بقلم: السيد نبيل الحسني
المسألة الأولى: الملازمة بين التوحيد والنبوة والإمامة
إن اجتماع عملية تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة له من الدلالات ما لا حصر لها، ومنها:
1. الملازمة بين التوحيد والنبوة فلا انفكاك بينهما، بمعنى: لا يتحقق التوحيد الا من خلال الاعتقاد بالنبوة كما لا تتحقق النبوة الا من خلال الاعتقاد بالتوحيد.
2. إن علياً عليه السلام اختاره الله تعالى لمسؤولية الدفاع عن التوحيد من خلال تكسير الاصنام والدفاع عن النبوة حينما بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا ما لا يجتمع لبشر قط.
3. لا يمكن للمسلم أن يدرك مراتب التوحيد والتصديق بالنبوة الا من خلال علي بن أبي طالب عليه السلام فهو الذي لم يشرك بالله طرفة عين فأباد جميع أنواع الشرك وصنوفه، وهو المصدّق الأول برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبالغ حق اليقين فيهما، ولذا جمعهما الله تعالى له في ليلة واحدة.
4. تكبيد المشركين والكفار أعظم الخسائر في هذه الليلة من خلال تكسير آلهتهم ونجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أيديهم بفضل الله تعالى وجهود أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
5. في هذه الليلة يبلغ عداء قريش لعلي بن أبي طالب عليه السلام في أعلى درجاته فهو الذي أذل آلهتهم وكسرها وأفشل كيدهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفضحهم أمام العرب.
6. في هذه الليلة يقف الإمام علي عليه السلام كالجبل الشامخ أمام التحديات التي تنوء منها الجبال ليواجه كل ما جمع له المشركون من حنق وانتقاماً لآلهتهم، ومَنْ غير علي عليه السلام لهذه المهمات فيكون حجة على تاركيه.
7. ليباهي الله تعالى بعلي الملائكة فقد كسر الأصنام وفدى بنفسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في ليلة واحدة.
8. لتتحقق معجزة إبراهيم عليه السلام في هذه الليلة وتكون نيران أحقاد المشركين وسيوفهم المشهورة على علي عليه السلام بردا وسلاما.
9. انشغالهم بما هو عندهم أهم بكثير من أمر خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ حتى يستطيع أهل مكة والقرشيون من استيعاب الصدمة من تكسير صنمهم الأكبر والخروج من آثارها فلابد لهم من وقت، هذا الوقت ساعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوصول سالماً إلى المدينة.
ولذلك:
كيف لا يأمر الله تعالى جبرائيل وميكائيل بالنزول إليه ليحمياه من كيد أعدائه فيكون جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه؟!
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
المسألة الثانية: التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام
حينما نرجع إلى كتاب الله العزيز نجد أن هذه العملية التوحيدية لمحاربة الشرك يقدمها القرآن بصورة جلية في حياة إبراهيم الخليل عليه السلام بتفاصيل تجعل القارئ يستحضرها أمامه وهو يقرأ عملية تكسير الأصنام التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
1. فإبراهيم عليه السلام دخل ليلاً إلى معبد بابل لتكسير الأصنام في غفلة من أهلها وهذا لا يدل على الخوف، والحال نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو شاء إبراهيم أن يقوم بتكسيرها نهاراً لفعل وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام.
لكن حينما يفقد الأثر التوجيهي والإرشادي دوره في إرجاع العقول إلى التفكير في عبادة هذه الحجارة التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً فكيف تنفع غيرها؟!
فضلاً عن أن ذلك سيثير غضب الكهان وسدنة الأصنام والمستميتين من أجل عقيدتهم فيقومون بمنع إبراهيم عليه السلام أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إتمام عمله، أن لم يمنع من الأصل من القيام بذلك. ومن ثمّ لا يتحقق الغرض الإرشادي.
ويسلب الإنسان تلك اللحظات من الوقوف مع حاكمية العقل، فلو تم العمل نهاراً أمام مرأى الناس لانشغلوا بالفاعل دون آثار هذا الفعل فيصبح العقل أسيراً لهذه الظاهرة.
2. إنّ الزمان الذي حدده إبراهيم عليه السلام لم يكن من اختياره بل هو بوحي من الله تعالى لحكمة خاصة ترتبط بما وصل إليه هؤلاء المشركون من حالة دوران الشك واليقين بزيف عبادة الأصنام وهي حالة يمكن لإبراهيم عليه السلام من خلال علم النبوة ان يحدد مستوى التأثير في قومه ونسبة استجابتهم لدعوته وان كثيراً منهم يحتاج إلى حالة القطع بفساد هذه العبادة.
3. إنّ تكسير الأصنام في هذا الوقت يدل على وصول الأمر العلاجي إلى حالة الكي وكما قيل في الأمثال (إن آخر العلاج الكي) فهذه الأصنام يجب أن تكسر كي تنكسر معها تلك العقول المتحجرة.
