بقلم: الأستاذ يحيى كاظم الثعالبي
الحمد لله الذي شرفني بالمشاركة في ذكرى الإمام الشهيد الحسين بن علي ريحانة رسول الله وأبن بنته الزهراء البتول(صلوات الله عليهم)، هذه الذكرى التي أسيلت الدموع مدراراً وخشعت لها الأبصار وتصدعت لمرارتها القلوب، وأطمأن بها الحق المسلوب، وأرتجف لهيبتها الباطل المدموغ هذه الذكرى التي تذكر المسلمين بحقيقة دينهم تلك الحقيقة التي طعنها في الصميم قوم لم يدخل الإيمان في قلوبهم فضلوا في مفاوز الظلم يتخبطون وأذيقوا العذاب في العاجلة لأنهم كانوا ظالمين، الحقيقة الإسلامية التي شملت كل شيء وعالجت كل أمر، وحققت للنفس الإنسانية طمأنينتها، فالإسلام دين التوحيد لتتحد القلوب والعقائد فتجتمع الآراء وتعمل للخير العام دين الإسلام ليسلم الناس من الإعتداء على نفوسهم وأعراضهم وحريتهم وما يملكون والإسلام دين الحق ليعطي كل ذي حق حقه، فإذا انكر التوحيد عدنا الى وثنية جاهلية حمقاء متفرقة مفرقة، واذا نقض الإسلام حطمتنا العداوات وأكلتنا الأطماع، واذا اغتصب الحق نهضت دولة الباطل وساء المصير، فلابد من الجهاد، وما ترك الإسلام الدنيا فوضى، ولا أراد الدين عبادة صماء وإنما أرادها دنيا عدل وسعادة ودين وأخوة وخير.
أيها المحتفلون لستم أول من بكى الحسين وذكرى الحسين، فأحب الحسين(عليه السلام)، سلو المنابر في بلاد المسلمين كافة تخبركم بمآثره، استنطقوا المساجد والمجالس والمعابد تعلمكم بجهاد بن علي(عليه السلام)، سلوا التاريخ يدهشكم بتضحية الحسين، اسمعوا الشعر، نشيد الزمن يفت أكبادكم في فاجعة ابن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، إنه لذكر خالد.
يا ابن رسول الله أحبك الناس حباً روحانياً خالصاً لأنك أردت أن تنصر الحق فنصرته وتخذل الباطل فخذلته، والناس - يا سيدي - في كل مكان يبحثون عن الحق وينصرونه ويفجعهم الظلم فيقبحونه، وإن مروءتك يا مولاي دنيا فخر أولست الذي خطبت في جماعة الحر بن يزيد- وقد أرسل ليصدك عن دخول العراق - فقلت:أيها الناس، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: (( من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالأثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله...)).
يا سيدي، يقدسك عشاق الفضيلة لأنك حفظت عفاف أرينب زوجة عبد الله من فجور يزيد، ولأنك جمعت بين قلبين محبين كادت الرذيلة تحطمهما بتفريق.
أينسى الناس مروءتك - وأنت في أحرج المواقف - أولم تقل للذين جاؤا معك من المدينة وقد سمعت في طريقك بمقتل مسلم وهاني: (وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف فليس عليه منا ذمام..!) فتفرق عنك من أردت له السلامة... وهل للمروءة صورة أوضح من صورة سيد مقدام لا يهاب الموت ولا يخشى الطعان، رابط الجأش ثابت الجنان يحف به فرسانه وهم قليل عديدهم، كثير عدوهم، يقف هذا السيد أمام جيش عدوه وهو موقن أنه مقتول، فيعلن مبدأه ويقول: (ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ ذلاً وندماً) إنه يود أن يكافح وحيداً إلاّ أنهم بايعوه على النضال.
تعالوا، معي لتروا بطل النهضة في صورة أخرى فقد سمعت زينب ما عزم عليه الحسين فنادت ( واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم) فجاء اليها الحسين(عليه السلام) ونصحها وختم نصيحته بقوله: (يا أخية إني اقسم عليك لا تشقي علي جيباً ولا تخمشي وجهاً ولا تدعي بالويل والثبور إن أنا هلكت).
ولم تكن مروءة الحسين(عليه السلام) وقفاً على أصحابه وأقربائه بل كانت إنسانية عامة حتى بلغ احسانه اعداءه فما من موقف وقفه إلاّ ذكرهم فيه ونصحهم ووعظهم خوفاً عليهم من عذاب شديد، فالحر الذي أرسله ابن زياد ومعه الف فارس لكي يقطع الطريق على الحسين كان هو وقومه قد أشرفوا على الهلاك، فامر الحسين(عليه السلام) أصحابه وفتيانه فقال: (اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفا) فكان من فضيلة هذه المروءة أن انحاز اليه الحر وكان من الشهداء... والمسوا هذه المروءة في ضمير الشهيد تجدوه يتفقد صرعى الطف، ويدفع عنهم ذئاب الطمع، وجنود الباطل، فذاك مسلم بن عوسجة الأسدي من انصاره خر صريعاً فمشى اليه الحسين - وكان به رمق - فقال: (رحمك الله يا مسلم بن عوسجة) انه يضمد قلباً امتلأ بالإيمان، إنه ليترحم لجندي باع دنيا ذل بأخرى عز وكرامة.
ورأى حسين النخوة(عليه السلام) زوجة الكلبي وهو يقاتل تحمل عموداً وهي مقبلة تقول (فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد...) فناداها الحسين(عليه السلام) وقال: (جزيتم من أهل بيتي خيراً أرجعي رحمك الله، فإنه ليس على النساء قتال...) ولما قتل الكلبي ذهبت إليه تمسح التراب عن وجهه وتقول له: ((هنيئاً لك الجنة..!)) فأمر شمر فشج غلامه رأسها بالعمود فماتت.. وكان حسين الرجولة(عليه السلام) يهجم على أعدائه لينتصر لأولئك الذين باعوا أنفسهم لله مشتاقين فيبدد عنهم جحافل الجبن والغدر.
ثم أنظروا هذا القائد المنافح الناصح المؤمن بالحق العامل على احقاقه بالروح وقد سقط على الأرض فأدركه طفل هو أبن أخيه فجاءه وغد من جيش يزيد وأهوى عليه بالسيف فصاح الطفل: (اتقتل عمي..!) فضربه الغاشم بالسيف وقطع يده فصرخ الغلام فأفاق الحسين(عليه السلام) من سكرة الموت وقال له: (يا ابن أخي أصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين).
هذه مروءة الحسين(عليه السلام) وهذه نخوته وهذا جهاده الذي الدال دولة وهدم ظلماً، فهل نحن مؤمنون حقاً بالمروءة، ومتى نعمل..؟ أنكتفي بالدموع..؟ أنسير ظالمين مظلومين، وحتى متى..؟
إرسال تعليق