الحسين يدافع عن حقوق الإنسان

بقلم: الأستاذ عبد الحسين الراضي

بدأت قصة الصراع والتخاصم منذ نشوء الحضارة التي ولدت إلى جانبها السيطرة والعبودية. وباستمرار تلك العبودية أو تلك السيطرة ضل النضال مستمراً على مسرح الحياة للتخلص والتحرر منها.

وقد اختلفت وجهات نظر تلك الجماعات التي كانت تقوم بصد ذلك الطغيان بالنسبة للتطور العسكري والإجتماعي فمنها من كان يحول دون استئثار طبقة من الحكام بالحكم، غير انها حالة انتصارها تنهج مسلكاً مماثلاً للفئة التي قاومتها لذا لم يشهد العالم خلوداً لها، كما لم تكن لها القدرة الكافية على إعزاز كيانها وتحصين مركزها العام لأنها لم تستهدف تحرير الأفراد، ولم تؤمن بذاتية الإنسان.

وقد سايرت حياة الأفراد منذ القدم نهضات اصلاحية تبنت تقويض اسس النظم التي استعبدت الإنسان فرفعت علاقة الأفراد وأمنت حقوقهم وحددت واجباتهم نحو مجتمعاتهم. وليس من الغريب عن الذهن الإنساني أن الإسلام وحده هو الذي من الفرد قوة اعلى من قوته واشعره بالعزة اكثر مما يشعره بالإستعباد، وحقق له كيانه وشخصيته أكثر مما استذله واهانه، وأخرج الفرد والجماعة من نطاق الغايات الصغيرة الى فسوح الأهداف العليا، والى آفاق الإنسانية الرفيعة. فأعلن المساواة بقوله تعالىيا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكموقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس سواسية كاسنان المشط) كما نص على صيانة حرية الناس وحفظ حقوقهم: كالحرية والتملك والحياة والأمن ومقاومة الظلم. فدعى الناس الى احقاق الحق ونشر العدل بين الأنام وأمرهم بأن يغيروا المنكر وقع من حاكم أو رعية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه) و (من رأى منكم منكراً فليغيره).

وقد نشأت في كل أمة وزمان طبقة أخذت على عاتقها الجهاد في سبيل تحقيق الإصلاح والوقوف بوجه طغيان الحاكمين وتحقيق العدالة الإجتماعية كي يستطيع كل فرد أن يحقق ذاته في الوجود الكوني، وفي سبيل هذه الغايات الإصلاحية يضحي أولئك الرجال بأنفسهم مهما كان الثمن.

فما كان الحسين (عليه السلام) في ثورته على يزيد إلاّ مثال الرجل المدافع عن حقوق الإنسان التي أقرتها رسالة جده وانتهج عليها السلف الصالح من الحكام في الصدر الأول للإسلام، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فاستعبدوا الناس وتحكموا عليهم بدون رضى منهم انكروا حقوق الإنسان وأزدروا بهافشهد الناس في عهد أمية حكماً غريباً عن ديمقراطية الإسلام وتعاليمه السامية مما أدى الى إثارة حفيظة الشعور الإنساني عن طبقة كبيرة ممن تفهموا الواجب المقدس وآمنوا برسالتهم في هذا الوجود.

أجل نهض الحسين بأعباء هذه الحركة الإصلاحية آخذاً بسفينة المسلمين الى شاطئ الأمن والسلامة مضحياً بنفسه وعياله في سبيل هذه الغاية، فهو القائل (اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان أو التماس شيء من فضول الحكام، إلاّ لنرد معالم دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك. فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك).

حقاً لقد كان هذا شعاره في الحياة. وكان ذلك هو هدفه الذي لم تمل  عنه عيناه، فانبرى لقيادة الناس على النهج الواضح المرسوم بعد أن آلت أليه الأمور، فتهيأ بقلبه العامر على الإضطلاع بالأمر ومجاولة الأحداث.

