بقلم: الشيخ حسن الشمري
عاش الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام فترة مهمة مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه سيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام، وقد أخذ منهما الكثير، فبرزت معالم شخصيته الفذة، وقد ذكرنا أهمية هذه المرحلة التي عاشها الإمام عليه السلام.
فالزهراء عليها السلام صاغت شخصيته بشكل سامٍ إذ لم تدعْ فجوة فيها، فبرزت ملامحها تباعاً بأروع ما يكون، ثم جاءت فترة أبيه العظيم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فكانت حلقة مهمة في سلسلة النبوة والإمامة أثرت حياة المولى أبي عبد الله الحسينعليه السلام، وأغنته بمفردات عالية، تضمنتها الرسالة التي وجهها أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
ولا نبالغ إذ نقول أنها من أروع الرسالات وأثراها، فقد ضمنها أصول التربية، ومناهج السلوك، وقواعد الآداب، وغرر الحكم.
وهذه هي نص الرسالة: ((يا بني، أوصيك بتقوى الله عز وجل في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدو، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله تعالى في الشدّة والرخاء.
أي بني، ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
واعلم أي بني أنّه مَن أبْصَر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومـن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومن رَضي بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته.
ومن سلّ سيف البغي قُتل به، ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق.
ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبر على الناس ذلّ، ومن خالط العلماء وقر، ومن خالط الأنذال حقر، ومن سفّه على الناس شتم، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
أي بني، من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه.
ومن تفكر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم.
ومن ترك الشهوات كان حراً (يا لها من حكمة)، ومن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس.
أي بني، عزّ المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير (صدقت سيدي)، ومن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه.
أي بني، العجب ممن يخاف العقاب فلم يكف، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل.
أي بني، الفكرة تورث نوراً، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين.
ليس مع قطيعة الرحم نما، ولا مع الفجور غنى.
أي بني، العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله وواحد في ترك مجالسة السفهاء.
أي بني، من تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاً، ومن طلب العلم علم.
أي بني، رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
أي بني، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم (يا لها من قاعدة جبارة)، وإعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.
أي بني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة (وهذه من أروع القواعد النفسية فإن النظرة تجلب الحسرة ولربما حسرات).
أي بني، لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعلى من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة.
ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الراحة، وتبوّأ حفظ الدعة.
أي بني، الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب، وداع إلى التقحم في الذنوب والشره جامع لمساوي العيوب (وهذه أروع ما قيل في الحرص)، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك.
أي بني، لأخيك عليك مثل الذي لك عليه، ومَن تورّط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب (حقاً كما قيل: فقد جمع ابن أبي طالب عليه السلام عقول الأولين والآخرين في عقله).
والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ (أروع قاعدة في الشورى وأهم نتيجة فيها).
أي بني، الصبر جُنة من الفاقة، والبخل جلباب المسكنة، والحرص علامة الفقر.
أي بني، وصول مُعَدم خير من جاف مكثر، لكل شيء قوت، وابن آدم قوت الموت (يا الله هذا هو عين الواقع).
أي بني، لا تؤيس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره، صائر إلى النار (وهكذا الإمام يفتح الآفاق أمام الإنسان).
أي بني، كم من عاص نجا، وكم من عامل هوى، من تحرى الصدق خفت عليه المؤن، في خلاف النفس رشدها، الساعات تنتقص الأعمار، ويل للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين.
أي بني، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد، في كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لن تنال نعمة إلا بفراق أخرى.
أي بني، ما أقرب الراحة من النَصَب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحة، فطوبى لمن أخلص الله تعالى علمه وعَمَله، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله.
وبخ بخ لعالم عمل فجد، وخاف البيات فأعد واستعد، إن سئل نصح، وإن ترك صمت، كلامه صواب، وسكوته من غير عي جواب.
والويل كلّ الويل لمن بُلي بحرمان وخذلان وعصيان فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غير، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي.
واعلم أي بني.. من لانت كلمته وجبت محبته، وفقك الله لرشدك وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنه جواد كريم))[1].
لقد تلقّى أبو عبد الله الحسين عليه السلام هذه الرسالة وأعدها منهج الحياة.
وقد لازم الإمام أبو عبد الله الحسين أباه سيد الوصيين ملازمة ((الظل)) لشخصه، مثلما كان مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان الإنسان قد تلقى ((التوجيه)) من عظيم، فيصبح كبيراً، فكيف إذا تلقّى من عدة عظماء، كأبي عبد الله الحسين عليه السلام.
فلا غرو أن تتجسّد فيه ((مزايا عظيمة)) كعظمة جده وأمه وأبيه (صلوات الله عليهم أجمعين).
