على قدر اليقين تتفاوت مراتب المؤمنين وإيمانهم


بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية

الفصل الأول: في فضله


قال الله تعالى: ((وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ))(1).

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من(2) أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أوتي حظه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل(3).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم لما قيل له: رجل حسن اليقين كثير الذنوب، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما آدمي إلا وله ذنوب، ولكن من كان غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب، لأنه كلما أذنب ذنباً تاب واستغفر وندم، فيكفّر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة(4).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: اليقين الإيمان كله(5).

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: ليس شيء إلا وله حد. قيل له: جعلت فداك فما حد التوكل؟ قال: اليقين.  قيل: فما حد اليقين؟ قال: ألا يخاف مع الله شيئاً(6).

وقال عليه السلام(7): من صحة يقين المسلم أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فإن الرزق حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت، ثم قال عليه السلام(8): إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط(9).

أراد عليه السلام(10) بقوله: bولا يلومهم على ما لم يؤته اللهv أن لا يشكوهم على ترك صلتهم إياه بالمال ونحوه، فإن ذلك شيء لم يقدره الله له ولم يرزقه إياه، ومن كان من أهل اليقين عرف أن ذلك كذلك فلا يلوم أحداً بذلك، وعرف أن ذلك مما اقتضته ذاته بحسب استحقاقه وما أوجبته حكمة الله في أمره(11).

وقال عليه السلام(12): إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين(13).

وقال عليه السلام(14): قال أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر: لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه،وأن ما أخطأه(15) لم يكن ليصيبه(16).

وقال عليه السلام(17): إن أمير المؤمنين جلس إلى حائط مائل يقضي بين الناس، فقال بعضهم: لا تقعد تحت هذا الحائط فإنه معور، فقال عليه السلام(18): حرس امرئ أجله، فلما قام عليه السلام سقط الحائط. قال: وكان عليه السلام مما يفعل هذا وأشباهه، وهذا اليقين(19).

وعن صفوان الجمال(20) قال: سألت الصادق عليه السلام(21) عن قول الله عزّوجل: ((وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُما))(22) فقال: أما إنه ما كان ذهباً ولا فضة، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا أنا من أيقن بالموت لم يضحك سنه، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله(23).

هكذا رواه الكافي، ولعله سقط من النساخ شيء، وتأتي الكلمة الرابعة في رواية أخرى(24).

وعنه عليه السلام(25) قال: كان أمير المؤمنين يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الضار النافع هو الله عزّوجل(26).

وعن سعيد بن قيس الهمداني(27) قال: نظرت يوماً في الحرب إلى رجل عليه ثوبان، فحركت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال: نعم يا سعيد إنه ليس من عبد إلا وله من الله عزّوجل حافظة واقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خليا بينه وبين كل شيء(28).

وعن الرضا عليه السلام قال: كان في الكنز الذي قال الله عزّوجل: ((وَكانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُما))(29) فيه بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يركن إليها، وينبغي لمن عقل عن الله أن لا يتهمه في قضائه ولا يستبطئه في رزقه(30).

وعن الصادق عليه السلام قال: كان قنبر(31) غلام علي يحب علياً عليه السلام حباً شديداً، فإذا خرج علي خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال له: يا قنبير ما لك؟ فقال: جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ فقال: لا بل من أهل الأرض. فقال: إن أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلا بإذن الله فارجع، فرجع(32).

وروي عنه(33) أنه قيل للرضا عليه السلام: إنك تتكلم بهذا الكلام والسيف يقطر دماً؟ فقال عليه السلام: إن لله وادياً من ذهب حماه بأضعف خلقه وهو النمل، فلو رامه النجاشي لم يصله إليه(34).

الفصل الثاني: في حقيقة اليقين


اليقين أن يرى الأشياء كلها بقضها وقضيضها من مسبب الأسباب ومالك الرقاب، ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط كلها مسخرة لأمر الله وحكمه، وإذا علم ذلك وتحقق ما هنالك حصل له الوثوق بضمان الله للرزق فيقطع طمع قلبه عما في أيدي الناس، ويعلم أن ما قدر له سيساق إليه ثم أن يغلب على قلبه أن من ((يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ))(35)، ثم المعرفة بأن الله مطلع عليه في كل حال عالم بسرائره وخبير بضمائره، ومشاهد لهواجس(36) ضميره وخفايا خواطره، فيكون متأدباً في جميع أحواله وأعماله مع الله تعالى، ويعبد الله كأنه يراه ويعلم بأنه يراه(37)، وتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه لعين الله الكالئة(38) اشد من مبالغته في تزيين ظاهره لسائر الناس(39).

وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: اليقين يوصل العبد إلى كل حال سنيٍّ ومقام عجيب، كذلك أخبر رسول الله عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يمشي على الماء، فقال: لو زاد يقينه لمشى في الهواء، فدل بهذا على أن الأنبياء مع جلالة محلهم من الله كانوا يتفاضلون على حقيقة اليقين لا غير، ولا نهاية لزيادة اليقين على الأبد.

والمؤمنون أيضاً متفاوتون في قوة اليقين وضعفه: فمن قوي منهم يقينه فعلامته التبري من الحول والقوة إلا بالله، والاستقامة على أمر الله، وعبادته ظاهراً وباطناً، قد استوت عنده حالتا العدم والوجود والزيادة والنقصان والمدح والذم والعز والذل، لأنه يرى كلها من عين واحدة.

ومن ضعف يقينه تعلق بالأسباب، ورخص لنفسه بذلك، واتبع العادات وأقاويل الناس لغير حقيقة، والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها مقراً باللسان أنه لا مانع ولا معطي إلا الله، وأن العبد لا يصيبه إلا ما رزق وقسم له، والجهد لا يزيد في الرزق وينكر ذلك بفعله وقلبه(40)، قال الله تعالى: ((يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ))(41).

