بقلم: السيد نبيل الحسني
ليس من السهل على الباحث الوقوف عند العدد الحقيقي للنساء اللاتي أخرجهن الإمام الحسين عليه السلام معه إلى كربلاء، وذلك لما أحاطت به البيوت النبوية من الحشمة والعفة.
لاسيما أن هؤلاء النساء قد انحصر ارتباطهن بعلي أمير المؤمنين عليه السلام من جهة، ومن جهة أخرى ببنات الإمام الحسين عليه السلام وأزواجه ومن ثم يكون الرجوع إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، في كلا الحالين.
وهذا يلزم المرأة الامتثال للخلق النبوي والكمال المحمدي والحياء الفاطمي والعزة العلوية فالمرأة التي تحيا بين أحضان العترة وتنمو بين دفتي الذكر الحكيم لحري بها أن لا يرى الرجال شخصها ولا يسمعوا همسها، أي: التعذر في معرفتهن وتشخيصهن وهو ما واجهه النسابون والمؤرخون حينما أرادوا الوقوف عند معرفة أسماء بنات أمير المؤمنين علي عليه السلام اللاتي أخرجهن معه الإمام الحسين عليه السلام معرفة قطعية، فما أكثر الاختلاف في تشخيص أي منهن كانت أم كلثوم، وهل هو كنية أو اسم، وهل هو لامرأة واحدة أو لأكثر، فضلاً عن اختلافهم فيمن تسمت منهن بزينب، فكان منهن الكبرى والصغرى والوسطى[1].
ولذا: كان إخراجهنّ إلى كربلاء من أعظم المصائب على الهاشميين، بل وعلى كل مسلم غيور على حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف به على قلب الإمام الحسين عليه السلام، وهو العالم بنتيجة هذا الخروج وما سيجري عليه وعليهن في كربلاء.
ولذلك: لم يجد محمد بن الحنفية، بعد طول صراع بين ما يراه من إخراجهن وبين علمه بمنزلة الإمام الحسين عليه السلام من الدين وبين مبادرته بالسؤال عن العلة في هذا الخروج، قائلاً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن وصله الخبر بخروجه من المدينة عند السحر من الليل، (فأتاه، فأخذ بزمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال عليه السلام: «بلى». قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال عليه السلام: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً».
فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: «قد قال لي إن الله قد شاء أن يراهن سبايا»)[2].
ولعل حال ابن الحنفية بعد سماعه هذا الجواب كان أعظم من حيرته في معرفة خروجهن إلى العراق. إلا أن ذلك لم يكن بمانعٍ عن التتبع والبحث عن وجود هؤلاء النسوة والأطفال الذين أخرجهم سبط رسول الله صلى الله عليه وله وسلم إلى العراق وذلك من خلال جملة من الشواهد والقرائن:
ألف: كقوله عليه السلام لأخيه العباس وولده علي عليهما السلام، لما سمعن خطبته فعلا صوتهن بالبكاء، واللفظ للطبري: (فلما سمع (أخواته) كلامه هذا صحن وبكين، وبكى (بناته) فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وقال لهما: [وهذا يدل على أنهن كن مجموعة من بنات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما يدل على وجود أكثر من بنت من بنات الإمام الحسين عليه لسلام]. «أسكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن»[3].
باء: قول العقيلة زينب عليها السلام لما مروا بها على القتلى، صاحت: («يا محمداه، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا...»).وهذا يدل على الكثرة سواء كن بنات علي عليه السلام أو بنات الحسين عليه السلام، فكلهنّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المفجوع الأول وصاحب العزاء الأكبر، والمخصوص بهذه المصيبة العظيمة.
المسألة الأولى: كم أخرج الإمام الحسين من أخواته إلى كربلاء؟
أولاً: عدد أخواته من أبيه اللاتي خرجن معه عليه السلام
إن إخراج الإمام الحسين عليه السلام لبعض أخواته كان قطعياً لا يرد إليه الظن، وذلك من خلال النصوص التاريخية الكثيرة التي دوّنت هذا الخروج لحرم الرسالة والنبوة، وهنّ كالآتي:
1 ــ السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
تناول كثير من النصوص اسم أم كلثوم ابنة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام فيمن كنّ في معركة الطف، ولقد أورد لها المؤرخون وأصحاب المقاتل خطبة في الكوفة؛ قال ابن نما الحلي: (وخطبت أم كلثوم بنت علي من وراء كلة وقد غلب عليها البكاء...)[4].