لقد أحاطه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بآيات الإجلال والتكريم لاسيما وقد رأى من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الاهتمام البالغ والرفيع قائلاً: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))[2].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا))[3].
وفي حديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن قاما وإن قعدا)).
وكما جاء في (سنن الترمذي): ((نحن بني عبد المطلب سادة أهل الجنة، رسول الله، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر ذو الجناحين، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والمهدي من ذريتي))[4].
فهذه الأحاديث وغيرها قد سمعها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى جانب ((شخصيته الفذة)) التي نمت في دوحة النبوة، فأورقت أخلاقاً عالية جعلته يسمو في قلب أبيه (صلوات الله عليه) ويلتصق به.
فقد التصق بهم والتصقوا به، حتى صارا جزءاً لا يتجزأ منه.
قيل لمحمد بن الحنفية (رحمة الله عليه): أبوك يسمح بك في الحرب ويشحّ بالحسن والحسين عليهما السلام؟.
فقال: ((هما عيناه وأنا يده، والإنسان يقي عينيه بيده))[5].
فالإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام كان جزءاً من أبيه، بل جسّد شخص أبيه (صلوات الله عليهما)، حتى قال الأعداء في كربلاء عندما رأوا صولاته: ((إن نفس أبيه بين جنبيه))[6].
وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يجلّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام كثيراً، ويمنحه محبّة خاصة، وكان يكنّيه منذ الصغر، كما تذكر الروايات، كل ذلك حتى يمكّن فيه أسس الشخصية النبوية، ومقوّمات الرجولة، علماً أنّ مرحلة التربية تبدأ من الصغر.
جاء في كتاب (الحسين وبطلة كربلاء): ((إنّ الطفل بعد أن يتم الثالثة تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته، والتمييز بين الألفاظ والمعاني، وإنّ نموه العقلي في هذه السن يتجه بصاحبه إلى كشف ما يحيط به مما يرى ويسمع))[7].
وقد انعكس الاهتمام على شخص أبي عبد الله عليه السلام وفق قاعدة بقدر ما تأخذ تعطي، وكيفما تأخذه تعكس، فقد انشدّ إلى أبيه سيد الوصيين عليهم السلام، وأفاض حباً هائلاً.
ومن فرط حبه لسيد الوصيين عليه السلام أن سمّى أولاده كلهم علياً، وقال: ((لو جاءني مائة ولد لسميتهم علياً)).
فكان الإمام علي بن الحسين، وعلي الأكبر، وعلي الأصغر، ويعدّ الإمام زين العابدين أكبر أولاده (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقد ذاب الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام بأبيه بعد أن لمس من أبيه ((الحب الكبير))، وتعدّ هذه القاعدة من أهمّ القواعد التربوية، فكلما يلمس الولد من أبيه الحب والاحترام ينشدّ إلى أبيه ويتمثّل صفاته.
وقد ذكرت في إحدى مؤلفاتي أنّ حب ((الابن لوالده)) مرهون بسلوك والده، فكلما ازداد سلوكه طيباً كبر الحب في قلب ولده، حتى يغدو قرّة عين الأب، قال تعالى: وَالَّذِينَ ((يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا))[8].
ولكن السؤال: كيف يصبح الابن طيباً وعالياً؟.
الجواب:
أولاً: من الأب والأم.
ثانياً: من المبادئ السليمة.
ثالثاً: والاهتمام السليم في الصغر.
رابعاً: الجو العام.
فهذه أربعة عوامل تجعل ((الولد طيباً وسليماً))، وبالتالي يجعل منه ((ولداً باراً)) ليس لوالديه فحسب، وإنما لمجتمعه.
والقاعدة التربوية تنص: أن الوالد البار هو الأجدر والأكفأ في تحمّل المسؤولية، وفي الحديث القدسي: ((من برّ والديه وعقّني كتبته باراً))[9].
وبقدر برّه واحترامه يحترم المجتمع ويقدره، طبقاً لقاعدة: ما يبطنه المرء يُظهره للغير، فإذا استمرأ الطيب يظهره للآخرين والعكس هو الصحيح، لذلك نرى الذين ترعرعوا في بيوت طيّبة كانوا الأجدر في تحمّل المسؤوليات، والبيت الطيب يساهمُ كثيراً في إثراء المجتمعات، ويرفع المستوى النفسي والعقلي في تحمل المسؤوليات الكبيرة.
والمجتمعات التي تبني هي الأكثر تماسكاً في العلاقات الاجتماعية، والأوفق في تبنّي المفاهيم الأخلاقية، وباتت هذه الظاهرة واضحة في المجتمعات المتقدمة، والمجتمعات المتماسكة اجتماعياً تقلّ فيها الجريمة والأمراض النفسية، كما هي اليابان، فعلى صعيد الجرائم فإن نسبة الجريمة في اليابان ((صفر))، والسبب يعود كما يقول علماء الاجتماع إلى تماسك الأسرة، وعمق العلاقات العائلية.