رأى جموعاً تجيء دارعة تدج بالسلاح. ثم يلتفت يميناً وشمالاً فيرى حاضراً مراً صخاباً بصليل السيوف وقعقة الرماح وأزيز القسي عند انطلاق النبال. فلم يكترث بل أخذ ينتقل كالنجم السيار لا يهدأ له قرار. فلمثل هذه الحياة الحاملة بالدماء عاش ولمثل هذا اليوم ادخره جده الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والى الغاية التي من اجلها يخوض غمار القتال كان يرنو ببصره وهو طفل صغير.
بقي الحسين (عليه السلام) في محنته هذه قوياً صابراً يسدد خطاه الى هدف واحد لم يبرح مطلقاً مرمى بصره، فلم ينسَ أبداً في زحمة هذا الصراع ولجة هذه الآلام أن له في دنياه رسالة وأن وجوده في هذا الوجود يمنع الحق من طغيان الباطل.

يا لها من رسالة مجيدة ابلغ دلالة على ما في النفس البشرية من مقاييس الرقي والعظمة ( ولسوف ينطلق الزمن في بروجه بالجميع وتنطوي صحائف الرجال فلا ينشرها بعد على الأجيال إلاّ ذكر يرفع بصاحبه أن يهوي به الى قرار. فإذا ذهب العمر وبقي الذكر فستظل تنشر من امجاد الحسين (عليه السلام) اسفاراً تجعله في الموت أقرب الى حسد عدوه منه في حياته) ذلك انه اشترى الحق بهذه الدنيا فراجت سلعته ونفقت بضاعته وضلوا هم عن سوائه فأقبلوا على تجارة مآلها عند الأحقاب المتعاقبة ثم عند ربهم الخسران والبوار.

فالسلام عليك يا أبا عبد الله يا سيدي... وعلى المستشهدين بين يديك... قضيت شهيداً في ساحة البطولة الخالدة فخلفت لنا تأريخاً لا نقرأ فيه غير الجد. فلا غرور يا سيدي- فإنك المثل الأعلى للشدة في الحق، صدعت به لا تخاف لومة لائم، فجالدت الباطل بالإيمان، وصارعته بالعقيدة، وكافحته بالعبر. وكان ربك قديراً على عصمتك من اذى الناس ولكنه أراد أن يذيقك حلاوة النصر بعد مرارة الصبر.

ويفتح أعين الذين آمنوا: بأن الموت في سبيل الله هو الحياة الخالدة. وأن أهواء النفوس الحرة ومطامع القلوب الكبيرة أحرى بها أن تكون وسيلة وأجمل بها أن لاتكون غاية. وأن ذوي المثل العليا شعل تضيء للناس فلا يضيرها أن تفني ما دامت قد أفاءت على الجموع الضياء.

بلى – يا سيدي- أضاءت نهضتك المسالك وأنارت لنا المرافق تراها بصيرة المؤمن كلما استشفت حجاب التاريخ عنواناً وضياءاً في حوادث الدهر وجبين الأيام.

من أجل ذلك مكر الله بالذين مكروا بك ، فأذن للزمن العاتي أن يعبث بهم. فكنت انت المعول الهدام في تحطيم دعائمهم وإخفاء رسومهم. إذ مزقتهم ثاراتك بيد المؤمنين برسالتك شر ممزق واذاقتهم عذاب الهوان وتلك عقبى الظالمين.

فإذا كان المسلمون اليوم يترنمون بنهضتك من دون أن يفقهوا أسرارها ويرددون ذكرها من غير أن تترك فيهم آثارها، فما برح لها في بعض النفوس أثر وذكرى تنفع المؤمنين بالموعظة، وتدعوا بالحكمة وتهدي الى سبيل الكرامة والحرية والحياة. فما أجدر القلوب الواعية على اختلاف منازعها أن تخشع اجلالاً ليومك. يوم انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وسلطان الجهالة. الى ظلال التوحيد والوحدة، وميادين الوئام والمودة، وفسوح الكرامة والعزة.

إرسال تعليق