بقلم: الدكتور عبد الجواد الكليدار
إن المرء لا يعرف في الغالب شيئاً عن مصيره في الحياة، ولا يعرف ما تخبئه له الأيام من مفاجئات خلف ستار المستقبل الغامض. ولو عرف ذلك لبلغ مرتبة دونها مرتبة الأبرار والمقربين، فبقي الإنسان يتخبط دوماً في الوجل والخوف على مصيره ويتسائل عما سيحل به في الغد وهو يحاول خرق الحجب الكثيفة لمعرفة هذا السر، سر الأيام والمفاجئات، ليكون على بينة من أمره ويتخذ الحيطة قبل حلول القدر المحتوم.
ولو القينا نظرة على حياة العظماء وسيرتهم، وهم نخبة البشر وقادته، لوجدنا موارد الضعف ورأينا أن أكثرهم، وبل كلهم لا يختلفون في هذه الناحية عن غيرهم لأنهم لم يستطيعوا أن يحسبوا للمستقبل حساباً دقيقاً كما أرادوا فما كانوا يحسبون لأنفسهم على أكثر إلاّ حساب الفوز والنصر في كل مغامرة خاضوها فكانوا يلقون بأنفسهم في معارك الحياة وهم واثقون بالنجاح، دون أن يخطر لهم على بال ما سيصيبهم من خيبة وفشل، أو ما ينتظرهم من دمار وهلاك. ولعلهم لو كانوا يعرفون ذلك، أو يستخلصون ولو جزءاً يسيراً مما يترصدهم من فشل حتمي أو هلاك محتوم فيما هم مقدمون عليه لتجنبوا ذلك وارتدعوا عنه واتقوا شر ما سيحيق بهم من أخطار.
وهنا فقط تظهر جلياً عظمة الرجل ودرجة تضحية العظيم في سبيل المبادئ والمثل الإنسانية العليا، وتكشف لنا صفحات التاريخ العربي عن مثل هذه الشخصية العظيمة الفذة في الصدر الأول للإسلام عصر البطولة والتضحية، وهي شخصية الحسين (عليه السلام). فإن الحسين هو تلك الشخصية الوحيدة التي أعطت دروساً قاسية في التاريخ للتضحية في سبيل المبدأ بالنفس والنفيس، وبالمال والأولاد، وكانت تعلم تمام العلم بما هي مقدمة عليه وما يحيط بها من أخطار، فلا أرانا التاريخ مثلها كما ولن يرينا مثلها قط.
هكذا كانت شخصية الحسين العظيمة وما كان لها مثيل في التاريخ. فكأنها كانت نوراً بمظهر الجسم، وملكاً في صورة إنسان، أو إنساناً بلغ الغاية القصوى من الكمال، أو جسماً تلطف حتى ترفع عن شوائب النفس فتجرد من المادية الى عالم القدس، فصار يضيئ بنوره القلوب ويفيض به على الأفئدة والأبصار، فأصبح رمزاً للأيام والأجيال خالداً مع الدهور والأزمان.
فكلما نمعن النظر في تلك الشخصية العظيمة ونحاول الإحاطة بها. فكأننا نمعن النظر في أعماق بحر من الحقائق السماوية فلا ندرك من الساحل، فكأنها مظهر الحياة كلها هي الروح وسواها الأجساد، وكأنها سر من اسرار الطبيعة والخليقة لما أودع فيها من قوة سماوية لا يدركها افهام اهل الأرض، هكذا تفسر تلك الشخصية الفذة في التاريخ وكثير من الشواهد على ذلك.
وتـجاه مـا بلغت اليه الحالة في العهد الأموي الجائر لم يبق امام الحسين(عليه السلام)، وهو الوريث الوحيد لهذا التراث الإسلامي الخالد، غير طريق واحد هو مقاومة ذلك الوضع الغاشم ومكافحة العدوان لإرجاع الأمور الى ما كانت عليه في عهد صاحب الرسالة بعد أن لعبت فيها الأهواء المختلفة دوراً مهماً بالتدريج، أو الموت في هذا السبيل إحياءً للدين. وما كان يخفى على الحسين مقاومة أمية له ان قام بمثل هذا الأمر، ولا خذلان القوم له ان دعاهم الى الجهاد والذود عن معالم الدين وقبل برهة كان معاوية قد أفسد أخلاقهم بشتى الأساليب فحلت المادية محل المثالية في النفوس وتغلبت الأنانية وحب الذات على المصلحة العامة في القلوب. ومع ذلك كله فقد قام الحسين وتصدى للأمر بجأش رابط وجنان ثابت، فهاجـر أولاً من المدينة الى مكـة كما هـاجر جده الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبله بستين عاماً من البطحاء الى يثرب فكانت الهجرتان : هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة، وهجرة الحسين الى العراق من نفس الأعداء من قدامى مشركي قريش.