وذلك بعكس المجتمعات التي تشكو هشاشة العلاقات الاجتماعية، فإنّ نسبة الجريمة فيها عالية، كما هو المجتمع الأمريكي والأوروبي، ففي أمريكا تقع في كل ثانية جريمة، وفي كل دقيقة ((جريمة قتل))[10].
ومما يحزّ في النفس أن المجتمعات الإسلامية والعربية كانت بالأمس تعدّ من المجتمعات السليمة والرائدة في مجال تماسك العلاقات الاجتماعية، ولكن في السنوات الأخيرة تراجعت هذه المجتمعات، وشهدت تدهوراً خطيراً على صعيد العلاقات الاجتماعية كل ذلك بفعل ((التقليد الأعمى)) للموضات المتتالية التي أخذت ترتاد البيوت، ثم تجهز على التقاليد السليمة التي كانت متأصلة.
فأخذت هذه ((الموضات)) تجهز على هذه التقاليد، وتستبدلها ((بتقاليد جوفاء)) لا معنى لها، فهي خاوية من المعنى ((الأخلاقي والاجتماعي)).
فموضة السهرات الليلية مع الغناء الفاحش والمتهتّك صارت تأخذ حجماً فاحشاً من بيوتات الكثير، ممّا أدّى إلى اختفاء ((الكلام الطيب))، والسهرات المفيدة، التي تتخللها الأحاديث الشيّقة والمفيدة، فتلاشت ((السهرات الطيبة)) التي كانت مفعمة بالأحاديث المفيدة وفيها الكثير من معاني الحياة.
لقد راعني وأنا أطالع المجلات والجرائد كثرة السهرات الليلية الفاحشة، فما من ((جريدة))، باستثناء القليل إلا وتجد الدعوة إلى حفلة ((راقصة)) مع مغنية متهتكة، وفي بعض الأحيان تفصح الجريدة بشكل يثير الاشمئزاز عن فقرات هذه السهرات. وقد سيطرت ((ثقافة السهرات الليلية)) على أجواء الكثير من البيوت حتى باتت هذه البيوت تئنّ من ظاهرة ((الفلتان)).
لقد فقد الأب السيطرة، وبات لا يدري كيف يعالج الموقف، ويتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة، فإن هو أغلق التلفزيون، فهناك الإنترنيت، وإن أغلق الإنترنيت فهناك الـ((CD))، والكثير من البدائل المتاحة للشباب، فماذا يصنع الأب وهو الرائد والقيّم؟!.
إنها ظاهرة خطيرة تنذر بأوخم العواقب.
لقد كنّا سابقاً نشكو من ((ملهى))، والآن من عدّة ((ملاهي)) أخذت تقتحم بيوتنا، ولا نستطيع لها دفعاً أو تغييراً، الأمر الذي أدّى إلى يأس بعض الآباء، والابتعاد عن البيت وتركه نهائياً، ولكن هجران البيت لا يعدّ حلاً، فالأمر يتطلّب معالجة موضوعية تشترك فيها جميع المؤسسات الاجتماعية بما فيها المراكز والحسينيات والمساجد والهيئات الاجتماعية، فضلاً عن البيت.
إنّ الخطر المحدق والداهم يتطلب جهداً مشتركاً، ونصيحتي للمراكز الإسلامية والحسينيات والمساجد الاهتمام بالشباب والشابات، ووضعهم على جدول أعمالهم، وفي سلم الأولويات.
إنّ الكثير من المراكز والحسينيات تفتقر إلى المنهج الجذّاب، وإلى الأسلوب الحيوي في جذب الشباب.
فليست هناك برامج شبابية من قبيل ((الحوار))، وتشكيل فرق للرياضة والخطابة، ثم إيجاد ((مسابقات علمية)) مثل إعطاء كتاب وتلخيصه بمدّة قياسية، أو طرح أسئلة، وإيجاد أفضل الحلول، أو اقتناص آخر الاختراعات والابتكارات.
فأيّهم يأتي باختراع من الإنترنيت فله جائزة ثمينة، وإن شاء المركز ((يشجع على ابتكار طريقة علمية))، إنّ تحريك العقل عند الشاب يعدّ من الوسائل المهمة في جذبه، وكذلك مشاعره، وإثارة أحاسيسه عن طريق اللغة والأسلوب الليّن، وهو الأمثل في جذب الشباب وشدّهم إلى المراكز والبيوت.