ولقد اختلفوا كثيراً في تحديد هوية أم كلثوم هذه التي كانت في كربلاء، وذلك يعود إلى تسمّي أو تكنّي أربع من بنات أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الاسم، فقد قال السيد محسن الأمين: (أم كلثوم زوجة مسلم بن عقيل([5])، لعلها الوسطى، وأم كلثوم الصغرى، وأم كلثوم الكبرى زوجة عمر بن الخطاب التي تزوجها بعده عون بن جعفر ثم أخوه محمد، ثم أخوهما عبد الله بن جعفر.
وهناك زينب الصغرى المكناة أم كلثوم المنسوب إليها القبر الذي في قرية رواية شرقي دمشق فيمكن أن تكون هي زينب الصغرى، وتكون هي وأم كلثوم الصغرى واحدة، ويكون المكنيات بأم كلثوم ثلاثا، ويمكن أن تكون غيرها، فيمكن أربعا، فيكون لنا زينب الكبرى، وزينب الصغرى المكناة بأم كلثوم، وأم كلثوم الكبرى، وأم كلثوم الصغرى، والأخيرة اسمها كنيتها أم كلثوم زوجة مسلم بن عقيل والله أعلم.
ثم أن أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام التي كانت مع أخيها الحسين عليه السلام بكربلاء، لا يُدرى أيهن هي فيمكن أن تكون هي زوجة مسلم بن عقيل فتكون قد خرجت مع أخيها الحسين عليه السلام، كما خرجت معه أختها زينب، وزوجها عبد الله بن جعفر حي بالمدينة، فخرجت معه هي وولداها عون وجعفر، وهذه كان قد خرج زوجها مسلم إلى الكوفة وخرج أولاده مع الحسين، ويمكن أن يكون فيهم من هو من أولادها فهي أحق بالخروج مع أخيها الحسين من كل امرأة، ويمكن أن تكون هي الصغرى ويمكن على بعد أن تكون الكبرى جاءت مع أخيها مع وجود زوجها)[6].
فيما أشار البري إلى أن أم كلثوم التي كانت مع أخيها هي ليست من أمه فاطمة عليها السلام[7].
أقول: فنحن نأخذ من هذه الأقوال التي ذكرها المؤرخون قولاً واحداً وعدّ هذه الشخصية شخصية واحدة دفعاً للإشكال في إثبات أيتهن كانت في كربلاء بشكل قطعي، ولعلهن كن جميعاً فبذلك تكون بنات أمير المؤمنين عليه السلام اللاتي خرجن مع أخيهن الإمام الحسين عليه السلام واللاتي تسمين أو تكنين بـ(أم كلثوم) أربعاً، ولكن كما أسلفنا ودفعاً للاعتراض احتملنا أنها شخصية واحدة.
2 ــ فاطمة بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام
يعد أمر وجودها في ركب الإمام الحسين عليه السلم أمراً قطعياً، وذلك لما نصت عليه كتب التاريخ والحديث.
قالت:ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه يعنيني وكنت جارية وضيئة فأرعدت وفرقت وظننت أن ذلك جائز لهم وأخذت بثياب أختي زينب. قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل وكانت تعلم أن ذلك لا يكون. فقالت: «كذبت والله ولؤمت ما ذلك لك وله».
فغضب يزيد فقال: كذبت والله إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: «كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا».
قالت: فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: «بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك».
قال: كذبت يا عدوة الله قالت: «أنت أمير مسلط تشتم ظالما وتقهر بسلطانك».
قالت: فو الله لكأنه استحيا فسكت)[9].
فضلاً عن كونها متزوجة من أبي سعيد بن عقيل[10] فولدت له: حميدة. وقد روت عن أبيها فقال: قال أبي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أعتق نسمة مسلمة أو مؤمنة وقى الله بكل عضو منها عضواً منه من النار»[11].
ولقد أمد الله في عمرها فقال ابن حجر: توفيت سنة مائة وسبع عشر وقد تجاوزت الثمانين[12].
وروى عنها الإمام الباقر عليه السلام فقال: «إن فاطمة بنت علي بن أبي طالب لما نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي ابن الحسين بنفسه من الدأب بالعبادة أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري، فقالت له: يا صاحب رسول الله، إن لنا عليكم حقوقا، ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين، قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه دأبا منه لنفسه في العبادة».
فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين عليهما السلام، وبالباب أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك، فنظر جابر إليه مقبلا، فقال: هذه مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسجيته، فمن أنت يا غلام؟ قال: فقال: «أنا محمد بن علي بن الحسين».
فبكى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقا، أدن مني بأبي أنت وأمي، فدنا منه فحل جابر أزراره ووضع يده في صدره فقبله، وجعل عليه خده ووجهه، وقال له: أقرئك عن جدك رسول الله صلى الله عليه وآله السلام، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت، وقال لي: «يوشك أن تعيش وتبقى حتى تلقى من ولدي من اسمه محمد يبقر العلم بقرا».
وقال لي: «إنك تبقى حتى تعمى ثم يكشف لك عن بصرك». ثم قال لي: ائذن لي على أبيك، فدخل أبو جعفر على أبيه فأخبره الخبر، وقال: «إن شيخا بالباب، وقد فعل بي كيت وكيت». فقال عليه السلام: «يا بني ذلك جابر بن عبد الله». ثم قال: أمن بين ولدان أهلك قال لك ما قال وفعل بك ما فعل؟ قال: نعم إنا لله، إنه لم يقصدك فيه بسوء، ولقد أشاط بدمك.
ثم أذن لجابر، فدخل عليه فوجده في محرابه، قد أنضته العبادة، فنهض علي عليه السلام فسأله عن حاله سؤالا حفيا، ثم أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه يقول: يا بن رسول الله، أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ قال له علي ابن الحسين عليهما السلام: «يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له، وتعبد ــ بأبي هو وأمي ــ حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبدا شكورا».
فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين عليهما السلام وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا بن رسول الله، البقيا على نفسك، فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف اللاواء، وبهم تستمطر السماء.
فقال: «يا جابر، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما صلوات الله عليهما حتى ألقاهما؟». فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، والله لذرية علي بن الحسين عليهما السلام أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، إن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا)[13].
3 ــ السيدة رقية بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
ولعل هناك غيرهن في ركب الإمام الحسين عليه السلام إذ عدم ذكر أسماء بعضهن لا يعني عدم وجودهن.
4 ــ خديجة بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
ومما يدل على وجودها في كربلاء وإنها خرجت مع أخيها الحسين عليه السلام هو أنها كانت متزوجة من عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب[15]، الذي خرج مع سيد الشهداء وكان ممن استشهدوا يوم عاشوراء قتله عمر بن خالد بن أسد الجهني (لعنه الله)[16].
5 ــ رقية الصغرى بنت علي أمير المؤمنين عليه السلام
ذكر ابن حبيب البغدادي أنها كانت متزوجة من محمد بن عقيل بن أبي طالب[17].
ومما يدل على إخراجها إلى كربلاء استشهاد ولدها جعفر بن محمد بن عقيل في حمل آل أبي طالب يوم عاشوراء[18].
6 ــ أم هانئ بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
ذكر ابن حبيب أنها كانت عند عبد الله بن عقيل بن أبي طالب[19]، ولقد ذكر ابن شهر آشوب أنه كان ممن استشهدوا يوم الطف مع الإمام الحسين عليه السلام[20]، وهذا يدل على وجودها مع زوجها وأخيها في كربلاء.
7 ــ أم الحسن بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
ذكر البلاذري وابن حبيب وغيرهما أنها كانت عند جعدة بن هبيرة المخزومي، ثم تزوجها جعفر بن عقيل بن أبي طالب عليهما السلام[21]، الذي استشهد يوم الطف، مما يدل على وجودها معه[22].
8 ــ رملة بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
ذكر ابن حبيب البغدادي[23]، وعلي بن محمد العلوي وغيرهما: أنها كانت متزوجة من عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
وقد اشتهر عبد الله بن أبي سفيان بأشعاره الولائية لعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فضلاً عن حضوره في معارك أمير المؤمنين وجهاده بين يديه عليه السلام.
وهو القائل:
وكان ولي الأمر بعد محمد *** علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وجاره *** وأول من صلى ومن لان جانبه[25]
وغير خفي على المتتبع ما لعبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من مواقف يزأر فيها بالحق ويعلن فيها عن حقيقة جهاده وتصديه للظالمين حتى ختم هذه السيرة الجهادية بالشهادة في ساحة الطف يوم عاشوراء لنصرة سيد الشهداء عليه السلام.
