بقلم: الدكتور ابراهيم سلامه
يا روح علي ياروح ابن ابي طالب(عليه السلام)، ياروح الامام رفرفي فوق رؤوسنا في حنان وعطف فانما نقلب بين ايدينا أعز الاماني، ومستودع السر، وقرارة النفس ومتعة الحياة، ياروح علي(عليه السلام)، ياروح الامام رفرفي فوق رؤوسنا بحفيف بليل من الفصاحة العلوية ونسيم رقراق من الفيض الالهي، فانما نرثي ريحانه النبي وقرة عينه وغصنه الرطيب الذي نبت في حجره، وسقاه فيضا وحنانا من عطفه ورعايته، ياروح علي، ياروح الامام اسكبي فوق رؤوسنا سيباً من سيبك الفياض الذي صهره الحق فكان صيباً فيه ظلمات ورعد وبرق على الطغاة والجبابرة، وكان برداً وسلاماً على نفوس تعرف الحق وتتبعه، والحق أحق ان يتبع فمن يرثي الحسين غير أبي الحسين(عليهما السلام)، ومن يرثي من عز عليه ان يتوسد التراب، غير أبي تراب،ومن يرثي الدنيا بأسرها، سوى من طلق الدنيا بأسرها، إيثاراً للحق وإيثاراً للآخرة، والآخرة خير وابقى، بل من يرحم من امتنع عليه الصديق والنصير غير إله هو نعم المولى ونعم النصير؟!
يا يوم علي طلعت بلا شمس، ويا يوم الحسين(عليه السلام) بزغت بلا ضياء، فلا كنت ولا كانت شمسك، ولا كنت ولا كان ضياؤك، قبضة من المسلمين لما يدخل الايمان في قلوبهم، ولما تتشرب بعد خلايا نفوسهم فيض الايمان قتلوا قائماً يصلي في المحراب، قتلوا نفساً تقول ربي الله، اغمدوا سيف الباطل في صدر من اسلمهم سيف الحق يحطمون به هياكل الزور والبهتان.
حاولوا انتزاع العلم من يد حامل العلم بعدما بردت وجمدت وكانت قبل قابضةً عليه تقطع اعناقهم وتجف اكبادهم دون الوصول اليه واخيراً لم يسلم العلم الا بعد ان علم ان سيكفن فيه، ولم يسلم الروح الا في ساحة الجهاد بين يدي مطلبة ومطلبه الله والحق، عز عليه بين الناس فلينعم به بين يدي الله. ادخلوا السيف في غمده وكان مصلتاً، وعلى رقابهم بعد رقاب المشركين، فقد حارب الشرك، ثم حارب الضلال والمسافة بينهما قصيرة فقد اسلم من اسلم منهم فرقاً، وازدرد العقيدة ازدراداً من غير ان يستسيغها.
طووا العلم بايديهم الأثمة وكانوا في حاجة اليه لأعلاء كلمة الله وظنوا انهم طووه في سجل الأبديه ولكنهم ما عتموا ان فهموا انهم طووا مجدهم بايديهم وأدرجوا أماني الامة الاسلامية ورجاءها في الوحدة فبقي الدين دعوة صاحب العلم واحتفظوا بعلمهم لانفسهم احمر قانياً لا نجم فيه ولا هلال فذلوا وطردوا وذاقوا وبال أمرهم وبعدا للقوم الظالمين. خنقوا دعوة الدين بايديهم فثبت يدهم كما ثبت يد آبائهم من قبل ووضعوا حبل المسد في جيد الامة العربية الاسلامية وشدوها الى هوة سحيقة تردت فيها وحاولت القومه منها فعز عليها النهوض ولا تزال تتعثر في اثم الجريمة جريمة التفرق وتمزيق الوحدة فاحصى الله الظالمين عددا ومزقهم بددا فاصبحوا احاديث {فتلك بيوتهم خاوية} {واذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} وقد آثرت ان أقرأ الآية بقراءة امرَّنا لانها بموضوعنا أملك نعم حقت الكلمة لا على ألآثمين وحدهم بل على الأمة الاسلامية التي تمزقت بعد اشلاء وفرقاً واحزاباً بدداً {كل حزب بما لديهم فرحون} كوة من فيح جهنم فتحت واستدارت واتسعت خروقاً وابواباً يؤرث ضرامها ولا تخبو نارها تلفح الوجوه وتشوهها حتى اصبح المسلمون فرقاً كل فرقة تطلب النجاة لنفسها وتلقي شواظ اللهب في وجوه غيرها ولا كلمة تجمعهم ولا رأي يربطهم ولا أمن يشملهم ولا طمأنينة يستقرون عندها.
أسلم الامام(عليه السلام) الروح واسلم لبنيه فلم يكن نصيبهم بأوفر حظاً من نصيبه، فقد رجع كثير من القوم الى جاهلية ممقوته وبعد ان كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم أصبحوا أقوياء على أنفسهم وبأسهم بينهم.
