بقلم: الشيخ وسام البلداوي
ألف: تحرير محل النزاع حول هذه الآية المباركة
آية التطهير هي قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[1]، وهذه الآية المباركة هي جزء من آية نزلت مع مجموعة من الآيات الأخرى والتي تحدثت عن زوجات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، تبدأ من قوله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا))[2]، وتنتهي عند قوله سبحانه وتعالى: ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))[3]، وآية التطهير جاءت ضمن الآية الثالثة والثلاثين من هذه السورة وهو قوله سبحانه وتعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[4].
وبسبب وقوع جملة ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) في ضمن هذه الآية والآيات التي تحدثت عن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع اختلاف قديم جديد ــ قديم حدوثا جديد استمرارا ــ حول دلالة هذه الجملة من الآية الشريفة، فأجمع أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وشيعتهم على أنها وان وردت في سياق الحديث عن زوجات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أن سبب نزولها يتعلق بالخمسة أهل الكساء، وهم كل من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، والسيدة الطاهرة فاطمة البتول صلوات الله وسلامه عليها، والإمامين الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما، ولهم إضافة إلى إجماعهم أدلة وروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مروية عن طريق مخالفيهم، سنتعرض إلى بعضها لاحقا.
أما باقي المذاهب الإسلامية فقد تشعبت كلمتهم وتفرقت على أقوال عديدة، فمنهم من خص هذه الجملة في الآية المباركة بنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخل معهن غيرهن إلا النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنهم من جعل من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم جزءاً وفرداً من الأفراد المشمولين بهذه الآية المباركة، وادخل معهن الخمسة من أهل الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومنهم من فتح الباب على مصراعيه ليدخل في ضمن الآية كل من حرمت عليه الصدقة، فيشمل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والخمسة أهل الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجميع آل عبد المطلب، فيدخل بنو العباس قاطبة، وآل الحارث بن عبد المطلب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد عندهم لربيعة بن الحارث والعباس ابني عبد المطلب: (ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)[5].
فيتحصل مما سبق ان الخمسة من أهل الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مجمع على دخولهم عند الشيعة وغيرهم ولا يخالف ذلك إلا شاذ لا يعتد برأيه، أما الباقون فمختلف فيهم، فالبحث إذن يجب ان يتمحور ليس في دخول أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وشمولهم بآية التطهير، لان ذلك مسلم به ومجمع عليه كما عرفت، وإنما البحث حول دخول غيرهم معهم في حكم الآية الشريفة، وهو ما سيتضح في الفقرات اللاحقة إن شاء الله سبحانه وتعالى.
باء: استعمالات لفظ الأهل في القرآن الكريم واللغة
قد أطلق لفظ الأهل ولفظ أهل البيت في القرآن الكريم وأريد به معانٍ عديدة منها :
1: قد أطلق لفظ الأهل على أتباع دين معين كتسمية القرآن الكريم اليهود والنصارى بأهل الكتاب، ويقصد بهم الذين يدينون باليهودية والنصرانية، قال سبحانه وتعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ))[6].
وقال سبحانه وتعالى أيضا: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ))[7].
وقال سبحانه وتعالى في آية ثالثة: ((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[8].
2: وأطلق لفظ الأهل على سكان مدينة معينة أو قرية معينة، نظير قوله سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))[9].
وقال سبحانه وتعالى في آية ثانية: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ))[10].
وقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ))[11].
3: وقد أطلق لفظ الأهل على أفراد ومجاميع يجتمعون في مكان واحد ويشتركون في نفس المصير كإطلاقه على أهل النار وأهل الجنة، أو كقوله تعالى ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))[12] لتغرق أهلها أي أهل السفينة، وسموا أهلا لاشتراكهم في نفس المصير ان غرقوا غرقوا بأجمعهم وان نجوا نجوا بأجمعهم أيضا.
4: وقد أطلق في بعض الآيات الشريفة وأريد به الأم والأخت كما في قوله تعالى في قصة نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه: ((وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ))[13]، ولم يكن في بيت نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه بحسب ما تتبعنا إلا أمه وأخته، وهو المقدار المتيقن من آيات القرآن الكريم لان الآيات الشريفة إنما تحدثت عن أمه صلوات الله وسلامه عليه وأخته فتكونان مشمولتين بلفظ أهل بيته قطعا وغيرهم يحتاج إلى دليل إضافي.
