بقلم: الدكتور عز الدين آل ياسين
اذا كان الصدق مرد أشتات الفضائل وكرائم القيم فان الجود بالنفس من اسمى مظاهر الصدق الذي لا يلبس ثوباً من رياء. ولا يحتمل شوباً من سمعته.
واذا لم يكن من الموت بد، ولا من شراكه وحبائله مهرب، فالصفقة الرابحة ان تشتري بهذا العمر المحدود فخراً عالياً وذكراً ممدوداً.
كذلك الشهداء الذين آلوا ليبيعوا انفسهم الغالية بثمن غال هو خير الامة وسؤددها وعزها وافلاتها من الأسر ونجاتها من ظلم الظالمين.
سيد هؤلاء الشهداء المصلحين، سيد شباب اهل الجنة ابو عبد الله الحسين بن علي عليه السلام.
لقد رأى -سلام الله عليه- سفينة الدين تضطرب بها الامواج فيتولى قيادتها ربان ليس من كفايات القيادة في شيء قليل او كثير، رأى كرسي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأثر به ويتربع عليه فتى فاجر عاهر متجاهر قد طبعته بيئته وتربيته على شمائل ينبو بها الخلق، ويصدم بها الدين، ويضيق بها صدره الرحيب.
وها هو ذا مقبل على دنياه، حائد عن السنن، منصاع الى صبوانه وشهواته، مشغول بقروده وفهوده، ينقض باعماله المنكره هدى الكتاب والسنة، وينكر بملئ فيه امر الحساب والعقاب امامه بيت المال تنصب فيه سيول الجباية والخراج والجزية فيشرق بالصفراء والبيضاء تسعى من كل فج فينفق منها ما شاء في تلبية مجانته، واشباع غروره، وتمكين الامر لنفسه وحاشيته.
واستتب له الملك، واندرج طائفة من الناس بالجاه والمنصب والمال، واخذ جمهور المسلمين بالقوة والعنت فدانوا له مكرهين.
وأريد ابو عبد الله على ان يبايع يزيد، فيبيع ريحانة رسول الله نفسه لهذا الفاسق المارق الذي آثر هواه، وخرج من عز طاعة الله الى ذل معصيته، واصغى الى نوازعه واطماعه فتطاول على ابن بنت رسول الله وبقيته في الناس، ومن احواله صنايع امية من عفاة المال من اشباه الرجال يظاهرون عدوه وعدو جده رسول الله، ويتجنون على دينه مبتدعين ومخترعين ويجترؤون على مقام ابيه مجاهرين غير متذممين، ويزيد يعلم ان الحسين قبلة الناس، اليه تشخص الابصار، ونحوه تهفو القلوب فهو سيد معاصريه من المسلمين غير منازع، وهو وارث الحسن وعلي والنبي، فكيف السبيل الى الحيلوله بينه وبين الناس ؟
السبيل الى ذلك ان يبايعه الحسين راضياً او مكروهاً فيأمن السرب بعده. وينام هاديء النفس وقرير العين. وها هوذا يستدرجه عن طريق عماله وولاته ليمد له بالبيعة يداً صاغرة زعزعها الجبن وارعشها الوعيد، وكفكف من شرتها صرامة السلطان المتظهر بالسلاح والعتاد، ولكنه ولا يضرب الا في حديد بارد لا ينفخ إلاّ في رماد.
فما الحسين حرص على حياة مهينة يحياها ذليل النفس ملوي الجيد، في ظل امية وفي أسر يزيد، وكيف يحلو كأس الحياة مرنقة بالذل، مشوبة بالصغار، ملوثة بالعار والنار، يأبى الله له ذلك ونفس بين جنبيه تنبض والعزة والمضاء والعزيمة وانف يسمو على اشياء هذه الحياء بالشمم والاباء والكرامه. ايضن بحياته حرصاً على ايام معدودة هو منها في سجن مرهق وعذاب شديد، تاركاً دين الله كرة يلعب بها طاغية بني امية كيف يريد ؟ كيف هذا وقد تعب هو وابوه وجده واسرته في بناء هذا الدين واقامة دعائمه وصروحه حتى استوى ساقه وامتد رواقه وآذن بالثبات والرسوخ والخلود اليس هو من هذه المدرسة المباركة التي نشأ الدين وترعرع في احضانها، وربي وتعوهد بعينها، وسقي وغذى من لبنها واستقام ونهض بأسلات سيوفها واطراف فرسانها ؟ هو ابن علي وسليل فاطمة وسبط النبي وريحانته وجلدة ما بين عينيه ووارث علمه وهو منهم وهم منه، طينة طابت وحجور طهرت ونبات زكا وآتى اكله طيباً مباركاً.