فعلى القائمين استعمال ((اللين))، واللين مفردة تحمل عدّة أوجه، منها:
مخاطبة عقلية الشاب، فهذه الشريحة التي في سن (16 ــ 25) تحمل عقلية ((متزمّتة)) حيث يكون عقله ((في أول انبثاقه))، فيسعى إلى الاعتداد بعقله ورفض كل ((ألوان النصيحة)) حتى لو كانت الوسائل بليغة، وهذه قاعدة عامة، فالمطلوب اختراق ((عقله))، وذلك يعتمد على ((كيفية مخاطبته)).
مثلاً: إذا كان الشاب يريد أن يشقّ طريقه، ويبتغي هدفاً، بغضّ النظر عن آثاره، فتأتي المحاكاة، وتتجسّد في إبراز النتائج المترتبة على عمله، وطرح أمثلة قريبة منه.
نقول: إذا أنت أقدمت بدون أن تستشير فهناك شباب وقعوا في أخطاء من جرّاء التزمّت والتعصب، فنطرح هذه النماذج.
بالتأكيد أنّ الشاب يرعوي، أو على الأقل ((يتأمل)) ويتردد في خوض لجج المشاريع المستعجلة إن صحّ التعبير، وهذه من أهم الوسائل التي ننتهجها مع الشريحة الشبابية.
وطرح الأساليب المعقولة والمنسجمة مع عقلية الشاب تعتمد على تجربة الأب وعلى سعة اطلاعه.
نعود إلى الحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام مع أبيه الإمام سيد الوصيينعليه السلام، ونقول: إن الإمام الحسين عليه السلام عاش ((فترة حاسمة)) مع سيد الوصيينعليه السلام، إذ تنفّست الفتن، واشرأبّت الأعناق الضالة، فكانت خطيرة للغاية، استطاع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ((احتواءها))، والقضاء على بؤر الفتن التي كوّنتها الأهواء الشخصية، والمصالح الذاتية.
ولولا ((حكمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام)) لأخذت هذه البؤر مساحة واسعة من المجتمع، وأوجعت القيم الإلهية كثيراً، فالذي أوقدها فئات يعتدّ بها ولها تاريخ مع الإسلام، مثل الزبير وطلحة.
وقد أحدثت هذه الفتن اهتزازاً في العقائد، وتصدعاً في جدار المجتمع الإسلامي لاسيما وأنه خرج تواً من ((فتنة)) أرقتهم وأوقعتهم في متاهات، ممّا حدا بالإمام إلى انتهاج الحكمة، وابتغاء أروع الأساليب في إزالتها وتطويق الظلام الذي لفّ العقول من جراء الفتن، فقد وضع القواعد الأساسية لدرء الفتن والشبهات.
ومن القواعد: ((اعرف الحق تعرف أهله))، وإن الحق لا يقاس بالرجال، وهكذا وضع الميزان وثبته على أسس متينة لم تستطع الفئات المناوئة زحزحته، أو تغيير مساره.
ففتنة ((الجمل)) كادت أن تغيّر ميزان القوى، وتربك ((أهل الحق))، ولكن حكمة الإمام (صلوات الله عليه) أرجعت الكثير إلى الحق، وثبتته في قلوبهم، بعد أن كاد يزيغ فريق منهم.
عاش الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام فترة مهمة مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه سيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام، وقد أخذ منهما الكثير، فبرزت معالم شخصيته الفذة، وقد ذكرنا أهمية هذه المرحلة التي عاشها الإمام عليه السلام.
فالزهراء عليها السلام صاغت شخصيته بشكل سامٍ إذ لم تدعْ فجوة فيها، فبرزت ملامحها تباعاً بأروع ما يكون، ثم جاءت فترة أبيه العظيم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فكانت حلقة مهمة في سلسلة النبوة والإمامة أثرت حياة المولى أبي عبد الله الحسينعليه السلام، وأغنته بمفردات عالية، تضمنتها الرسالة التي وجهها أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
ولا نبالغ إذ نقول أنها من أروع الرسالات وأثراها، فقد ضمنها أصول التربية، ومناهج السلوك، وقواعد الآداب، وغرر الحكم.
وهذه هي نص الرسالة: ((يا بني، أوصيك بتقوى الله عز وجل في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدو، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله تعالى في الشدّة والرخاء.
أي بني، ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
واعلم أي بني أنّه مَن أبْصَر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومـن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومن رَضي بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته.
ومن سلّ سيف البغي قُتل به، ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق.
ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبر على الناس ذلّ، ومن خالط العلماء وقر، ومن خالط الأنذال حقر، ومن سفّه على الناس شتم، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
أي بني، من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه.
ومن تفكر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم.
ومن ترك الشهوات كان حراً (يا لها من حكمة)، ومن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس.