5: وأطلق لفظ الأهل وأريد به الأخ كما في قوله تعالى: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي))[14] فعبر عن نبي الله هارون صلوات الله وسلامه عليه بأنه من أهل نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه.
6: وأطلق لفظ الأهل على الولد كما في قوله تعالى: ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ))[15].
7: وقد أطلق لفظ الأهل على بنات الرجل من صلبه كما في قوله سبحانه وتعالى في قصة نبي الله لوط صلوات الله وسلامه عليه: ((قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ))[16].
وقال سبحانه وتعالى: ((فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ))[17]، والمعلوم تاريخيا ان لوطا لم يكن له إلا بنتان أو ثلاثة حين خروجه من تلك القرية التي عذب أهلها وهن المذكورات في قوله تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ))[18].
8: وقد أطلق لفظ الأهل على الزوجة أيضا قال أبو بكر الجصاص: (الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله ...)[19]، وفي معاجم اللغة: (الآهل الذي له زوجة. وعيال، وسار بأهله أي بزوجته و أولاده، وأهل الرجل وتأهل: تزوج، والتأهل: التزوج، وفي الدعاء: آهلك الله في الجنة إيهالا أي زوجك فيها)[20].
وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن أيضا، نظير قوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ))[21].
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ))[22].
وكقوله سبحانه وتعالى: ((وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[23].
9: وقد يطلق لفظ الأهل على العشيرة والأقرباء بصورة عامة كما في قوله تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا))[24].
فيتضح مما سبق أنّ القرآن الكريم أطلق لفظ الـ(أهل) على مصاديق عدة، فأطلقه على الواحد كما في نبي الله هارون صلوات الله وسلامه عليه، وابن نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه، وأطلقه على الاثنين كابنتي نبي الله لوط صلوات الله وسلامه عليه، وأطلقه على الأخت وعلى الأم كما في أم وأخت نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه، وأطلقه على الزوجة كزوجتي نبي الله إبراهيم الخليل ولوط صلوات الله وسلامه عليهما، وأطلقه على الجماعة البالغة من العدد مبلغا عظيما، كأهل الكتاب وغيرهم، وأطلقه على الجماعة المحدودة والمتوسطة العدد كأهل السفينة وأهل القرية.
جيم: القرآن يجرد البعض من صفة الأهل مع أنهم موصوفون بها لغة وعرفا
لا يخفى على مسلم ان لله سبحانه وتعالى على الناس ولايتين، ولاية تكوينية وأخرى تشريعية، فمثلما انه سبحانه وتعالى يحيي من يشاء، ويعطي من يشاء، ويميت من يشاء، ويرزق من يشاء، بحسب المصلحة والحكمة، كما قال سبحانه وتعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[25]، كذلك سبحانه يشرع ما يشاء ويحكم بما يشاء، ويفرض على عباده ما يشاء، على وفق ما يراه سبحانه وتعالى مناسبا، وله مدخلية في تكامل الإنسان وتنظيم مصالحه الفردية والاجتماعية، وبما يعود عليه بالخير والفائدة والصلاح، قال سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))[26]، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دليل لبداهته عند كل معتقد بالدين الإسلامي، بل وحتى الأديان الأخرى ترى مثل هذا الحق لله سبحانه وتعالى.
ويتفرع على هذه الحقيقة البديهية، أنّ الله سبحانه وتعالى مثلما له حق التشريع، كذلك له سبحانه وتعالى حق توسيع ما يشاء من المفاهيم والحقائق الشرعية، أو تضييق وحصر ما يشاء من تلك المفاهيم، وله سبحانه وتعالى الحق في إضافة مصاديق معينة إلى مفهوم معين، أو نفيها عنه، كل ذلك خاضع للعلم الإلهي والحكمة والمصلحة، وهذا ما حصل في مصطلح (الأهل) في القرآن الكريم، إذ نراه سبحانه استخدم ولايته التشريعية فجرد ومحا صفة الأهل عن ابن نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه، فقال سبحانه وتعالى: ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[27]، فمع ان المعنى اللغوي والعرفي يجعل من ابن نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه من اقرب وأوضح مصاديق الأهل، إلا انه سبحانه وتعالى أخرجه من ذلك لسبب كفره وعدم صلاحه.