وإنما عطف الله لعباده حيث أذن لهم في الكسب والحركات في باب العيش ما لم يتعدوا حدوده ولا يتركوا من فرائضه وسنن نبيه في جميع حركاتهم ولا يعدلوا عن محجة التوكل ولا يقفوا في ميدان الحرص، وأما إذا أبوا ذلك فارتبطوا بخلاف ما حدّ لهم كانوا من الهالكين الذين ليس معهم في الحاصل إلا الدعاوى الكاذبة.
وكل مكتسب لا يكون متوكلاً فلا يستجلب من كسبه إلى نفسه إلا حراماً وشبهة، وعلامته أن يؤثر ما يحصل من كسبه ويجوع وينفق في سبيل الدين ولا يمسك، والمأذون بالكسب من كان بنفسه مكتسباً وبقلبه متوكلاً، وإن كثر المال عنده قام فيه كالأمين عالماً بأن كون ذلك وفوته سواء، وإن أمسك أمسك لله وإن أنفق أنفق في ما أمره الله عزّوجل، ويكون منعه وعطاؤه في الله(42).

ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة/ 4.

(2) ليس في جامع السعادات: "من".

(3) جامع السعادات، النراقي: 1/ 154، اليقين.

(4) أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 1/ 72، كتاب العلم، الباب السادس في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء.

(5) إرشاد القلوب، الديلمي: 1/ 127، الباب الثامن والثلاثون في الصبر.

(6) أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 57، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح1.

(7) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(8) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(9) أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 57، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح2.

(10) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(11) أنظر: بحار الأنوار، المجلسي: 67/ 143، كتاب الإيمان والكفر، باب 52 اليقين والصبر على الشدائد/ بيان العلامة المجلسي على الحديث 7.

(12) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(13) الكافي، الكليني: 2/ 57، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح3.

(14) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(15) في مجموعة ورام: "وما أخطأه".

(16) مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 2/ 184.

(17) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(18) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

(19) أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 58، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح5.

(20) صفوان بن مهران بن المغيرة الأسدي، مولاهم ثم مولى بني كاهل منهم، كوفي، ثقة، يكنى أبا محمد، كان يسكن بني حرام بالكوفة. روى عن أبي عبد الله عليه السلام، وكان صفوان جمالا، له كتاب يرويه جماعة. رجال النجاشي، النجاشي: 198، باب الصاد/ الرقم 525.

(21) في الكافي: "سألت أبا عبد الله عليه السلام".

(22) سورة الكهف/ 82.

(23) الكافي، الكليني: 2/ 58، باب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح6.

(24) عن العالم عليه السلام أنه سئل عن قول الله تبارك وتعالى : ((وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما)) سورة الكهف/82. فقال: والله ما كان ذهبا ولا فضة ولكنه كان لوحا مكتوبا عليه أربعة أحرف: أنا الله لا إله إلا أنا من أيقن بالموت لم يضحك سنه، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر علم أنه لا يصيبه إلا ما قدر عليه. فقه الرضا، الإمام الرضا عليه السلام: 370 ــ 371، باب 102 التواضع والزهد.

(25) أي: "الإمام الصادق عليه السلام".

(26) أنظر: مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 2/ 184.

(27) سعيد بن قيس الهمداني الصائدي الكوفي. قال الفضل بن شاذان ومن التابعين الكبار ورؤسائهم وزهادهم فعد جماعة منهم سعيد بن قيس. جامع الرواة، الأردبيلي: 1/ 361، باب السين.

(28) أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 59، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح8.

(29) سورة الكهف/ 82.

(30) أنظر: الكافي، الكليني: 2/ 59، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح9.

(31) قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السلام، قتله الحجاج على حبه. رجال ابن داود، ابن داود الحلي: 278، باب القاف/الرقم 1206.

(32) أنظر: مشكاة الأنوار، الطبرسي: 13، الباب الأول في الإيمان والإسلام وما يتعلق بهما، الفصل الثالث في اليقين.

(33) أنظر: سند الحديث ونصه في الهامش الآتي.

(34) الكافي، الكليني: 2/ 59، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين/ ح11. وفيه النص: «عَلِيُّ بْنُ إِبْراهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، قالَ: قِيلَ لِلرِّضا عليه السلام:إِنَّكَ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلامِ وَالسَّيْفُ يَقْطُرُ دَماً، فَقَالَ:إِنَّ لِلَّهِ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ حَمَاهُ بِأَضْعَفِ خَلْقِهِ النَّمْلِ فَلَوْ رَامَهُ الْبَخَاتِيُّ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ».

(35) سورة الزلزلة/ 7 ــ 8.

(36) الهجس: أن يحدث نفسه في صدره مثل الوسواس. وهجس في صدري شيء يهجس، أي: حدس. تاج العروس، الزبيدي: 4/271، مادة "الهجس".

(37) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصية له لأبي ذر: «يا أبا ذر أعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه عزوجل يراك». الأمالي، الطوسي: 526، المجلس 19.

(38) كلأه يكلؤه كلأ وكلاء و كلاءة، بالكسر: حرسه وحفظه. لسان العرب، ابن منظور: 1/ 146، مادة "كلأ".

(39) أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق،  الفيض الكاشاني: 193، الباب الخامس في اليقين والتوكل، الفصل الأول عظم شأن اليقين ودرجاته.

(40) أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 193 ــ 194، الباب الخامس في اليقين والتوكل، الفصل الأول عظم شأن اليقين ودرجاته.

(41) سورة آل عمران/ 167.

(42) أنظر: مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام: 177 ــ 179، الباب الرابع والثمانون في اليقين.

إرسال تعليق