الاختلاف في المطلق والمقيد ودوره في إثراء علم التفسير

بقلم: عدي جواد علي الحجار

الإطلاق في اللغة: التخلية والإرسال: أطلقت الأسير، أي خليته. وناقة طلق وطلق: لا عقال عليها، والجمع أطلاق, وبعير طلق وطلق: بغير قيد. فالطاء واللام والقاف أصل صحيح مطرد واحد وهو يدل على التخلية والإرسال([1].

والتقييد في اللغة: من القيد: وهو واحد القيود. وقد قيدت الدابة. وقيدت الكتاب: شكلته. وهؤلاء أجمال مقاييد، أي مقيدات, يقال قيدته أقيده تقييداً, فالقاف والياء والدال كلمة واحدة وهي القيد وهو معروف ثم يستعار في كل شيء يحبس([2].

والمطلق والمقيّد اصطلاحاً: «المطلق الدال على الماهية بلا قيد, وهو مع المقيد كالعام مع الخاص قال العلماء متى وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه وإلا فلا, بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيّد على تقييده لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب. والضابط أن الله إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقاً نظر فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر»([3].

وبعبارة أوضح: «المراد بالمطلق في القرآن الكريم, هو اللفظ الذي لا يقيّده قيد, ولا تمنعه حدود, ولا تحتجزه شروط, فهو جارٍ على إطلاقه. والمقيد بعكسه تماماً, فهو: الذي يقييد بقرينة لفظية دالة على معنى معيّن بذاته لا تتعداه إلى سواه»([4]. وهذه التعريفات للمطلق والمقيد لا تبتعد كثيراً في مؤداها عن المعنى اللغوي الذي انبثق عنه, وما يعني البحث هو ما يترتب منه على ما فهمه المفسرون من المطلق والمقيد والذي نتج عنه التنوع في التفسير, فالإطلاق تناول واحداً غير معين، والتقييد تناول واحداً معيناً أو موصوفاً بوصف زائد, فقد يرى بعض المفسرين بقاء المطلق على إطلاقه، ومنهم من يقول بتقييد هذا المطلق بقيدٍ معين:

مثال: ذلك عتق الرقبة في كفارة اليمين وكفارة الظهار, فقد وردت مطلقة: كما في قوله تعالى:

{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}([5].

وفي كفارة الظهار قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([6].

ووردت مقيدة كما في قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَي أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَي أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}([7].

فحمل بعض المفسرين المطلق على المقيد وقالوا لا تجزئ الرقبة الكافرة، وأبقى بعضهم المطلق على إطلاقه([8].

ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده، وإذا دار اللفظ بين الإطلاق والتقييد في مورد واحد فإنه يحمل على الإطلاق, لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه([9] «كإطلاق صوم الأيام في كفارة اليمين، وقيدت بالتتابع في كفارة الظهار والقتل، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الأصل تركناه على إطلاقه»([10], أما لو جاء في مورد مطلقاً وفي آخر مقيداً والمتعلق واحد حمل المطلق على المقيد, فإن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة المطلق والمقيد، ومن عمل بالمطلق فقد عمل على وفق دلالة المطلق من دون أن يفي بالعمل بدلالة المقيد، فكان الجمع هو الواجب والأولى وهو العمل بالمقيد([11].

وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة, منها ما في قوله تعالى:

{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}([12].

فالمقصود بـ"صَدُقَاتِهِنَّ" المهر, فألزم الله تعالى إعطاء المهر, لكنه مطلق من جهة أنه على نحو الأجرة على البضع أو هو ثمن ومثمن كالبيع والشراء أو على نحو آخر, فقيّده بقوله "نحلة".
ولما كان "صدقاتهن نحلة" مركباً من مطلق ومقيد, فإنه دعا المفسرين إلى إنعام النظر والتأمل في المعنى المراد من خطاب الله تعالى وما هو المقصود بخطابه جلّ وعزّ, فمن تلك التفسيرات, قولهم:

1 - النحلة: العطية, وهي الهبة من دون عوض من غير جهة مثامنة([13]. وذلك أن الاستمتاع مشترك بين الزوجين والزوج ينفرد ببذل المال، فكأنها تأخذه بغير عوض([14].

2 - لم يُرد بالنحلة العطية، وإنما أراد بالنِحلة الانتحال وهو التدين، لأنه يقال: انتحل فلان مذهب كذا أي دان به، فكأنه تعالى قال: >وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً< أي تديناً([15].

3 - النحلة: عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء، لأن في شرع من قبلنا كان المهر للأولياء, وأن لا يحبس الأولياء المهور إذا قبضوها([16].

4 - النحلة: عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء، ومراد الخطاب منع المتشاغرين من الشغار([17], والالتزام بجعل النكاح بمهر, إلا ما اختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم([18].

5 - إن النحلة حال من المعطي وهو الزوج, أي يعطيها مهرها كملاً إن دخل بها, ونصفه إن لم يدخل([19].

6 - النحلة: عطية: من الأزواج لهن وانتصابها على المصدر، والاعتراض على الانتصاب على الحالية, فالحال قيد للعامل فيلزم كون الإيتاء قيداً للإيتاء, والشيء لا يكون قيداً لنفسه، وردّ بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه([20].

