بقلم: السيد نبيل الحسني
من المعلوم عند كل قارئ لسيرة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: أن قريشاً قد علمت بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى
المدينة، من خلال دخولهم على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو نائم في فراش
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن أمضوا الليل كله وهم ينتظرون النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أن يخرج إليهم فيقتلوه، فلما يئسوا وانكشف الضوء خافوا أن
يعلم بهم بنو هاشم فقاموا ودخلوا بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقتحمين البيت
على الإمام علي عليه السلام، وعندها كانت المفاجأة؛ إذ حصل لهم العلم وأيقنوا أن
النبي قد خرج منذ زمن، ولذا قالوا «والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا»([1]) وهو أبو بكر كما سنبين ذلك
بالدليل.
فهنا
إما أنهم ذكروا اسمه، ولكن الرواة عمدوا إلى عدم ذكره، ويا ليتهم لم يفعلوا؛ لأن
ذلك أهون من عدم ذكر طغاة قريش اسم القائل والتستر عليه كما صوّر لنا ذلك الرواة؛
إذ ألقوا الأمر على عاتق قريش، وهم بهذا سيسيئون إلى شخص أبي بكر إساءة كبيرة، إذ
التصريح بأنه هو القائل أهون بكثير.
لكن
قيام الرواة بحذف هذا التصريح وإلصاقه بعاتق قريش وأنهم قد أمسكوا عن التعريف
بهوية القائل، يطرح تساؤلات كثيرة عن سبب عدم إفصاحهم بهذه الشخصية، أو أنهم حقيقة
لم يفصحوا.
ومن هنا: نسأل: «من أين علمت قريش بخروج أبي
بكر»؟ والرواية تقول أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خوخة في ظهر
بيته تحت جنح الظلام، فمن أين علمت قريش بخروجه؟! وبخاصة أن هذا السؤال لم يرد في
أي مصدر من المصادر الإسلامية التي تناولت حديث هجرة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أي: إن جميع المصادر لم تذكر كيف علمت قريش بخروج أبي بكرّ؟!
أما الجواب فمن ثلاث نقاط:
أولا: إن الذين ينسجون الباطل
هم أول الناس وقوعاً في شباكه
على مر
التاريخ وما حوته أسطر حياة بعض الذين سجل لهم المؤرخون من مواقف. والذين أرادوا
أن يقدموا حقيقة مزيفة لا تستند إلى واقع هم الذين ابتلوا بها وكان سعيهم وبالاً
عليهم، لأن ما كان لله ينمو.
وهنا: فالذين ادعوا أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم خرج من بيت أبي بكر وقد اصطحبه معه، لاسيما وأن البعض، قد
أضاف انه صلى الله عليه وآله وسلم كان مأموراً من جبرائيل عليه السلام، وأن الخروج
من خوخة خلف بيت أبي بكر في جنح الظلام يكونون قد أوقعوا أنفسهم تحت هذا السؤال
الذي لم ترد إجابة عليه ولن ترد إلا أن يقال بحقيقة الواقع أن أبا بكر خرج لاحقا
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا مصطحبا.
ثانيا: إن قريشاً قد علمت
بخروجه لأنه هو الذي خرج عليهم من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إن قريشاً علمت بخروجه؛ لأنها رأته قد دخل وخرج من
بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآهم أخبرهم بأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قد خرج، ولكنهم لم يصدقوه؛ لأنهم كانوا ينظرون من شق الباب فيرون عليا عليه
السلام نائما فيقولون إن هذا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما تبين لهم عند الصباح صدق كلامه عند دخولهم إلى
بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قاموا بخطوة سريعة.
هذه الخطوة كانت دليلا آخر على أن أبا بكر هو الذي
تكلّم معهم وأخبرهم بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي في الوقت نفسه ــ مع
ما قدمنا من الأدلة السابقة ــ تنص على أن أبا بكر قد خرج لاحقا بالنبي صلى الله
عليه وآله وسلم وأنه لم يخرج معه في آن واحد. ونحن نسأل: ماذا فعلت قريش بعد أن
أيقنت أن أبا بكر قد صدقها القول بخروج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
وما هي ردة الفعل التي عكستها المفاجأة التي تلقتها طغاة
قريش عند دخولهم إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتيقنهم من صدق كلام أبي
بكر؟!