أي بني، عزّ المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير (صدقت سيدي)، ومن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه.
أي بني، العجب ممن يخاف العقاب فلم يكف، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل.
أي بني، الفكرة تورث نوراً، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين.
ليس مع قطيعة الرحم نما، ولا مع الفجور غنى.
أي بني، العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله وواحد في ترك مجالسة السفهاء.
أي بني، من تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاً، ومن طلب العلم علم.
أي بني، رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
أي بني، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم (يا لها من قاعدة جبارة)، وإعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.
أي بني، كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة (وهذه من أروع القواعد النفسية فإن النظرة تجلب الحسرة ولربما حسرات).
أي بني، لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعلى من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة.
ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الراحة، وتبوّأ حفظ الدعة.
أي بني، الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب، وداع إلى التقحم في الذنوب والشره جامع لمساوي العيوب (وهذه أروع ما قيل في الحرص)، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك.
أي بني، لأخيك عليك مثل الذي لك عليه، ومَن تورّط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب (حقاً كما قيل: فقد جمع ابن أبي طالب عليه السلام عقول الأولين والآخرين في عقله).
والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ (أروع قاعدة في الشورى وأهم نتيجة فيها).
أي بني، الصبر جُنة من الفاقة، والبخل جلباب المسكنة، والحرص علامة الفقر.
أي بني، وصول مُعَدم خير من جاف مكثر، لكل شيء قوت، وابن آدم قوت الموت (يا الله هذا هو عين الواقع).
أي بني، لا تؤيس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره، صائر إلى النار (وهكذا الإمام يفتح الآفاق أمام الإنسان).
أي بني، كم من عاص نجا، وكم من عامل هوى، من تحرى الصدق خفت عليه المؤن، في خلاف النفس رشدها، الساعات تنتقص الأعمار، ويل للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين.
أي بني، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد، في كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لن تنال نعمة إلا بفراق أخرى.
أي بني، ما أقرب الراحة من النَصَب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحة، فطوبى لمن أخلص الله تعالى علمه وعَمَله، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وفعله وقوله.
وبخ بخ لعالم عمل فجد، وخاف البيات فأعد واستعد، إن سئل نصح، وإن ترك صمت، كلامه صواب، وسكوته من غير عي جواب.
والويل كلّ الويل لمن بُلي بحرمان وخذلان وعصيان فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غير، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي.
واعلم أي بني.. من لانت كلمته وجبت محبته، وفقك الله لرشدك وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنه جواد كريم))[1].
لقد تلقّى أبو عبد الله الحسين عليه السلام هذه الرسالة وأعدها منهج الحياة.
وقد لازم الإمام أبو عبد الله الحسين أباه سيد الوصيين ملازمة ((الظل)) لشخصه، مثلما كان مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان الإنسان قد تلقى ((التوجيه)) من عظيم، فيصبح كبيراً، فكيف إذا تلقّى من عدة عظماء، كأبي عبد الله الحسين عليه السلام.
فلا غرو أن تتجسّد فيه ((مزايا عظيمة)) كعظمة جده وأمه وأبيه (صلوات الله عليهم أجمعين).
لقد أحاطه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بآيات الإجلال والتكريم لاسيما وقد رأى من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الاهتمام البالغ والرفيع قائلاً: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))[2].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا))[3].
وفي حديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن قاما وإن قعدا)).
وكما جاء في (سنن الترمذي): ((نحن بني عبد المطلب سادة أهل الجنة، رسول الله، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر ذو الجناحين، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والمهدي من ذريتي))[4].
فهذه الأحاديث وغيرها قد سمعها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى جانب ((شخصيته الفذة)) التي نمت في دوحة النبوة، فأورقت أخلاقاً عالية جعلته يسمو في قلب أبيه (صلوات الله عليه) ويلتصق به.
فقد التصق بهم والتصقوا به، حتى صارا جزءاً لا يتجزأ منه.
قيل لمحمد بن الحنفية (رحمة الله عليه): أبوك يسمح بك في الحرب ويشحّ بالحسن والحسين عليهما السلام؟.
فقال: ((هما عيناه وأنا يده، والإنسان يقي عينيه بيده))[5].
فالإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام كان جزءاً من أبيه، بل جسّد شخص أبيه (صلوات الله عليهما)، حتى قال الأعداء في كربلاء عندما رأوا صولاته: ((إن نفس أبيه بين جنبيه))[6].
وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يجلّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام كثيراً، ويمنحه محبّة خاصة، وكان يكنّيه منذ الصغر، كما تذكر الروايات، كل ذلك حتى يمكّن فيه أسس الشخصية النبوية، ومقوّمات الرجولة، علماً أنّ مرحلة التربية تبدأ من الصغر.