هذا علي ابوه ما برح يصاول اعداء الله ورسوله بساعده المفتول وصارمه المصقول يشري نفسه لرسول الله كراراً لا يفر ومقداماً لا يحجم وضرغاماً لا يهاب.
فما عجب ان ينهض في الحسين روح ابيه، فتشب الثورة في نفسه شرارة لم تلبث ان اندلعت حماها فاستشرى اوارها فاذا هي عزيمة ماضية لا تنكفيء وجذوة ملتهبة لا تنطفئ.
خرج الحسين على يزيد وابن زياد لا يلتمس ملكاً ولا يطمع في جاه ولا يطمع الى زعامة، وانما خرج على الباطل المزهو والشر المجند، ليستأثر للدين المجفو والحق المجرد، فجلجل بصرخته الداوية بين عجيج الباطل ليدرأ عن امة محمد وابتاع محمد ذلا كاد يلحق بهم من حيث يشعرون او لا يشعرون.
وهكذا نزل (عليه السلام) للدين عن نفسه واهله وصحبه راضياً مختاراً.
ان العناية الالهية هي التي هيأت حسيناً وآل حسين وصحب حسين لهذا اليوم فلولا هم لدرست معالم الدين ولمحقها يزيد وشركائه فلم يتركوا لها عيناً ولا اثراً. وقد كان الحسين يعرف آله وصحبه ويعتد بهم ويعلم ثباتهم في الهيجاء وصبرهم على المكاره وصدق بلائهم عند اللقاء وحرصهم على الشهادة بين يديه او قل بين يدي الدين الماثل في شخصه.
اراد الحسين ان يعذر الى آله وصحبه –وقد علم ان القوم غير تاركيه حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفه- فجعلهم في حل من بيعته ليدرأ عنهم الموت، فأبوا إلاّ ان يفدوه بأنفسهم واموالهم واهليهم قائلين ((نقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك)).هكذا كان اصحابه عليه السلام يستمعون الوحي من بيانه، فليستمدون القوة من جنانه، فيأمنون به من فزع، ويكثرون به من قلة، ويقوون به من ضعف، فيتقدمون الى اعداء الله ورسوله عامرة نفوسهم بحرارة اليقين والايمان.
لقد علموا ان الحسين لم يخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالماً وانما خرج يطلب الاصلاح في امة جده اليس هو القائل: ((اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن ردّ علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)).
عزم (عليه السلام) ان يقلم اظفار الباطل ويرفع كلمة الله فلم يجد الى ذلك سبيلاً الا ان يقذف بنفسه في مشارع الشهادة ليقدم للدنيا من نفسه مثلاً فذاً للتضحية بالنفس حين توصد ابواب الاصلاح الامن طريقها.
كان (عليه السلام) قوياً على الاحداث لا يهن ولا يستكين، بعيد النظر الى ما وراء هذه الدنيا واشيائها واهوائها، يسمع نداء الحق بين اخباء نفسه فيستجيب للنداء مستصغراً شأن الحياة مستصغراً شأن الموت غير ناظر الى شيء الا الحق الذي امتزج بلحمه ودمه.
يرى انصاره يتخطفهم الموت، ويستنـزل منهم الى الارض كل ساعة فارساً صنديداً، قد صدق اللقاء واحسن البلاء حتى اثخن فخر عن صهوة جواده مضمخاً بدمائه، ويرى حرمه يتفجعن ويتصايحن مذعورات مشفقات مما يستقبل سيدهن من الموت –وهو الوزر الذي يلجأ اليه- ومما يستقبلهن من السبي والتشريد وهن عقائل النبوة وحرائر الرسالة.
ينظر عليه السلام كل ذلك وهو يتلوى من شدة الصدى ويقاسي من حر الظمأ ما لا يكون معه بال حاضر، ولكن الحسين حاضر البال جميع الرأي رابط الجأش تزول الجبال ولا يزول يلين الحديد ولا يلين، يستجيب لهذا الصوت الألهي الذي يستصديه على أئمة الضلال واتباعهم فيشد عليهم فاذا هم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
لقد عاش عليه السلام حراً، ومات حراً، وترك للأجيال تاريخاً هو ملء الدنيا نوراً وملؤها عطراً.
إرسال تعليق