تعدد الزوجات من وجهة نظر الأديان السابقة (اليهودية والمسيحية)

بقلم: الشيخ وسام البلداوي

قديما قيل ان توضيح الواضحات من أصعب المشكلات، والحديث عن أصل الزواج وأهميته وضرورته يعد مشمولا بهذه القاعدة، ويعد توضيحا لأوضح أمر عرفته البشرية، فالعقل والفطرة قبل الدين والشرع يشهدان بأهميته.

والثابت الذي لا يقبل الشك وبحسب النصوص التاريخية ان ظاهرة تعدد الزوجات كانت سنّة جارية وموغلة في القدم، والتاريخ وان لم يكن فيه تحديد دقيق لبدء نشوء هذه الظاهرة إلا أن تلك النصوص التاريخية وكذلك الدينية التي يعود زمن وجودها إلى نبي الله موسى ومن بعده عيسى صلوات الله وسلامه عليهما تحدثت وبشكل صريح عن ظاهرة تعدد الزوجات.

والتوراة والإنجيل وان كانا لا يعدان نصا قطعي الصدور لتعرضهما إلى كثير من التزوير والتحريف، الا انه يمكن ان نعدهما نصوصا تاريخية توارثها من يعتقد بها، ومن خلالها يمكن استكشاف ملامح ذلك العصر الذي وجدتا فيه. 

وعليه فحينما تتكلم التوراة أو الإنجيل كما سنرى عن ظاهرة تعدد الزوجات في تلك العصور نستكشف من خلال ذلك ان لهذه الظاهرة جذورا موغلة في أعماق التاريخ، تعود أسبابها إلى ظروف قد تكون متغيرة من زمن إلى آخر إلا أن جميعها يمكن أن تشترك وتدخل تحت عنوان (الحاجة)، التي قد تتغير مصاديقها من زمن إلى آخر ومن شخص إلى آخر، فقد تكون ظاهرة تعدد الزوجات لحاجة اقتصادية أو دينية أو جسدية أو غير ذلك من أنواع الحاجة ومصاديقها.

وقد ذكرت تلك النصوص الدينية بان اليهود قديما لم يكونوا يقيدون أنفسهم بعدد معين من الزوجات، فقد تحدثت التوراة عن نبي الله سليمان صلوات الله وسلامه عليه بقولها:«وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاثة مئة من السراري...»[1].

وعند كلامها عن جدعون النبي تقول: «وكان لجدعون سبعون ولدا خارجون من صلبه لأنه كانت له نساء كثيرات»[2].

وكذلك ذكرت التوراة ان نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كانت له ثلاث زوجات هن كل من السيدة هاجر[3]، والسيدة سارة[4]، وزوجة ثالثة أسمتها التوراة باسم قطورة فجاء في النص التوراتي هكذا: «وعاد إبراهيم فاخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا»[5].

وعند حديثها عن نبي الله يعقوب فانها تذكر له أربع زوجات الأولى منهن اسمها راحيل[6]، والثانية اسمها لية[7].

والتوراة لم تبح الزواج من عدة نساء فحسب، بل وضعت توصيات خاصة تقنن وتنظم هذه الظاهرة فقالت: «إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها»[8].
أما ظاهرة تعدد الزوجات في الديانة المسيحية فقد بقيت متطابقة مع ما هو موجود في الشريعة اليهودية ولقرون عديدة،ولكن هذا التقليد قد تغير بعد رفع السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه بفترات متأخرة جدا، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ وستر مارك: «إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقى إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيرا في الحالات التي لا تُحصيها الكنيسة والدولة»[9].

والقديس (كريستوم) يقول حول قصة زواج إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه من هاجر وسارة: «كانت هذه الأمور غير محرمة» [10].

ويقول القديس (اغوستين): «لقد كانت هنالك عادة غير مذمومة في أن يتزوج الرجل عدة نساء. وقد يكون ذلك من قبل الوظيفة والمسؤولية في ذلك الزمان»[11].

ويقول (غوستاف لوبون): «وكان مبدأ تعدد الزوجات شائعا كثيرا لدى بني إسرائيل على الدوام،وما كان القانون المدني أو الشرعي ليعارضه»[12].

وبناءً على ما تقدم تصبح ظاهرة التبتل التي تدعو إليها التعاليم المسيحية الحديثة، أو الاكتفاء بزوجة واحدة وعدم جواز تعددها، هو ليس في حقيقته من صلب تعاليم السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه.

بل ان البحث التاريخي يدلنا يقينا على ان فكرة الاكتفاء بزوجة واحدة أو التوقف عن الزواج من الأصل كانت مجرد أفكار خاصة لأحد تلاميذه صلوات الله وسلامه عليه واسمه بولس، وكشاهد على هذه الحقيقة نقرأ في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ما يلي: (وأما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة، ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها... ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر لأني أريد أن يكون الجميع كما أنا... ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل انه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لان التزوج أصلح من التحرق)[13].