جاء في كتاب (الحسين وبطلة كربلاء): ((إنّ الطفل بعد أن يتم الثالثة تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته، والتمييز بين الألفاظ والمعاني، وإنّ نموه العقلي في هذه السن يتجه بصاحبه إلى كشف ما يحيط به مما يرى ويسمع))[7].
وقد انعكس الاهتمام على شخص أبي عبد الله عليه السلام وفق قاعدة بقدر ما تأخذ تعطي، وكيفما تأخذه تعكس، فقد انشدّ إلى أبيه سيد الوصيين عليهم السلام، وأفاض حباً هائلاً.
ومن فرط حبه لسيد الوصيين عليه السلام أن سمّى أولاده كلهم علياً، وقال: ((لو جاءني مائة ولد لسميتهم علياً)).
فكان الإمام علي بن الحسين، وعلي الأكبر، وعلي الأصغر، ويعدّ الإمام زين العابدين أكبر أولاده (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقد ذاب الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام بأبيه بعد أن لمس من أبيه ((الحب الكبير))، وتعدّ هذه القاعدة من أهمّ القواعد التربوية، فكلما يلمس الولد من أبيه الحب والاحترام ينشدّ إلى أبيه ويتمثّل صفاته.
وقد ذكرت في إحدى مؤلفاتي أنّ حب ((الابن لوالده)) مرهون بسلوك والده، فكلما ازداد سلوكه طيباً كبر الحب في قلب ولده، حتى يغدو قرّة عين الأب، قال تعالى: وَالَّذِينَ ((يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا))[8].
ولكن السؤال: كيف يصبح الابن طيباً وعالياً؟.
الجواب:
أولاً: من الأب والأم.
ثانياً: من المبادئ السليمة.
ثالثاً: والاهتمام السليم في الصغر.
رابعاً: الجو العام.
فهذه أربعة عوامل تجعل ((الولد طيباً وسليماً))، وبالتالي يجعل منه ((ولداً باراً)) ليس لوالديه فحسب، وإنما لمجتمعه.
والقاعدة التربوية تنص: أن الوالد البار هو الأجدر والأكفأ في تحمّل المسؤولية، وفي الحديث القدسي: ((من برّ والديه وعقّني كتبته باراً))[9].
وبقدر برّه واحترامه يحترم المجتمع ويقدره، طبقاً لقاعدة: ما يبطنه المرء يُظهره للغير، فإذا استمرأ الطيب يظهره للآخرين والعكس هو الصحيح، لذلك نرى الذين ترعرعوا في بيوت طيّبة كانوا الأجدر في تحمّل المسؤوليات، والبيت الطيب يساهمُ كثيراً في إثراء المجتمعات، ويرفع المستوى النفسي والعقلي في تحمل المسؤوليات الكبيرة.
والمجتمعات التي تبني هي الأكثر تماسكاً في العلاقات الاجتماعية، والأوفق في تبنّي المفاهيم الأخلاقية، وباتت هذه الظاهرة واضحة في المجتمعات المتقدمة، والمجتمعات المتماسكة اجتماعياً تقلّ فيها الجريمة والأمراض النفسية، كما هي اليابان، فعلى صعيد الجرائم فإن نسبة الجريمة في اليابان ((صفر))، والسبب يعود كما يقول علماء الاجتماع إلى تماسك الأسرة، وعمق العلاقات العائلية.
وذلك بعكس المجتمعات التي تشكو هشاشة العلاقات الاجتماعية، فإنّ نسبة الجريمة فيها عالية، كما هو المجتمع الأمريكي والأوروبي، ففي أمريكا تقع في كل ثانية جريمة، وفي كل دقيقة ((جريمة قتل))[10].
ومما يحزّ في النفس أن المجتمعات الإسلامية والعربية كانت بالأمس تعدّ من المجتمعات السليمة والرائدة في مجال تماسك العلاقات الاجتماعية، ولكن في السنوات الأخيرة تراجعت هذه المجتمعات، وشهدت تدهوراً خطيراً على صعيد العلاقات الاجتماعية كل ذلك بفعل ((التقليد الأعمى)) للموضات المتتالية التي أخذت ترتاد البيوت، ثم تجهز على التقاليد السليمة التي كانت متأصلة.
فأخذت هذه ((الموضات)) تجهز على هذه التقاليد، وتستبدلها ((بتقاليد جوفاء)) لا معنى لها، فهي خاوية من المعنى ((الأخلاقي والاجتماعي)).
فموضة السهرات الليلية مع الغناء الفاحش والمتهتّك صارت تأخذ حجماً فاحشاً من بيوتات الكثير، ممّا أدّى إلى اختفاء ((الكلام الطيب))، والسهرات المفيدة، التي تتخللها الأحاديث الشيّقة والمفيدة، فتلاشت ((السهرات الطيبة)) التي كانت مفعمة بالأحاديث المفيدة وفيها الكثير من معاني الحياة.