حتى باتت تلك المواقف شواهد للأحرار والثائرين على الطغاة ومنهلاً للباحثين عن حقيقة تلك الرموز.
ومنها ما أخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فقال: (بلغ عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أن عمرو بن العاص يعيب بني هاشم ويقع فيهم وينتقصهم وكان يكنى أبا الهياج فغضب لذلك وزور كلاما يلقى به عمرا ثم قدم على معاوية ليس أكثر سفره إلا ليشتم عمرو بن العاص فدخل على معاوية مرارا لم يتفق له ما يريد ثم دخل عليه يوما وعنده عمرو فجاء الإذن فقال: هذا عبد الله بن جعفر قد قدم وهو بالباب، قال ائذن له فقال عمرو: يا أمير المؤمنين لقد أذنت لرجل كثير الخلوات للتمني والطربات للتغني صدوف عن السنان محب للقيان كثير مزاحه شديد طماحه ظاهر الطيش ليس العيش أخاذ للسلف صفاق للشرف فقال عبد الله بن أبي سفيان كذبت يا عمرو وأنت أهله ليس هو كما وصفت ولكنه لله ذكور ولبلائه شكور وعن الخنا زجور سيد كريم ماجد صميم جواد حليم إن ابتدأ أصاب وإن سئل أجاب غير حصر ولا هياب ولا فاحش غياب كذلك قضى الله في الكتاب فهو كالليث الضرغام الجريء المقدام في الحسب القمقام ليس بدعي ولا دني كمن اختصم فيه من قريش شرارها فعلت عليه حرارها فأصبح ينوء بالذليل ويأوي فيها إلى القليل مذبذب بين حيين كالساقط بين المهدين لا المعتري إليهم قبلوه ولا الظاعن عنهم فقدوه فليت شعري بأي حسب بنازل للنصال أم بأي قديم يعرض للرجال أبنفسك فأنت الجبان الوغد الزنيم أم بمن تنتمي إليه فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش لا يشرف في الجاهلية شهر ولا تقديم في الإسلام ذكر غير أنك تنطق بغير لسانك وتنهض بغير أركانك وأيم الله إن كان لأسهل للوعث وألم للشعث أن يكمعك معاوية عن ولوغك بأعراض قريش كعام الضبع في وجارها فإنك لست لها بكفي ولا لأعراضها بوفي.
قال فتهيأ عمرو للجواب فقال له معاوية نشدتك الله أبا عبد الله أما كففت فقال عمرو يا أمير المؤمنين دعني أنتصر فإنه لم يدع شيئا فقال معاوية أما في مجلسك هذا فدع الانتصار وعليك بالاصطبار)[26].
9 ــ زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب عليه السلام
أمها أم ولد وقد ذهب كثير من المؤرخين والنسابة إلى أنها كانت متزوجة من محمد بن عقيل بن أبي طالب[27]، مما يشير إلى أن رقية الصغرى التي مرّ ذكرها قد تكون هي نفسها زينب الصغرى إلا أن البلاط الأموي غير غافل عن تلك الشخصية ومن ثم فاحتمال كونهما شخصيتين احتمال قوي.
وقد ولدت السيدة زينب الصغرى لمحمد بن عقيل من الأبناء: عبد الله، والقاسم، وجعفر، وحميدة، ولقد مضى عبد الله وأخوه جعفر شهداء في يوم عاشوراء، مما يدل على وجودها مع ولديها[28].
فهؤلاء تسع من بنات علي أمير المؤمنين عليه السلام قد خرجن مع أخيهن الإمام الحسين عليه السلام، فمنهن من قدمت زوجها شهيداً في الطف، ومنهن من قدمت أبناً أو أبنين فضلاً عن افتجاعها بأخيها الإمام الحسين وبقية أخوانها.
وعليه: فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد فجع في يوم الطف بما لم يفجع به وصي من الأوصياء فضلاً عن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين أنفسهم فليس فيهم من قد أصيب بكل هذا العدد من الأبناء والأحفاد وهتك الحرمات في القتل والسلب والنهب والحرق والضرب والسوق وتسفير النسوة باديات الوجوه مكشوفات الرؤوس وكأنهن من الترك والعجم أو أهل الذمة ــ فإنا لله وإنا إليه راجعون ــ.