ومثلما ان لله سبحانه وتعالى ولاية على نفي بعض الأفراد عن ان يشملهم وصف الأهل، كذلك له سبحانه الحق في تخصيص بعض أفراد الأهل بحكم من الأحكام التشريعية أو التكوينية، واستثناء البعض الآخر من هذه الأحكام، كما استثنى سبحانه وتعالى زوجة نبي الله لوط صلوات الله وسلامه عليه من حكم النجاة من العذاب، قال تعالى: ((فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ))[28]، وكما في قوله تعالى: ((وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ))[29].
فيتبين مما سبق شيئان مهمان هما:
1: ان لله سبحانه وتعالى حق تضييق أو توسيع ما يشاء من المفاهيم والحقائق الشرعية، حتى وان كان هذا التوسيع مخالفاً للمفهوم العرفي واللغوي، كما في مسألة ابن نبي الله نوح فمع ان المدلول العرفي واللغوي يتناوله إلا ان المدلول الشرعي لا يشمله، فإذا ما أردنا التعريف الشرعي لأهل بيت نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه فان ابنه وبحسب الشرع لا يدخل فيهم البتة.
2: ان لله سبحانه وتعالى حق تخصيص بعض أفراد العموم بحكم من الأحكام التشريعية أو التكوينية، واستثناء البعض الآخر من هذه الأحكام، كما في حكم النجاة من العذاب بالنسبة إلى زوجة نبي الله لوط صلوات الله وسلامه عليه، فمع ان القرآن اقر لها بصفة الأهل إلا انه استثناها من حكم من الأحكام التكوينية.
دال: هل للسنة النبوية المطهرة إمكانية تخصيص عمومات القرآن الكريم؟
لا يخفى أنّ في القرآن الكريم أحكاماً عامة أو مطلقة كثيرة، وقد خصصت أو قيدت أكثرها، وهذا التقييد أو التخصيص تارة يقع بنص قرآني ثانٍ، كما مر في الآيتين اللتين تكلمتا عن ابن وزوجة نبيي الله نوح ولوط صلوات الله وسلامه عليهما، وتارة يقع بنص من السنة النبوية المطهرة، التي اجمع الموالف والمخالف على ان لها قابلية التخصيص والتقييد لعمومات وإطلاقات القرآن الكريم، قال المحقق الحلي: (المسألة الثانية: تخصيص الكتاب بالكتاب جائز، كقوله تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))[30]، ثم قال في موضع آخر: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ))[31]. وكذلك ــ يجوز ــ تخصيص الكتاب بالسنة قولا، كتخصيص آية المواريث[32] بقوله عليه السلام: «القاتل لا يرث»، وفعلا[33]، كتخصيص آية الجلد[34]برجمه عليه السلام ماعزا[35]. وبالإجماع[36]، كالتسوية بين العبد والأمة في تنصيف الحد، تخصيصا لآية الجلد)[37].
وقال الآمدي: (المسألة الخامسة يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة. أما إذا كانت السنة متواترة، فلم أعرف فيه خلافا، ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي. وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه)[38].
وقال الخطيب البغدادي: (خبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي قال حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا الأوزاعي عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن)[39].
وعن: (الفضل بن زياد قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب قال: ما أجسر على هذا ان أقوله! ولكن السنة تفسر الكتاب وتعرف الكتاب وتبينه)[40].
وعن: (حسان بن عطية قال كان جبرائيل ينزل على رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها كما يعلمه القرآن)[41].
ولتخصيص عموم القرآن الكريم بالسنة المطهرة أمثلة كثيرة جدا لا يتناسب ذكر جميع مصاديقها في مثل ما نحن فيه من الاختصار، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وسنأتي على عدة من الأمثلة التي ذكرها المخالف قبل الموالف، ونترك الباقي للكتب المختصة في هذا المجال، ومن هذه الأمثلة ما يأتي:
1: قال الخطيب البغدادي: (قال الله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وان كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فكان ظاهر هذه الآية يدل على أن كل والد يرث ولده وكل مولود يرث والده حتى جاءت السنة بأن المراد ذلك مع اتفاق الدين بين الوالدين والمولودين وأما إذا اختلف الدينان فإنه مانع من التوارث واستقر العمل على ما وردت به السنة في ذلك)[42].
2: قال الخطيب البغدادي أيضا: (وقال الله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، فكان ظاهر هذا القول يوجب القطع على كل سارق بسرقته كثرت أو قلت حتى دلت السنة ان المراد به بعض السراق وهو من بلغت سرقته في القيمة ربع دينار فصاعدا واما من لم تبلغ قيمة سرقته هذا القدر فلا قطع فيه... ولما ذكرناه نظائر كثيرة في الكتاب والسنة اقتصرنا منها على ما أوردناه)[43].