إنّ ردة الفعل هذه دفعتهم مباشرة للمجيء إلى بيت
أبي بكر ليسألوه عن وجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن لم يجدوا جوابا
ينفعهم عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولأن أبا بكر كان قد أخبرهم ليلة
وقوفهم عند باب بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءوا من ساعتهم إلى بيت أبي
بكر.
أما كيف جرت الحادثة فإن أسماء بنت أبي بكر تحدثنا بذلك:
قالت: لما خرج رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب
أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟.
قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟
قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.
قالت: ثم انصرفوا، فمكثنا ثلاث ليال،
وما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقبل رجل من الجن أسفل
بمكة، تغنى بأبيات من شعر فناء العرب ــ ثم قال ابن اسحاق ــ:
قالت أسماء بنت أبي بكر: فلما
سمعنا قوله، عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة([2]).
فالرواية
تشير كما هو واضح إلى انعكاس ردة الفعل على قريش، كما تبين بوضوح أنهم جاءوا لكي
يتحققوا من أبي بكر عن وجهة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه هو الوحيد
الذي أخبرهم بهذا الخروج.
والرواية أيضا فيها استدلالات كثيرة منها:
1 ــ إنها تعارض قول عائشة وهي تروي
مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت أبي بكر يخبره أنه قد أذن له
بالخروج، وأنها كانت جالسة هي وأختها أسماء يستمعن لحديث رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو يطلب من أبي بكر أن يصحبه([3])،
بينما أسماء تنفي أي معرفة لها بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أين
اتجه حتى سمع أهل مكة الأبيات التي أنشدها الجن فعندها عرفوا أنه اتجه إلى المدينة
كما مرّ في الرواية.
2 ــ
إنها ترد قول عائشة: (فجهزناهما أحث الجهاز فوضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء
بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين، أي
أسماء)([4]).وفي رواية عن ابن إسحاق: «وكانت
أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما»([5]).
فكيف يمكن أن تكون أسماء بنت أبي بكر تأتيهما
بالطعام كل يوم عند المساء وهم بالغار، كما تقول أختها عائشة، وأسماء تنكر ذلك؟!
بل إنها تقسم بالله بأنها لا تدري أين أبوها([6])!؟
بل إنها لا علم لها أين توجه رسول الله ولم تتمكن هي وأهل مكة من معرفة ذلك إلا
بعد مضي ثلاثة أيام كما جاء في قولها: فمكثنا ثلاث ليال، وما ندري أين وجه رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم([7]).
ولذلك نجد أن ابن كثير الأموي لم يكمل بقية الرواية
التي روتها أسماء واكتفى بذكر ما جرى على أسماء من لطم خدها وطرح قرطها، أما بقية
قولها الذي تخبر من خلاله عدم معرفتها بوجه رسول الله وأنهم ــ أي آل أبي بكر ــ لم
يعلموا بذلك حتى مكثوا ثلاثة أيام، فإنه لم يذكره.
فلماذا عمد ابن كثير على قضم الرواية حتى هذا الجزء؟!
وكيف
أن آل أبي بكر كل منهم يروي حديثا يختلف عن الآخر؟! والغريب أننا نجد خلافا حتى
بين أبي بكر وابنته عائشة: عندما جلس يروي لها حديث هجرته مع النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كل ذلك يدل على أن كثيرا من النصوص قد كتبت لأغراض سياسية وشخصية، فضلاً
عن الأمراض النفسية التي كان النفاق هو المرض العضال فيها.
عمر بن الخطاب يقول: إن أبا
بكر لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه
أخرج
الحافظ البيهقي والحافظ ابن عساكر عن طريق ميمون بن مهران، عن ضبة بن محصن العنزي،
عن عمر بن الخطاب، ــ في حديثه عن هجرة أبي بكر ــ قوله: «خرج رسول الله صلى الله
عليه ــ وآله ــ وسلم هارباً من أهل مكة، خرج ليلا فتبعه أبو بكر»([8]).
وهنا
يشير عمر بن الخطاب إلى أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان منفصلا عن خروج
أبي بكر، وأنه، أي أبا بكر تبع النبي بعد أن خرج من مكة ليلا.
إرسال تعليق