لقد راعني وأنا أطالع المجلات والجرائد كثرة السهرات الليلية الفاحشة، فما من ((جريدة))، باستثناء القليل إلا وتجد الدعوة إلى حفلة ((راقصة)) مع مغنية متهتكة، وفي بعض الأحيان تفصح الجريدة بشكل يثير الاشمئزاز عن فقرات هذه السهرات. وقد سيطرت ((ثقافة السهرات الليلية)) على أجواء الكثير من البيوت حتى باتت هذه البيوت تئنّ من ظاهرة ((الفلتان)).
لقد فقد الأب السيطرة، وبات لا يدري كيف يعالج الموقف، ويتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة، فإن هو أغلق التلفزيون، فهناك الإنترنيت، وإن أغلق الإنترنيت فهناك الـ((CD))، والكثير من البدائل المتاحة للشباب، فماذا يصنع الأب وهو الرائد والقيّم؟!.
إنها ظاهرة خطيرة تنذر بأوخم العواقب.
لقد كنّا سابقاً نشكو من ((ملهى))، والآن من عدّة ((ملاهي)) أخذت تقتحم بيوتنا، ولا نستطيع لها دفعاً أو تغييراً، الأمر الذي أدّى إلى يأس بعض الآباء، والابتعاد عن البيت وتركه نهائياً، ولكن هجران البيت لا يعدّ حلاً، فالأمر يتطلّب معالجة موضوعية تشترك فيها جميع المؤسسات الاجتماعية بما فيها المراكز والحسينيات والمساجد والهيئات الاجتماعية، فضلاً عن البيت.
إنّ الخطر المحدق والداهم يتطلب جهداً مشتركاً، ونصيحتي للمراكز الإسلامية والحسينيات والمساجد الاهتمام بالشباب والشابات، ووضعهم على جدول أعمالهم، وفي سلم الأولويات.
إنّ الكثير من المراكز والحسينيات تفتقر إلى المنهج الجذّاب، وإلى الأسلوب الحيوي في جذب الشباب.
فليست هناك برامج شبابية من قبيل ((الحوار))، وتشكيل فرق للرياضة والخطابة، ثم إيجاد ((مسابقات علمية)) مثل إعطاء كتاب وتلخيصه بمدّة قياسية، أو طرح أسئلة، وإيجاد أفضل الحلول، أو اقتناص آخر الاختراعات والابتكارات.
فأيّهم يأتي باختراع من الإنترنيت فله جائزة ثمينة، وإن شاء المركز ((يشجع على ابتكار طريقة علمية))، إنّ تحريك العقل عند الشاب يعدّ من الوسائل المهمة في جذبه، وكذلك مشاعره، وإثارة أحاسيسه عن طريق اللغة والأسلوب الليّن، وهو الأمثل في جذب الشباب وشدّهم إلى المراكز والبيوت.
فعلى القائمين استعمال ((اللين))، واللين مفردة تحمل عدّة أوجه، منها:
مخاطبة عقلية الشاب، فهذه الشريحة التي في سن (16 ــ 25) تحمل عقلية ((متزمّتة)) حيث يكون عقله ((في أول انبثاقه))، فيسعى إلى الاعتداد بعقله ورفض كل ((ألوان النصيحة)) حتى لو كانت الوسائل بليغة، وهذه قاعدة عامة، فالمطلوب اختراق ((عقله))، وذلك يعتمد على ((كيفية مخاطبته)).
مثلاً: إذا كان الشاب يريد أن يشقّ طريقه، ويبتغي هدفاً، بغضّ النظر عن آثاره، فتأتي المحاكاة، وتتجسّد في إبراز النتائج المترتبة على عمله، وطرح أمثلة قريبة منه.
نقول: إذا أنت أقدمت بدون أن تستشير فهناك شباب وقعوا في أخطاء من جرّاء التزمّت والتعصب، فنطرح هذه النماذج.
بالتأكيد أنّ الشاب يرعوي، أو على الأقل ((يتأمل)) ويتردد في خوض لجج المشاريع المستعجلة إن صحّ التعبير، وهذه من أهم الوسائل التي ننتهجها مع الشريحة الشبابية.
وطرح الأساليب المعقولة والمنسجمة مع عقلية الشاب تعتمد على تجربة الأب وعلى سعة اطلاعه.