3: وعن (علي بن زيد عن الحسن ان عمران بن حصين كان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن قال فقال له ادنه فدنا فقال أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن)[44].
فيتمخض للباحث مما سبق الحقائق التالية:
* ان السنة المطهرة لها قابلية التخصيص لعمومات القرآن الكريم، وهي كما قال احمد بن حنبل، تفسر الكتاب وتعرف الكتاب وتبينه.
* وان السنة المطهرة خصصت كثيراً من عمومات القرآن الكريم وقد اتضح فيما سبق بعض النماذج المهمة لهذه الحقيقة.وان البعض قد صرح بأن القرآن بحاجة إلى السنة أكثر من احتياج السنة للقران.
* وان السنة لاسيما التي تتعلق بتفسير القرآن وتوضيحه وتقييده أو تخصيصه شأنها في الأهمية والوجوب شأن القرآن الكريم، من حيث ان مصدرهما واحد فكلاهما كان ينزل بهما جبرائيل عليه السلام إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن حيث الإلزامية والوجوب، لقوله سبحانه وتعالى: ((وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))[45].
* وعليه يصبح النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو المعبر الحقيقي والواقعي للمفاهيم الشرعية فإذا ما وسع مفهوما من المفاهيم الشرعية أو ضيقه فإننا نستدل على ان الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد تضييق أو توسعة ذلك المفهوم، لقوله تعالى: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى))[46].
وليس القول بتخصيص السنة المطهرة للقرآن الكريم وتفسيرها وتبيينها من القول الجزاف وبلا دليل يركن إليه، فقد وردت أحاديث كثيرة تقرر هذه الحقيقة وتشدد عليها، منها أحاديث الأريكة التي اخبر بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أمته عن قوم كانوا موجودين فعلا في أيام حياته الشريفة، أو انهم سيأتون بعد ذلك، لا يرتضون السنة النبوية الشريفة، ولا يعتقدون بحرمتها وأهميتها، ويكتفون بالقرآن الكريم فقط، وهم المقصودون من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (بحسب امرئ قد شبع وبطن وهو متكئ على أريكته لا يظن أن لله حراما إلا ما في القرآن واني والله قد حرمت ونهيت ووعظت بأشياء انها لمثل القرآن أو أكثر)[47].
وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما ادري ما هذا، عندنا كتاب الله ليس هذا فيه)[48].
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (ألا عسى رجل ان يبلغه عني حديث وهو متكئ على أريكته فيقول لا أدري ما هذا عليكم بالقرآن فمن بلغه عني حديث فكذب به أو كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)[49].
وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معد يكرب يقول: (حرم رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم أشياء يوم خيبر ثم قال يوشك رجل متكئ على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه وان ما حرم رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم مثل ما حرم الله عز وجل)[50]،[51].
هاء: هل فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية التطهير، وهل خصصها بفئة معينة دون أخرى؟
ذكرنا في بداية البحث ان آية التطهير وهي قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) قد نزلت ضمن مجموعة من الآيات التي تحدثت عن زوجات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جاء اللفظ فيها مطلقا، فلم يتقيد التطهير وإذهاب الرجس بفرد من أفراد أهل البيت، ومن حق الباحث عن الحقيقة ان يتساءل: هل قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتخصيص هذا العموم أم لا؟ لان التخصيص ان كان قد صدر من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فيلزم على كل مسلم قبوله والخضوع له شاء أم أبى، فان لم يقبل عد من المتمردين ودخل في زمرة المبشرين بالنار كما نصت عليه الأحاديث السابقة، أما إذا لم يرد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أي تخصيص لأفراد أهل البيت فسيبقى حينئذ لفظ أهل البيت على عمومه، ويدخل في أهل البيت كل من ينطبق عليه الوصف لغة وعرفا، ويكون حكم التطهير وإذهاب الرجس شاملا للزوجة والبنت والابن والأقارب الأدنين والكثيرين من غير هؤلاء.
ونظرة بسيطة إلى الأحاديث الشريفة توصلنا إلى ان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك الآية المباركة على عمومها، ليدخل كل من هب ودب في ضمنها، بل خصصها بأفراد معدودين، واتبع في تخصيصها شتى الوسائل اللفظية منها والعملية، وفيما يأتي جملة من تلك الروايات الدالة على تخصيصها، وسنختصر على إيراد ما صححه المخالف قبل الموالف تاركين عشرات الروايات الأخرى التي طعنوا فيها لغايات لا تخفى على لبيب.