7 - إن النحلة هو وصف للصدقات, أي يكون الإعطاء تبرعاً من دون مخاصمة ولا مطالبة منهن([21].

8 - النحلة دين وشريعة ومذهب, ويكون انتصاب "نحلة" على أنه مفعول لأجله, أي لأجل الدين والشريعة... ([22]

9 - إن النحلة بمعنى الانتحال وهو إضافة الشيء إلى من ليس هو له([23].

10 - النحلة: المسماة المعلومة من بيان أوصافها وحدودها وتعدادها([24].

11 - النحلة: الواجب بمعنى أنه لا ينبغي نكاح المرأة إلا بصداق واجب, أي لا يكون تسمية الصداق كذباً بغير حق([25].

12 - النحلة: ما نحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء من ثبوت المهور لهن على الرجال([26].

فبالرغم من اتفاقهم على هذا التقييد اختلف تنوع فهمهم وإفاداتهم من ناتج التقييد, فكيف وهذا التقييد قد جاء متصلاً؟ بيد أن التقييد قد يكون بأدوات مختلفة, وقد يكون منفصلاً يخضع لسياقات متغايرة, فقد يختلف المفسرون([27] في أصل التقييد, بمعنى أن منهم من يرى المطلق قد قـُيِّد بقيد معيّن قد لا يراه الآخر صالحاً لتقييد ذلك المطلق, كالقيود التي افترضها بعضهم قيوداً توضيحية أو تقبيحية أو غالبية أو لازمة أو للتأكيد.... وبعضهم عدّها قيوداً احترازية, واختلافهم في حد الغلبة, بأنه متى يعدّ القيد غالبياً؟ هل المدار على العرف أم العرف الخاص أو غير ذلك.

كما قد يقع الاختلاف عند تعدد المطلقات في جملة ورد فيها قيد واحد, فهل يقيد الأخير من المطلقات أم يسري على الجميع؟ وقد يتفرع على ذلك أمور كثيرة, مما حفز أذهان المفسرين على إطالة التأمل وتتبع الاحتمالات مع اختلاف أدوات كل مفسر واستعداداته, مما خلّف ثروة طائلة في التفسير.


ـــــــــــــــــ
[1] - ينظر:الجوهري - الصحاح ج 4 / 1518وابن منظور- لسان العرب ج 10 / 226وا بن فارس- معجم مقاييس اللغة ج 3 / 420.
[2] -ينظر: الجوهري - الصحاح ج 2 / 529وابن فارس ج 5 / 44.
[3] -السيوطي-الإتقان ج2/82.
[4] -محمد حسين علي الصغير-"مصطلحات أساسية في علوم القرآن"/5"محاضرات ألقيت على طلبة الدراسات العليا-2006-جامعة الكوفة".
[5]- سورة المائدة: 89.
[6]- سورة المجادلة: 3.
[7]- سورة النساء: 92.
[8]- ينظر:الجصاص- أحكام القرآن:3/568.
[9]- ينظر:الطوسي- عدة الأصول:1/333-335 ومحمد تقي الرازي - هداية المسترشدين: 2 / 95.
[10]- ينظر: الزركشي - البرهان: 2 / 17.
[11]- ينظر:الآمدي - الإحكام: 3 / 4.
[12]- سورة النساء: 4.
[13]- ينظر:الطوسي- التبيان: 3/109.
[14]- ينظر:الطبرسي- مجمع البيان: 16.
[15]- ينظر:الراوندي- فقه القرآن: 2/102.
[16]- ينظر:الآلوسي- تفسير الآلوسي: 4/198.
[17]- نكاح الشغار: أن يزوج الرجل ابنته من رجل على أن يزوجه ابنته، وكلتاهما بغير مهر، وهو من أنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام. محمد قلعجي - معجم لغة الفقهاء:263.
[18]- ينظر: الطبري-جامع البيان: 4/321والثعالبي- تفسير الثعالبي:2/166-170.
[19]- ينظر:الطوسي-التبيان: 3/109والقرطبي-تفسير القرطبي: 5/24.
[20]- ينظر:أبو السعود- تفسير أبي السعود: 2/143.
[21]- ينظر:الرازي-تفسير الرازي: 9/180.
[22]- ينظر: أبو السعود- تفسير أبي السعود: 2/143.
[23]- ينظر: الرازي-تفسير الرازي: 9/180.
[24]- ينظر:البغوي-تفسير البغوي: 1/392.
[25]- ينظر:ابن كثير-تفسير ابن كثير: 1/462.
[26]-ينظر:السيوطي- الدر المنثور: 2/119-120.
[27]-ينظر:أبو حيان الأندلسي-تفسير البحر المحيط:1/335 و606 وج3/169 وج6/391 والرازي- تفسير الرازي:10/58 والزركشي-البرهان:3/394والآلوسي- تفسير الآلوسي: 1/258 وج2/38 وج4/198 وج5/43 وج6/114-66وج15/172وج19/156والطباطبائي-الميزان:8/246 وج16/211 و335 وج19/194.

إرسال تعليق