتين في
الطبيعة والنتائج المترتبة عليهما، كمثل تفاوتهما في مشهد الذكر والاحتفاء بهما
على مر الأحقاب.
فبالنسبة للنبي أيوب - عليه السلام- يروي (سفر
أيوب) من العهد القديم ــ التوراة ــ: انه كان رجلاً مستقيماً يتقي الله
ويجانب الشر، وولد له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت قنيته سبعة آلاف من الغنم
وثلاثة آلاف من الإبل وخمس مئة فدان بقر وخمس مئة أتان، وله عبيد كثيرون جدا، وكان
بنوه يذهبون فيصنعون مأدبة في بيت كل منهم ويبعثون فيدعون أخواتهم الثلاث ليأكلن
ويشربن معهم، فإذا ما تم مدار أيام المأدبة كان أيوب يبعث فيقدسهم ثم يبكر في
الغداة فيصعد محرقات([1])
على عدد جميعهم لان أيوب كان يقول لعل بنيَّ خطئوا وجدفوا على الله في قلوبهم،
وهكذا كان يصنع كل الأيام (أيوب1:1-6).
وأراد الرب ان يختبر تقوى أيوب بعد أن أملى الشيطان
باله لأيوب فكانت له من فتنته في البلاء: انه اتفق يوما ان بنيه وبناته كانوا
يأكلون ويشربون في بيت أخيهم الأكبر فأقبل رسول إلى أيوب وقال له: كانت
البقر والأتن ترعى في جانبها فوقع عليها أهل سبأ وأخذوها وقتلوا الغلمان بحد السيف
وأفلّتُّ أنا لأخبرك، وفيما هو يتكلم أقبل آخر وقال قد سقطت نار الله في السماء
وأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم... .
وفيما هو يتكلم أقبل آخر وقال قد افترق
الكلدانيون ثلاث فرق وهجموا على الإبل فأخذوها وقتلوا الغلمان بحد السيف..، وفيما
هو يتكلم أقبل آخر وقال: كان بنوك وبناتك يأكلون ويشربون في بيت أخيهم
الأكبر، فإذا بريح شديدة قد طلعت من عرض الصحراء وصدمت زوايا البيت الأربع فسقط
على الغلمان فماتوا وأقبلت أنا وحدي لأخبرك، فقام أيوب وشق رداءه وحز شعر رأسه وخر
على الأرض وسجد وقال: عرياناً خرجت من جوف أمي وعريانا إلى هناك، الرب أعطى والرب
أخذ، فليكن اسم الله مباركاً..، وفي هذا كله لم يخطأ أيوب ولم يقل في الله
جهلاً" (أيوب 1: 1-23).
ومرة أخرى أقبل الشيطان لأيوب وقد أصبح جلداً
بجلد..، وليصبهُ بقرح خبيث من باطن قدمه إلى قمته، فأخذ له خرقة ليحتك بها وهو
جالس على الرماد، فقالت له امرأته: "أإلى الآن أنت معتصم بسلامتك جدّف على
الله ومت"، فقال لها: إنما كلامك كلام إحدى السفيهات، أنقبل الخير من الله
ولا نقبل منه الشر" وفي هذا كله لم يخطأ أيوب بشفتيه (2:1 -12).
وتستبد بعدئذ بأيوب الظلمات وظلال الموت وليقر
عليه غمام، ولتروعه كواسف النهار، وليشمله في الليل الديجور (4: 3-4)، وذات يوم
سمع ثلاثة من أخلاّئه ما أصابه من البلوى فأقبل كلاً من مكانه ليرقوا له ويعزوه،
فرفعوا أبصارهم من بعيد فلم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا وشق كل واحد منهم رداءه
وذروا تراباً في ارؤوسهم نحو السماء، وجلسوا معه إلى الأرض سبعة أيام وسبع ليالٍ
ولم يكلمه أحد بكلمة؛ لأنهم رأوا ان كآبته كانت شديدة جداً" (2: 12-13).