شهد الحسين(عليه السلام) مصرع ابيه(عليه السلام) فرأى هوى مطاعاً، وشحاً متبعاً واعجاب كل ذي رأي برأيه، رأى استطاله على حرم المسلمين وقد علمه جده ان ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) أثر ذلك في نفسه تأثيراً حزها وأرمضها ثم هاضه الى مابه ان يجد دم أبيه قد أهدر وان الذين ولغوا في الدم غسلوا ايديهم منه كما يغسل العابد المتبتل يديه بماء الوضوء ومدوها الى الناس يطلبون الاستسلام والرضى فكفروا عن سيئات اجترحوها بسيئات اخرى ارتكبوها كما يتصدق اللص الفاجر بالمال المغصوب.
عزم الحسين(عليه السلام)، لا على المطالبة بالثأر، بل على احقاق الحق ورد المسلمين الى حظيرة الدين افرد من بيدهم الأمر الى جماعة المسلمين.
رأى ظلماً يقر وعدلاً ينكر وعرباً في قصور الروم وروما في قصور العرب رأى مجالس الأمراء يجري فيها الشراب وكانت مجالس الخلفاء تجري بالنصيحة والموعظة الحسنة رأى تكالباً على الدنيا واستخفافاً بالذمة والامانة واستحقاقاً للنقمة والعدالة رأى ذمماً تشترى واعراضاً تباع وديناً يعرض بأبخس الاثمان وديناً يتطاول فيها المتطاولون و يتكالب عليها المتكالبون.
جهر بالنصح فلم يسمع، وجأر بالدعوة فوجد الآذان قد وقرت، والقلوب قد ران عليها حجاب كثيف من الغفلة وعدم المبالاة، عميت الابصار وعميت القلوب التي في الصدور الظلم صارخ والعدل صارخ والظلم مسموع له والعدل مصروف عنه.
تردد أي الاساليب يسلك في الكلام، واي الخطط يحفظ في الفعل وجد ان لابد من صرخة مدوية ولكنه كان يعلم تمام العلم ان الصرخة ستغري به وماذا يهم داعي الحق ان يتقدم الى الحق بنفسه اذا تقدم غيره بسيفه وهنا نرى شجاعة الحسين وايثار الحسين وعقيدة الحسين(عليه السلام) فقدم والكل ينظر مصرعه، وهو نفسه يرى مصرعه تحت قدميه ولكن الدفعة التي اندفع بها كانت اعز عليه من حياته ومن نفسه، هنا تقابلت الحياة مع الحياة وتعارضت الحياة مع الحياة واذن هذا موقف يستوي فيه الموت والحياة بل الحياة التي يحياها الأبي في الظلم موت بطئ والموت السريع الذي يعانيه الأبي حياة العزة والأنفه والخلود. الحياة في الذل رضى بالموت الذليل والموت في سبيل الحياة الشريفة يمهد لها. والدم الذي يسفك في سبيل حياة جديدة حرة يرسم خطوطها في جريانه وسيلانه اذن فلابد من العزمة الصادقة والايثار الصادق الذي يموت فيه صاحبه ليضمن الحياة لمن وراءه من الاجيال القادمة.
لذلك طلب الحسين(عليه السلام) الحياة في الشهادة وسجل بموته الخلود لذكراه كما سجل الفناء على الظلم وعلى الظالمين. لحقهم عار اخذته وحيداً فريداً ليس أمامه ولده يدفعون عن أبيهم باسلحة من الحب والمفاداة وليس وراءه الا نساء ضاعت في معاملتهن قوة العرب في التعرض لهن ولا يملكن إلا مناديل يجففن بها المئاقي والادماء زكية تصعد في جفونهن حسرات وعبرات، وأخيراً يسجل التاريخ ان الحسين(عليه السلام) وبنيه نالوا من اعدائهم مغلوبين اكثر مما نال منهم اعداؤهم غالبين، وان قطرات الدم هدمت ما شيدته ظباة السيوف ويريد الله ان يكون في هذه القطرات من الحيوية ما جعلها تسبح بالثورة في جميع اطراف المملكة الاسلامية، اقسم المسلمون امامها جهد ايمانهم ان يلطخوا وجه الظلم حتى يحمر لا من النعيم ولا من الاحتقان ليظهر للناس بارزاً قوياً في مشهد مرعب مريب اقض على فلول الظلمة مضاجعهم، واغرى بهم اعداءهم ولم يكن سيف السفاح الا صوت العناية الالهية يقعقع فوق اقضية الظلم والاستبداد وهكذا انتصر الحسين(عليه السلام) لا بقومه ولكن بقومته ولا بفتوته ولكن بيقينه ولا بسيفه ولكن بدمه ولا بخيله ورجله ولكن بعزمه وأمله ولا بعزوته ولا بقبيله، ولكن بدافع من دينه ولم يطل دمه ولكن أملى الله لاعدائه الذين {طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد}.