4. إنّ عملية التكسير كاشفة عن زيف من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادّعى انه آمن به، بمعنى كشف المنافقين فهؤلاء مهما تستروا ولبسوا مختلف الأقنعة فإنّ تكسير الأصنام سيجعلهم ــ لا محالة يتأثرون ويحزنون إن لم يكشروا عن أنيابهم، وهذه الحالة الاختبارية نراها تتجدد في كل زمان حينما يتعرض الجبت والطاغوت إلى التكسير فسرعان ما نرى من آمن بهما كيف ينتفض ويرتعش كارتعاش الصراصير حينما يشق النور ظلام جحورها.
5. إنّ تكسير الأصنام في سيرة إبراهيم عليه السلام يدل على بدء مرحلة جديدة من الدعوة إلى التوحيد وإن هذه المرحلة الجديدة هي مرحلة المواجهة والقتال، فأما إبراهيم فبعد أن كسر الأصنام عزم قومه على قتله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم قومه على قتله وإنّ المواجهة وصلت إلى مرحلة من الإقتتال. والفارق بين المقامين أنّ إبراهيم عمد إلى تكسير الأصنام لمرة واحدة في حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كرر العملية لأكثر من مرة كما سيمر لاحقاً.
6. إنّ هجرة إبراهيم من العراق إلى بيت المقدس أعقبت ليلة تكسير الأصنام وإن هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمت في الليلة نفسها.
7. إن الله سبحانه وتعالى يقدم لبني آدم من الآيات ما هو خلاف حساباتهم وتدابيرهم وتفكيرهم وذلك من خلال ما يقوم به الأنبياء والمرسلون من حالة من التعامل التي يتوقف معها العقل عن إيجاد حل، ان لم يكن من الأصل ينفيها ومثال ذلك اجتماع السلامة من الموت والحفظ من الهلاك، والنجاة من القتل، لطفل رضيع حينما يوضع في تابوت فيرمى في البحر، كما حدث لموسى عليه السلام؛ إذ كيف يتحقق جميع ذلك من الناحية العقلية لطفل رضيع وهو يرمى في البحر. كما هو بيَّن في قوله تعالى لأم موسى: {...فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ...}[1].
إنه شيء يعجز العقل في التعامل معه واستيعابه.
وهكذا إبراهيم عليه السلام يكون إرشاده لقومه من خلال تكسير أصنامهم وإثارة حفيظتهم وعزمهم على قتله بشكل لا يتكرر على مر البشرية من حين الجمع لمواد النار وحجمها ومساحتها مقابل شخص واحد.
وكذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه يكسر الأصنام ثم يخرج من مكة تاركاً ابنته فاطمة عليها السلام وأخاه علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تولى تكسير صنمهم الأكبر وهو يواجه صناديد قريش وأجلافها فما أشبه؛ {...فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ...}[2].
بقذف علي في فوهة المواجهة وغضب قريش ورجوعه سالماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مع الفواطم.
بل: إنّ هذه العملية وحدها كافية لفهم منزلة الإمام علي عليه السلام من الرسالة، وانه منزلة هارون من موسى واشتراكهما في الدعوة إلى التوحيد واقامة شرع الله غير أن هارون نبي وعلياً وصي.
فكما ان موسى وهارون كانا شريكين في الدعوة والمواجهة والجهاد كذلك حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام وجاعلاً هارون شريكاً.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}[3].
لكن أنى لبعض العقول أن تتدبر في كتاب الله تعالى وقد طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون.
المسألة الثالثة: التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون
من دار خديجة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام وإليه عاد مع الإمام علي عليه السلام ومما دلت عليه رواية الحاكم النيسابوري، اختصاص دار خديجة بهذه المزيّة الجديدة في نشر التوحيد ومحاربة الشرك وازهاق الباطل.
فالرواية وان كانت لم تذكر دار خديجة الا أن تحديدها للزمن الذي وقعت فيه وهو (الليلة التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يبيت على فراشه وخرج فيها مهاجراً)، يدل بشكل قطعي على خروجهما من دار خديجة لهذه المهمة وإليه عادا بعد إتمامهما لهذه العملية التطهيرية، ثم قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من الدار حينما اجتمع القوم حوله.
وهذا كاشف عن ان التوحيد ينطلق من دار خديجة وان عملية الإصلاح ومحاربة الباطل تخرج من دار خديجة أيضاً.
وإن نشر التوحيد أوكل إلى أهل هذه الدار منذ أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والى اليوم الذي يخرج منه ولده المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لتكسير الأصنام ونسف الجبت والطاغوت ودك عروشهما في جميع بقاع الأرض.
ـــــــــــــــــ
[1] سورة القصص، الآية: 28.[2] سورة القصص، الآية: 28.[3] سورة طه، الآيات: 43 ــ 47.
[1] سورة القصص، الآية: 28.[2] سورة القصص، الآية: 28.[3] سورة طه، الآيات: 43 ــ 47.
إرسال تعليق