وأما الفرق بين الهجرتين: فإن الأول هاجر الى النصرة والمنعة الى ما منعوه، وأما الثاني فقد هاجر الى من حاربوه وقتلوه وهو يعلم بذلك ويصرح به منذ شخوصه من مكة الى العراق، فأشار الى ذلك في خطبته المشهورة فقال بعد أن حمد الله :( فكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا…) فيظهر من ذلك مبلغ علمه بمصيره لا كأمر مشكوك فيه، ولا مجهول العاقبة، وإنما كشيء محسوس مسلم به بأنه سيقتل لا محالة، وقد عين موضع مصرعه كما وقع بالفعل بين النواويس وكربلا. وهذا غاية التضحية في سبيل المبدأ، ومنتهى التفاني في الله، وعلى جانب عظيم من نكران الذات لخير المجموع. ولم يعطنا التاريخ مثالاً كاملاً لهذا النوع من التضحية إلاّ في الحسين وهو مثال الإنسانية الكاملة الذي ما يستهدف في كل مغامراته إلاّ احياء قضية حقه ولو بالنصر الآجل، وإن الحياة لا قيمة لها في نظره ما دامت القضية مخذولة كما جاء الدكتور ماربين الألماني معبراً عن ذلك في كتابه ( السياسة الإسلامية) بقوله:
((إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان وعز عليه النصر العاجل، فخرج بإهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة)).
فحياة الإسلام وإحياء الدين كان أمراً يتوقف على قتل الحسين ليحي بموته الإسلام الذي اصبح ولا حياة له إلا بذلك. فلم يتوقف الحسين في بذل نفسه وأهله وذويه في ساحة المجد والشرف في هذا السبيل فلبى النداء وأجاب الدعوة الى الشهادة ولسانه وجنانه يرددان منذ أول خطوة قوله هذا (( خط الموت على أبن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة)) فكأنه يستهزء بالموت ويستهونه، ويرى الحياة عاراً مع الذل، ويرى النفس أبخس ثمن يقدمها الإنسان في سبيل هذا الجهاد. ثم يعود ويؤكد ما قاله من قبل بقوله هذا وهو عازم على الكفاح إلى آخر لحظة من أنفاسه (( إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما وسأماً)). معللاً في ذلك ما دعاه الى الخروج بقوله (( ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولكنني خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)).
فليس منظوره من هذا الكفاح إلاّ إحياء الدين وإصلاح حالة المسلمين، وإرجاع الوضع على ما كان عليه في عهد جده صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم). فهو ينشد الإصلاح ويطلب الصلاح.
وفي اللحظات الأخيرة من هذا النزاع عاد فأتم الحجة على أصحابه وأنصاره مؤكداً عليهم للمرة الأخيرة بأنه سيستمر في قتال أعداء الحق وأنه سيستشهد لا محالة بقوله: ((من لحق بي فقد استشهد، ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح)).
فاصطحب الحسين (عليه السلام) في خروجه هذا أهله وذويه كما أشار الدكتور ماربين الألماني الى ذلك إعلاناً وإشهاداً على غاية عزمه وصدق نيته فيما هو مقدم عليه، لأن اصطحاب النساء والأبناء في الغزوات عادة عربية عريقة، فنال ما كان يبتغيه لنفسه من الشهادة إحياء للدين، ونال ما كان يبتغيه لهم من أسر إعلاء لكلمة الحق.
وهـل مات الحسين ذلك الإنسان الكامل بشهادته على يد الأعداء..؟-كلا-
كـذب الـموت فالحسين مخلد **** كلـما أخـلق الزمان تـجدداً
إن الحسين مخلد يحيى حياة أبدية دائمة فهو يعيش في الأرواح والنفوس والقلوب، وقد ماتوا من قتلوه، ويموتون معادوه..!
إرسال تعليق