شعلة من الشباب ذبالتها من نور الحق صب عليها الطغيان سيلاً جارفاً من القوة الغاشمة يحاولون اطفاءها وما دروا انهم {يطفئون نور الله بأفواههم ويأبى الله الا ان يتم نوره} .
قوة من الفتوة: قوة الدين، وفتوة الحق، عن يمين الحسين(عليه السلام) وعن يساره وقع الحسين(عليه السلام) بينهما فمات وبقي الدين وبقىالحق وكان فداء لهما.
مطلب وعد ولكنه عزيز جاهد في سبيله بمقدار ما استشعر من اعباء فأنكر وما انكر، بل سفه، وما سفه بل تصدى وما تصدى حتى توثب وما توثب حتى شرد وما شرد حتى عذب وما عذب وحده بل عذب من معه وسقطوا واحداً واحداً، فأستهان بحياته ومزقها جزءاً وجزءاً، واخيراً المطلب سامٍ والثمن رخيص، فوهب لمطلبه كله حياته كلها وكذلك الشهادة وكذلك الوفاء.
اذن لم يمت الحسين(عليه السلام) لانه كان شهيداً والشهيد حي مرزوق عند ربه ولم يمت الحسين(عليه السلام) لانه كان مثلاً والمثل حي وباق يخبو مع الظلم ويضيء مع العدل ينخفض به غور من الباطل ويرفع به نجد من الحق، يستره السراب اذا عميت الابصار وتسفر عنه الحقيقة اذا طلبت.
لم يمت الحسين(عليه السلام) لأنه كان فكرة ومن طبع الفكرة السمو فلا ينالها أحد وانما ينال الناس صاحبها، وتسمو الفكرة بعد موت صاحبها فتنتقل من روحه الى روح امته وروح الفرد وروح الأمة من امر ربي باقية في بقائه خالده في خلوده. لم يمت الحسين(عليه السلام) لانه ما كان ليطلب ملكاً وما خرج اذ خرج ليبني قصراً او ليقتني مالاً وانما خرج بعقيدته وعقيدة سر أبيه ووديعة جده، وقبل ان ينالوا بسيوفهم تشهد وفي تشهده اسلم الوديعه الى اربابها. اذن كان الحسين(عليه السلام) شهيداً ومثلاً وفكرة وعقيدة والتراث الذي خلفه من نصيب المسلمين جميعاً. ومن واجب المسلمين جميعاً المحافظة على هذا التراث واخص ما فيه المثالية والتضحية.
ان الامم لا تحتفظ بالوقائع بل تحتفظ بالافكار وان التاريخ يعيد نفسه حقيقة ولكن لتلتزم منه الامم موضع العبرة والموعظة فيه والا فهناك في كل الامم تواريخ دامية لو اعادتها بنفسها لكان انتحاراً متكرراً لها.
ايها المسلمون لا احسب مشاركتنا لكم في هذا اليوم الذي يؤلمنا جميعاً الاكما قدرتموه بحسن ظنكم مشاركة من مصر في هذه العاطفة التي جرحت فجرحت المسلمين جميعاً ونحن نحتفل به في ديارنا ونشاركم في عواطف هذا اليوم ولكن مصر كانت في كل ظروفها واسعة الصدر تتقبل كل الافكار وتوازن بينها وتخرج منها واحدة هي ضرورة العمل على وحدة الفكرة الدينية ووحدة الفكرة القومية التي ننشدها جميعاً.
ولشيخ الكاظمية العلامة الشهرستاني يعمل على هذه الفكرة باشتراكنا جميعاً في صعيد واحد وكل ما نصبوا اليه ان تكون هذه المجامع من مواسمنا التي نعمل فيها على جمع الشمل ورأب الصدع والرجوع الى قول الله {وتعاونوا على البر والتقوى}.
تلك ايها السادة كلمة مسلمة من بلدة مسلمة عملت ولا تزال تعمل لخدمة الاسلام والمسلمين. مصر ايها السادة التي لا تنسى تاريخها بل تعتز بكل حلقة من حلقاته لا تنسى اثر الفاطميين فيها وما احدثوا من افكار وما اختطوا من خطط في سبيل الثقافة والتعليم، ولا تزال مصر لمدينة للازهر وللفاطميين تعمل بتلك الروح وتخدم بها الاسلام والمسلمين في غير تعصب لرأي ولا انحياز الى ناحية فيه بل عرف الازهر في جميع عصوره وعرفت مصر معه بانها تتقبل كل الآراء وتخدم كل وجهات النظر خدمة علمية تستهدي في تحقيق اهدافها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين. ولن يضل المسلمون ما تمسكوا بهما وانما يضلون ويذلون بالفرقة والتباغض والتمزق والتباعد ايها الناس اننا في زمن يأكل الذئب فيه من الغنم القاصية فلموا شعثكم واجمعوا شملكم، ووحدوا وحدتكم ووجهتكم والله معكم مادمتم تجتمعون على الله، وفي نصرة سبيل الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إرسال تعليق