وكانت العاقبة بالحسنى لأيوب بعدئذ فقد رد من جلائه
حين صلى لأجل أخلاّئه وزاده الله ضعف ما كان له قبلاً، وزاره جميع أخوته وأخواته
وكلُ من كان يعرفه من قبل وأكلوا معه خبزاً في بيته، ورثوا له وعزوه عن كل
البلوى.. وأهدى له كل واحد منهم نعجة وخرصاً من ذهب، وبارك الرب آخرة أيوب، فأكثر
من أولاده، وكان له من الغنم أربعة عشر ألفاً، ومن الإبل ستة آلاف وألف فدان من
البقر وألف من الأتان.. وعاش بعد هذا مئة وأربعين سنة، ورأى بنيه وبني بنيه إلى
أربعة أجيال، ثم مات شيخا قد شبع من الأيام" (أيوب 42: 11-16).
وهكذا كانت معاناة
أيوب اختباراً لصبره على البلوى بما وردته من أخبارها وقد تقبلها بالرضا
والاطمئنان، والثقة بالله لتسجل له مأثرة الصبر اعتبارا وعبرة للناس في كل زمان،
وفيما كانت له حصة وافرة من الجزاء المعجل في دنياه، فيما ان الإمام الحسين - عليه
السلام- لم ينبأ بواقعات البلاء بل استقبلها مفردات مريرة وشاقة في وقائع مأساوية
تمثلت في واقع الطف فصولاً متتابعة من العناء والمكابدة المصحوبة بنزيف الدم، وقد
قصد ساحة المواجهة بكل مخاطرها لتكون له ولأسرته ولخاصة صحابته منها تلك الحصة
البالغة من التنكيل والبطش والذي تلاحقت فصوله الدموية في واقعة الطف وما بعدها.
وفيما لم يشهد التاريخ مثل تلك الحالة النادرة في وفود الحسين - عليه السلام- على
ساحة الهلاك المحقق مع أهله، وقد واتته فرصة الخلاص ليستكين الى دعة الحياة
ونعيمها لو راودته نفسه الرضوخ لمطالب الحياة الدنيا، ولو كان الحسين - عليه
السلام- قد فعل ذلك لحكم على نفسه بغير هذا الحكم الذي ارتضاه له التاريخ ان يسجل
اسمه وذكريات الواقعة التي انتصب بشموخ فيها، ولا ان يكون له مثل هذا المشهد
الأثير من الذكر والاحتفاء بدوره البطولي في الطف، وفيما لم يكن له من حياته
التالية على الأرض جزاؤه المعجل كما كان للنبي أيوب - عليه السلام- في خاتمة حياته
مما ورد ذكره، ولم يصح ذلك في أهل بيت النبوة من سلالة الإمام الحسين – عليهم
السلام- والذين لقوا من بعده حصة مؤجلة من الكيد والتنكيل حتى انه لم يسلم أحد من
ذريته من الكيد والملاحقة، ثم القتل أو دسّ السم له.
وعوضاً عن تلك المحنة الجارية
في حياتهم فإنهم كوفئوا بالقدر الكبير من شخوص الذكرى، والاحتفاء المتجدد بسيرتهم
ومواقفهم، وحيث تقام احتفالية الشهادة لواقعة الطف في موقعها، كمثل ما يقام ذلك
لكل الشهداء من آل بيت النبوة، حصة مؤجلة ودائمة من التكريم لمشهد الشهادة،
ولمأثرة الصبر في ساحتها، وبكل مظاهر الاحتفاء ومعالمه، حالة ارتقى فيها مشهد
الذكر للإمام الحسين عليه السلام وسلالته في معالم وصور لم يبلغها مشهد من الذكر
الا في الاستشهاد، عظة واعتباراً بالشهادة وبالصبر معاً.
وفيما لم تقم لمشهد الصبر
لأيوب ومحنته فيها مثل هذه الاحتفالية المتكررة في كل عام لشهادة الإمام الحسين -
عليه السلام - ومثل هذا التكريم والاحتفاء بمقامه هي من بعض مشاهد الذكر لتضحيات
الأنبياء، وموارد الذكر لشهادة الأولياء.. وهي في كلها العنوان لما في الشهادة من
مكانة لا تدانيها مكانة في الوجود، شهادة من تعمد بالدم، أو تعمد بالولاء لله تعالى،
والتضحية من اجل الله الذي ارتبط بمجده وخلوده مجد وخلود من آثر الصلة والتواصل
بالله.
إرسال تعليق