نعود إلى الحديث عن حياة الإمام الحسين عليه السلام مع أبيه الإمام سيد الوصيينعليه السلام، ونقول: إن الإمام الحسين عليه السلام عاش ((فترة حاسمة)) مع سيد الوصيينعليه السلام، إذ تنفّست الفتن، واشرأبّت الأعناق الضالة، فكانت خطيرة للغاية، استطاع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ((احتواءها))، والقضاء على بؤر الفتن التي كوّنتها الأهواء الشخصية، والمصالح الذاتية.
ولولا ((حكمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام)) لأخذت هذه البؤر مساحة واسعة من المجتمع، وأوجعت القيم الإلهية كثيراً، فالذي أوقدها فئات يعتدّ بها ولها تاريخ مع الإسلام، مثل الزبير وطلحة.
وقد أحدثت هذه الفتن اهتزازاً في العقائد، وتصدعاً في جدار المجتمع الإسلامي لاسيما وأنه خرج تواً من ((فتنة)) أرقتهم وأوقعتهم في متاهات، ممّا حدا بالإمام إلى انتهاج الحكمة، وابتغاء أروع الأساليب في إزالتها وتطويق الظلام الذي لفّ العقول من جراء الفتن، فقد وضع القواعد الأساسية لدرء الفتن والشبهات.
ومن القواعد: ((اعرف الحق تعرف أهله))، وإن الحق لا يقاس بالرجال، وهكذا وضع الميزان وثبته على أسس متينة لم تستطع الفئات المناوئة زحزحته، أو تغيير مساره.
ففتنة ((الجمل)) كادت أن تغيّر ميزان القوى، وتربك ((أهل الحق))، ولكن حكمة الإمام (صلوات الله عليه) أرجعت الكثير إلى الحق، وثبتته في قلوبهم، بعد أن كاد يزيغ فريق منهم.
ــــــــــــــــــــــ
[1] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص91.
[2] مسند زيد بن علي: زيد بن علي، ص461. الأحكام: الإمام يحيى بن الحسين، ج1/ص40. سبل السلام: محمد بن إسماعيل الكحلاني، ج4/ص125. فقه السنة: الشيخ سيد سابق، ج3/ص417. نضد القواعد الفقهية: المقداد السيوري، ص98.
[3] علل الشرائع: الشيخ الصدوق، ج1/ص211. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص156. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج2/ص717.
[4] الأمالي: الشيخ الصدوق، ص562. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص269. كتاب سليم بن قيس: تحقيق محمد باقر الأنصاري، ص280. شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي، ج2/ص501. الغيبة: الشيخ الطوسي، ص183. العمدة: ابن البطريق، ص52. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج22/ص149.
[5] كشف الغمة في معرفة الأئمة: ابن أبي الفتح الإربلي، ج2/ص235. ذوب النضار: ابن نما الحلي، هامش ص55. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج42/ص96.
[6] الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص89. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج44/ص390. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص241. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج45/ص52. الكامل في التاريخ: ابن الأثير، ج4/ص56. إعلام الورى بإعلام الهدى: الشيخ الطبرسي، ج1/ص454.
[7] الحسين وبطلة كربلاء: الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية قدس سره: ص172.
[8] الفرقان: 74.
[9] مجموعة محاضرات للشيخ الوائلي قدس سره.
[10] كتاب الطائفية.
[2] مسند زيد بن علي: زيد بن علي، ص461. الأحكام: الإمام يحيى بن الحسين، ج1/ص40. سبل السلام: محمد بن إسماعيل الكحلاني، ج4/ص125. فقه السنة: الشيخ سيد سابق، ج3/ص417. نضد القواعد الفقهية: المقداد السيوري، ص98.
[3] علل الشرائع: الشيخ الصدوق، ج1/ص211. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص156. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ابن الصباغ، ج2/ص717.
[4] الأمالي: الشيخ الصدوق، ص562. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري، ص269. كتاب سليم بن قيس: تحقيق محمد باقر الأنصاري، ص280. شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي، ج2/ص501. الغيبة: الشيخ الطوسي، ص183. العمدة: ابن البطريق، ص52. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج22/ص149.
[5] كشف الغمة في معرفة الأئمة: ابن أبي الفتح الإربلي، ج2/ص235. ذوب النضار: ابن نما الحلي، هامش ص55. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج42/ص96.
[6] الإرشاد: الشيخ المفيد، ج2/ص89. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج44/ص390. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: الشيخ عبد الله البحراني، ص241. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج45/ص52. الكامل في التاريخ: ابن الأثير، ج4/ص56. إعلام الورى بإعلام الهدى: الشيخ الطبرسي، ج1/ص454.
[7] الحسين وبطلة كربلاء: الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية قدس سره: ص172.
[8] الفرقان: 74.
[9] مجموعة محاضرات للشيخ الوائلي قدس سره.
[10] كتاب الطائفية.
إرسال تعليق