وقال في موضع أخر: (وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيا كمن رحمه الرب أن يكون أمينا فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر انه حسن للإنسان أن يكون هكذا أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال، أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة لكنك وان تزوجت لم تخطئ وان تزوجت العذراء لم تخطئ...)[14].

فالمسألة إذاً مسألة رأي واستحسان من وجهة نظر بولس وليس لنبي الله عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه في ذلك دخل يذكر فبولس وبسبب ظرف خاص أو مزاج شخصي يريد من الناس أن يكونوا مثله.

أما نبي الله عيسى صلوات الله وسلامه عليه فقد كان يضرب للناس الأمثال بتعدد الزوجات ليصل عن طريق تلك الأمثال إلى إعطاء درس يساهم في هداية الناس وإرشادهم، فقد ورد في العهد الجديد ما يلي: (حينئذ يشبه ملكوت السموات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس وكان خمس منهنّ حكيمات وخمس جاهلات.أما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن معهن زيتا، وأما الحكيمات فأخذن زيتا في آنيتهن مع مصابيحهن وفيما أبطأ العريس نعسن جميعهن ونمن. ففي نصف الليل صار صراخ هو ذا العريس مقبل فاخرجن للقائه فقامت جميع أولئك العذارى وأصلحن مصابيحهن، فقالت الجاهلات للحكيمات أعطيننا من زيتكن فان مصابيحنا تنطفئ فأجابت الحكيمات قائلات لعله لا يكفي لنا ولكنّ اذهبن إلى الباعة وابتعن، لكنّ وفيما هنّ ذاهبات ليبتعن جاء العريس والمستعدات دخلن معه إلى العرس وأغلق الباب أخيرا فجاءت بقية العذارى أيضا قائلات يا سيد يا سيد افتح لنا. فأجاب وقال: الحق أقول لكن إني ما أعرفكن. فاسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان)[15].

ومحاولة نبي الله عيسى صلوات الله وسلامه عليه تصوير هذه الحكمة بهذه الصورة ليس هو إلا من باب تشبيه المجهول بالمعلوم المحسوس المتعارف عليه، فلابد حينئذ أن يكون زواج الرجل الواحد من عشر نساء معروفا في تلك الأيام غير مستهجن ولا مستغرب ليستطيع من خلال هذا المحسوس المألوف تشبيه ملكوت السموات وترقبه.

ولو كان الأمر غير ما قلناه وكان الزواج من عدة زوجات أمرا مستهجنا في ذلك الوقت لما صح لنبي الله عيسى صلوات الله وسلامه عليه المعروف بحكمته وعصمته أن يستشهد به ــ أي بتعدد الزوجات ــ ولقبح منه صلوات الله وسلامه عليه أن يضرب به الأمثال.

وهذا الاستعراض السريع يضع أمامنا حقيقة مهمة وهي ان الزواج وتعدد الزوجات مما تعارفت عليه الأديان والشعوب، وخاض تجربته الأنبياء والرسل قبل غيرهم من بقية الناس، وفي هذا الصدد يقول الشيخ مكارم الشيرازي: (إن دراسة البيئات المختلفة قبل الإسلام تكشف لنا أن تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمرا عاديا وشائعا، لدرجة أن بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزوجات مما أبدعه الإسلام، نعم إن ما فعله الإسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإنسانية، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة...)[16].

ــــــــــــــــ
[1] العهد القديم سفر الملوك الأول الإصحاح الحادي عشر الفقرة الثالثة.
[2] المصدر السابق سفر القضاة الإصحاح الثامن، الفقرة 30 ــ 31.
[3] ذكرت في سفر التكوين الإصحاح 16، الفقرة 4.
[4] ذكرت في سفر التكوين الإصحاح 18، الفقرة 15.
[5] سفر التكوين الإصحاح الخامس والعشرون، الفقرة 1 ــ 2.
[6] سفر التكوين الإصحاح 39، الفقرة 18 ــ 20.
[7] المصدر السابق، الفقرة 23 ــ 24.
[8] العهد القديم سفر الخروج الإصحاح الحادي والعشرون، الفقرة 10.
[9] نقلا عن كتاب أخلاق أهل البيت للسيد محمد مهدي الصدر ص422.
[10] الكتاب المقدس تحت المجهر لعودة مهاوش الأردني ص136 تجده في مسألة الحجاب وكشف الرأس.
[11] نفس المصدر السابق.
[12] المقارنات والمقابلات ص 250 نقلا عن كتاب مقارنة الأديان اليهودية للدكتور أحمد الشلبي ص298.
[13] العهد الجديد رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح السابع الفقرة 1 ـــ 10.
[14] العهد الجديد رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح السابع الفقرة 25 ـــ 28.
[15] إنجيل متى الإصحاح 25 الفقرة 1 ـــ 13.
[16] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج3 ص94 في تعدد الأزواج ضرورة اجتماعية.

إرسال تعليق