ثانيا: عدد شقيقاته اللاتي خرجن معه إلى كربلاء
أجمع المؤرخون والمحدثون الذين تناولوا فاجعة كربلاء واستشهاد ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عقيلة بني هاشم السيدة زينب الكبرى بنت فاطمة وعلي أمير المؤمنين عليهما السلام كانت فيمن أخرجهن الإمام الحسين عليه السلام من أخواته إلى كربلاء، بل إن وجودها كان كوجود أخيها في رتبة واحدة فمن شك في ذلك الخروج شك في خروجه عليه السلام واستشهاده.
ثالثا: العلة في اختصاص العقيلة زينب عليها السلام بهذه المصائب دون غيرها من بنات علي أمير المؤمنين عليه السلام
لعل القارئ والمتتبع لهذا البحث يرد على ذهنه سؤال مفاده: ما هي العلة في اختصاص العقيلة زينب عليها السلام بهذه المصائب حتى كادت أن تكون هي الوحيدة التي أصيبت من بين أخواتها العشر، أو لعل القارئ لواقعة الطف وسيرة سيد الشهداء عليه السلام يرتكز في ذهنه بأن العقيلة زينب عليها السلام هي الوحيدة التي أخرجها الإمام الحسين عليه السلام معه إلى كربلاء.
فما هي العلة التي جعلت هذا المعنى يرتكز في ذهن القارئ لفاجعة الطف؟ وأقول: إن ذلك يعود لجملة من الأسباب:
1 ــ إن العقيلة زينب الكبرى هي أكبر أخواتها سناً فقد ولدت في السنة السادسة للهجرة النبوية في المدينة النبوية[29]، ومن ثم فهي أكبرهنّ جميعاً.
2 ــ إنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أوكل إليها أمر العيال وحفظهم وهذه واحدة من خصائصها عليها السلام.
3 ــ إنها برتبة من الفهم والعلم ما جعلها المؤهلة لتحمل تلك الخطوب العظيمة والرزايا الجسيمة التي تندك من حملها الجبال.
ولقد نص على ذلك قول حجة الله تعالى الإمام زين العابدين عليه السلام لها: «أنت بحمده عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة».
4 ــ إنها الوحيدة من بين بنات أمير المؤمنين عليه السلام كانت أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يدل عليه:
ألف: إن أختها أم كلثوم التي أشارت المصادر إلى وجودها في كربلاء وتناولت خطبتها في الكوفة لم يقطع المؤرخون أو النسابة أو غيرهم من الباحثين نسبة انتسابها لفاطمة عليها السلام.
نعم هناك من الروايات ما تدل على وجود هذه الشخصية، أي: أم كلثوم بنت علي عليه السلام لكن لم يجزم أحد بأنها ابنة فاطمة عليها الصلاة والسلام.
باء: ذهاب كثير من المحدثين والباحثين إلى أن أم كلثوم بنت فاطمة صلوات الله عليها قد توفيت في المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان وقد شيعها الحسن والحسين عليهما السلام مما يرجح عدم وجودها في الطف وأن أم كلثوم التي خرجت إلى كربلاء هي إحدى بنات علي عليه السلام وأمها أم ولد ــ كما سيمر بيانه ــ.
بمعنى: إن المقصودة في هذه الحرب هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن لم يكن مع السلف في الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام، فهو اليوم يهجم على ابنتها، ومن فاته سلب فاطمة في المدينة فقد سلب ابنتها في كربلاء.
ولذلك: نجدها ــ بأبي وأمي ــ لما قام عبيد الله بن زياد بإدخال عيال الحسين عليه السلام إلى قصر الإمارة في الكوفة (دخلت زينب العقيلة في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى دخلت ناحية من القصر، وحفت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها، فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فأقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم فقالت: زينب عليها السلام: «الحمد الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله»)[30].
إذن: لكونها ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحيدة في كربلاء كما صرح بذلك إماؤها توجه إليها عدو الله ورسوله بهذا الكلام، ولكونها ابنة رسول الله توجه يزيد إلى ضرب شفتي ريحانة رسول الله بالقضيب كي يحرق قلبها، وقلب أمها فاطمة، وقلب جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقلب أبيها علي أمير المؤمنين.