1: فقد أخرج مسلم في صحيحه: («حدثنا» أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير «واللفظ لأبي بكر» قالا حدثنا محمد بن بشر عن زكرياء عن مصعب ابن شيبة عن صفية بنت شبية قالت: قالت عائشة خرج النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)))[52].
2: وعن الترمذي في سننه: (حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا أبو أحمد الزبيري، أخبرنا سفيان عن زبيد عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي; أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: إنك على خير) [53].
وقال معلقا على هذا الحديث: (هذا حديث حسن صحيح. وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وفي الباب عن أنس وعمر بن أبي سلمة وأبي الحمراء)[54].
3: وعن الترمذي أيضا قال: (حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)))[55].
وقال معلقا: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه إنما نعرفه من حديث حماد بن سلمة. وفي الباب عن أبي الحمراء معقل بن يسار وأم سلمة)[56].
4: وعن الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك على الصحيحين: (حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد الدوري ثنا عثمان بن عمر ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ثنا شريك بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها انها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أجمعين فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي قالت أم سلمة يا رسول الله ما أنا من أهل البيت قال إنك أهلي خير وهؤلاء أهل بيتي اللهم أهلي أحق)[57].
وقال الحاكم النيسابوري معقبا على هذا الحديث: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه)[58].
5: وعن الحاكم النيسابوري أيضا قال: (حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي يقول حدثني أبو عمار قال حدثني واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال جئت أريد عليا رضي الله عنه فلم أجده فقالت فاطمة رضي الله عنها انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يدعوه فاجلس فجاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل ودخلت معهما قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله حسنا وحسينا فاجلس كل واحد منهما على فخذه وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ثم لف عليهم ثوبه وأنا شاهد فقال ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) اللهم هؤلاء أهل بيتي).
ثم عقب عليه مباشرة بقوله: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)[59].
6: وعن الحاكم أيضا قال: (حدثني أبو الحسن إسماعيل بن محمد بن الفضل ابن محمد الشعراني ثنا جدي ثنا أبو بكر بن أبي شيبة الحزامي ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرحمة هابطة قال ادعوا لي ادعوا لي، فقالت صفية: من يا رسول الله؟ قال أهل بيتي عليا وفاطمة والحسن والحسين، فجيء بهم فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه ثم رفع يديه ثم قال: اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد وأنزل الله عز وجل ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)))[60].
ثم علق عليه الحاكم النيسابوري بقوله: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
7: قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (وقال شهر: عن أم سلمة: إن النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم جلل عليا وفاطمة وابنيهما بكساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيت بنتي وحامتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت: يا رسول الله أنا منهم؟ قال: إنك إلى خير)[61].
وقال الذهبي معقبا على هذا الحديث: (إسناده جيد، روي من وجوه عن شهر. وفي بعضها يقول: «دخلت عليها أعزيها على الحسين». وروى نحوه الأعمش، عن جعفر بن عبد الرحمن، عن حكيم بن سعد، عن أم سلمة)[62].
8: وقد صحح ابن تيمية ــ على تعصبه ولجاجته وعناده ــ نزولها في كل من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وابنته وبعلها وابنيها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث قال في كتابه منهاج السنة ما نصه: (وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة قالت خرج النبي صلى الله عليه و سلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) وهذا الحديث قد شركه[63]فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم)[64].
9: وقال الثعالبي في تفسيره لآية التطهير: («الرجس» اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت، قالت أم سلمة: نزلت هذه الآية في بيتي ; فدعا رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: «هؤلاء أهل بيتي، وقرأ الآية، وقال اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله، فقال: أنت من أزواج النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وأنت إلى خير»)[65].
ثم قال بعد إيراده لهذا الكلام: (والجمهور على هذا، وقال ابن عباس وغيره: أهل البيت: أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم).
تطبيق القواعد السابقة على هذه الروايات النبوية
الأحاديث التي مرت كانت جزءاً من كم هائل من تلك التي رواها علماء ورواة المذاهب الأخرى والتي صرحوا فيها بأن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد خصص عموم آية التطهير بخمسة أشخاص تحديدا، ووفقا لقاعدة ان السنة النبوية لها الحق في تخصيص عمومات القرآن الكريم، وانها بمنزلة المفسر والمعرف والمبين لحقائق آياته الشريفة، كما قال احمد بن حنبل، فيجب حينئذ رفع اليد عن ذلك العموم وإخراج كل من يشملهم وصف أهل البيت سواء كان هذا الشمول لغويا أو عرفيا، وإبقاء هؤلاء الخمسة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقط من دون منازع.
وان هذا التخصيص النبوي لمصداق أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، أوضحه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعدة أشكال وصور، منها لفظية ومنها فعلية، فجمعهم في بيت واحد وإخراج كل من هم خارج هذا البيت من أزواجه وغيرهن تخصيص ، وجمعهم تحت كساء واحد تخصيص ثانٍ يضاف إلى ما سبق، وهذا التخصيص الثاني أراد منه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إخراج سائر من كان داخل البيت باستثناء من أدخلهم بنفسه تحت الكساء، ثم تلاوته للآية المباركة بعد دخولهم تخصيص ثالث، ثم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس...) تخصيص رابع وقاطع على ان المخصوصين بهذه الآية الشريفة هم فقط الموجودون تحت هذا الكساء، إذ لو كان غيرهم قد شاركهم بهذا الوصف لما صح من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ان يقول: (هؤلاء أهل بيتي) ولقال صلى الله عليه وآله وسلم : (هؤلاء من أهل بيتي) فيجعلهم جزءاً من مجموعة، وهذا بديهي لكل من عرف كلام العرب ومارسه، فكيف يخفى على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وهو أفصح من نطق بالضاد، ثم يختم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كل الشكوك ويغلق كل الأبواب التي يمكن للآخرين استغلالها لإغراض شخصية أو سياسية فيرفض صلى الله عليه وآله وسلم دخول أم سلمة معهم داخل الكساء، حتى بعد أن طالبت هي بذلك في قولها: (يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟) أو (يا رسول الله أنا منهم؟) أو غير ذلك، فيجيبها بما يقطع عليها وعلى غيرها كل أمل بقوله: انك إلى خير أو على خير أو أنتِ من أزواج النبي أو غير ذلك، وهو تخصيص قاصم لظهر كل من قال بدخول زوجات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ضمن أهل البيت الذين تحدثت عنهم آية التطهير.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا هذا الإصرار من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على تكرار التخصيص مرة بعد مرة؟ ولا أظن بأن الجواب يخفى على اللبيب العالم بما وقع بعد استشهاد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ورحيله عن هذه الدنيا الفانية، وما جرى وصار على أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من غصب حقوقهم وإبعادهم عن منازلهم وإقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضع كل تلك التخصيصات عسى أن يحول دون أن تسرق منهم هذه الصفة ــ صفة أهل البيت المطهرين والمنزهين عن كل رجس ــ أو يبقي الحقيقة واضحة للباحثين عنها فيما لو تجرأت السياسة والساسة التعدي على هذا الحق.
ووفقا لقاعدة ان السنة المطهرة لا سيما التي صدرت من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بهدف تفسير القرآن وتبيينه هي من أقسام الوحي الذي كان ينزل به جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغها للأمة ويبين معناها وخصوصياتها ومن المقصود بها، فيكون تخصيص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآية المباركة من قسم الوحي الذي نزل به جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بتبليغه لسائر أفراد الأمة، وبعبارة ثانية ان هذا التخصيص لعموم آية التطهير هو ليس أمرا شخصيا عاطفيا قام به رجل تجاه ابنته وزوجها وابنيها، بل هو أمر وإرادة إلهية خارجة عن الدوافع الشخصية، حكم به الله وأراده وبلغه بصورة رسمية بواسطة جبرائيل عليه السلام إلى شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه نبيا لا بوصفه والدا أو غير ذلك من العناوين.
ويلزم وفقا لكون تخصيص أية التطهير بالخمسة من أهل الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وان هذا التخصيص وحي من الله سبحانه وتعالى وجوب الإقرار لهم بذلك من جميع المسلمين، ومن يرفض منهم هذا التخصيص أو يحاول ان يدخل معهم غيرهم فان أحاديث الأريكة التي مرت ستشمله لا محالة، وسيؤدي إدخال غيرهم معهم إلى إدخال أمر في الدين ليس منه ويؤدي بالإنسان إلى ان ينصب نفسه كمشرع مع الله سبحانه وتعالى ورسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل في الضلالة من حيث يعلم أو لا يعلم.