بقي أن أقول: إن التفاف النساء والأطفال حولها، واهتمام سيد الشهداء بها، وحرصه الشديد عليها، وتفاني العباس وأخوته في صونها، وتسابق الأنصار للذود عنها، إنما لكونها ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها البقية الباقية من فاطمة فهي الوحيدة التي كان وجودها هو وجود قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروحه التي بين جنبيه ومَنْ مِنَ المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحرص على إحراز رضا فاطمة واجتناب غضبها، فسلام على زينب العقيلة يوم ولدت ويوم رزيت وفجعت وسبيت، ويوم ماتت ويوم تبعث حية لتشكو إلى ربها وجدّها ما نزل بها.
فلتلك الخصوصية وغيرها ارتكز في ذهن كل متتبع لمأساة كربلاء أنّ العقيلة زينب عليها السلام،كأنها هي الوحيدة التي كانت من بنات أمير المؤمنين عليه السلام في يوم عاشوراء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج3، ص484.
[2] اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس: ص41؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص83؛ البحار: ج44، ص364.
[3] تاريخ الطبري: ج4، ص322؛ مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي: ص117.
[4] مثير الأحزان لابن نما: ص68؛ البحار: ج45، ص112.
[5] عمدة الطالب لابن عنبة: ص32.
[6] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج3، ص484.
[7] الجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري: ص45.
[8] لا شك ان هذه الرقة التي أظهرها الطاغية كان الهدف منها امتصاص غضب بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ هذا من جانب ومن جانب آخر يريد الطاغية أن يظهر لمن حضر مجلسه من أعيان دمشق ورجال المملكة ان النساء والأطفال لا جناح عليهم الا ان هذا المكر افتضحه الله تعالى حينما نطق هذا الرجل الشامي مطالباً يزيد باتخاذ احدى بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جارية مملوكة له حالها حال من يقوم المسلمون بسبيها؛ بل ان الحالة التي كانت عليها بنات الرسالة تنطق بانهن سبايا، ولذا طلبها الرجل الشامي.
[9] تاريخ الطبري: ج4، ص353؛ الأمالي للصدوق: ص231.
[10] البحار للمجلسي: ج42، ص94؛ المجدي في أنساب الطالبيين للعلوي: ص18؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج12، ص393؛ تهذيب الكمال للمزي: ج35، ص261؛ الطبقات لابن سعد: ج8، ص466.
[11] الطبقات لابن سعد: ج8، ص466.
[12] تقريب التهذيب لابن حجر: ج2، ص654.
[13] الأمالي للطوسي: ص636 ــ 637.
[14] كتاب المحبر لابن حبيب: ص56؛ مقاتل الطالبيين: ص63؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج3، ص195؛ البحار للمجلسي: ج42، ص93.
[15] المحبر لابن حبيب البغدادي: ص56؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ص194.
[16] مقاتل الطالبيين للأصفهاني: ص61؛ إبصار العين للسماوي: ص92؛ أنصار الحسين لشمس الدين: ص151؛ الإرشاد للمفيد: ج2، ص107.
[17] المحبر لابن حبيب: ص56.
[18] المناقب لابن شهر: ج3، ص259؛ مقاتل الطالبيين: ص62؛ مقتل الخوارزمي: ج2، ص47؛ مستدركات علم رجال الحديث: ج2، ص208.
[19] المحبر: ص56.
[20] المناقب لابن شهر: ج3، ص259؛ أنصار الحسين لشمس الدين: ص134.
[21] أنساب الأشراف: ص193؛ المحبر: ص56.
[22] تاريخ الطبري: ج4، ص341؛ معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج5، ص50.
[23] المحبر: ص56؛ المناقب لابن شهر: ج3، ص90؛ المجدي في أنساب الطالبيين: ص18.
[24] الدرجات الرفيعة: ص189؛ مستدركات علم رجال الحديث: ج4، ص470.
[25] الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص269.
[26] تاريخ دمشق لابن عساكر: ج29، ص74 ــ 75؛ الغدير للعلامة الأميني: ج2، ص125.
[27] عمدة الطالب لابن عنبة: ص32؛ مستدركات علم رجال الحديث: ج5، ص254؛ تاريخ دمشق: ج32، ص357؛ تهذيب الكمال: ج16؛ ص78.
[28] مستدركات علم رجال الحديث: ج5، ص254.
[29] مستدرك سفينة البحار: ج4، ص316.
[30] الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص116.
إرسال تعليق