ــــــــــــــــــ
[1] سورة الأحزاب الآية رقم 33.
[2] سورة الأحزاب الآية رقم 28.
[3] سورة الأحزاب الآية رقم 34.
[4] سورة الأحزاب الآية رقم 33.
[5] صحيح مسلم ج3 ص119، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة.
[6] سورة آل عمران الآية 70.
[7] سورة المائدة الآية 68.
[8] سورة المائدة الآية 47.
[9] سورة الأعراف الآية 96.
[10] سورة التوبة الآية 101.
[11] سورة الحجر الآية 67.
[12] سورة الكهف الآية 71.
[13] سورة القصص الآية 12.
[14] سورة طه الآية 29-30.
[15] سورة هود الآية 45.
[16] سورة العنكبوت الآية 32.
[17] سورة الأعراف الآية 83.
[18] سورة هود الآية 78.
[19] أحكام القرآن للجصاص 2 ص 277.
[20] قاموس اللغة ج3 ص331.
[21] سورة النمل الآية 7.
[22] سورة هود الآية 73.
[23] سورة يوسف الآية 25.
[24] سورة مريم الآية 16.
[25] سورة القصص الآية رقم 68.
[26] سورة المائدة الآية رقم 1.
[27] سورة هود الآية رقم 46.
[28] سورة الأعراف الآية رقم 83.
[29] سورة العنكبوت الآية رقم 33.
[30] سورة محمد الآية رقم 4.
[31] سورة التوبة الآية رقم 29.
[32] آية المواريث هي قوله تعالى في الآية رقم 11 من سورة النساء: ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)).
[33] يعني وكذلك يجوز تخصيص الكتاب العزيز بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
[34] آية الجلد هي قوله تعالى في الآية رقم 2 من سورة النور: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)).
[35] آية الجلد عامة في جلد كل زانٍ، سواء كان محصنا أي متزوجا أم غير محصن، فلما رجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم احد الصحابة والذي كان اسمه ماعزا وكان متزوجا، علمنا ان حكم الجلد الذي في الآية خاص بالذي يزني وهو غير متزوج، أما المتزوج فيرجم.
[36] يعني وكذا يجوز تخصيص الكتاب العزيز بالإجماع.
[37] معارج الأصول للمحقق الحلي ص95 ــ 96.
[38] الأحكام للآمدي ج 2 ص 322.
[39] الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 30.
[40] المصدر السابق.
[41] المصدر السابق ص27، وراجع أيضا ما قاله ابن حجر عند إيراده للحديث: (وأخرج البيهقي بسند صحيح عن حسان بن عطية احد التابعين من ثقات الشاميين...ـــ ثم ذكر الخبرــ) راجع فتح الباري لابن حجر ج13 ص248.
[42] الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص28 باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان.
[43] المصدر السابق ص29 ــ 30.
[44] المصدر السابق ص30 ــ31.
[45] سورة الحشر الآية رقم 7.
[46] سورة النجم الآية 3 ــ 5.
[47] الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص25.
[48] المصدر السابق.
[49]الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص26.
[50]الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص24.
[51] وأقول مستفهما بعد معرفة هذه الأحاديث الأخيرة: إذا كان الصحابة قد سمعوا هذا الكلام من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلموا يقينا ان القرآن لا يستغني عن السنة المطهرة، وان من يستغني بأحدهما دون الأخر فقد باء بالخسران المبين، فما معنى قول عمر بن الخطاب حينما كان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على فراش موته: (ان النبي صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) والذي رواه البخاري في صحيحه وغيره بقوله: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم قال رسول الله صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم قوموا قال عبيد الله وكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه ــ واله ــ وسلم وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) صحيح البخاري ج 7 ص9 كتاب المرضى والطب.
[52] صحيح مسلم ج 7 ص130.
[53] سنن الترمذي للترمذي ج5 ص360 ــ 361.
[54] المصدر السابق.
[55] المصدر السابق ص31.
[56] المصدر السابق.
[57] المستدرك للحاكم النيسابوري ج 2 ص 416.
[58] المصدر السابق.
[59] المصدر السابق.
[60] المستدرك للحاكم النيسابوري ج 3 ص 147 ــ 148.
[61] سير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 283.
[62] المصدر السابق.
[63] يعني بذلك الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.
[64] منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج5 ص13.
[65] تفسير الثعالبي ج4 ص346.
إرسال تعليق