بقلم: الدكتور عبد الكاظم الياسري
الخطاب الحسيني في معركة الطف لم يكن على وتيرة واحدة في تراكيبه ودلالاته، إنما اتخذ منحى تصاعدياً في طبيعة الأسلوب وحشد الدلالات واختيار التراكيب التي تنسجم مع طبيعة الموقف وبحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه الخطاب، ذلك أن خطاب الإمام الحسين كما أرى لا يمكن أن يكون مرحلياً يمثل مرحلة تاريخية ينتهي بنهايتها، ويبقى محفوظاً في متون الكتب مثل غيره من خطابات القادة، إنما المراد منه أن يكون منهجاً لكل ثورة حق ضد باطل، وكل صرخة في وجه ظالم ومن هنا يكتسب خطاب الإمام الحسين ديمومته، ليكون مدرسة تتعلم فيها الأجيال كيف ينتصر الدم على السيف، وكيف ينتفض المظلوم ضد الظالم، أريد لهذا الخطاب أن يتعلم منه المسلمون وغيرهم أن النصر في المعركة ليس دائماً بالمعنى المادي.
لأن الإمام الحسين (عليه السلام) انتصر نصراً عظيماً بالرغم من كونه لم يكسب المعركة على الأرض، ويزيد انهزم انهزاماً لا مثيل له بالرغم من كسبه المعركة على الأرض، وخسر بعد هذه المعركة كل شيء وظلت تلاحقه هو وأعوانه لعنة الله والناس أجمعين، وها هو الحسين شامخ منذ أربعة عشر قرناً، وسيبقى ولا وجود لأعدائه ومن قتله.
إن الناظر في بنية الخطاب الحسيني يلاحظ اختلافاً واضحاًَ في بنية هذا الخطاب وتراكيبه اللغوية وأساليب التعبير التي استعملها الإمام للوصول إلى غاياته خلال المسيرة التي قطعها ركب الإمام الحسين، ومن هنا برزت لدينا ثلاث مراحل اختلفت فيها طبيعة هذا الخطاب، وتنوعت الأساليب والتعبيرات التي بنى عليها الإمام خطابه في كل مرحلة وهذه المراحل هي:
1 . الخطاب الحسيني في بلاد الحجاز قبل المسير.
2 . الخطاب الحسيني في أثناء المسير إلى كربلاء.
3 . الخطاب الحسيني في أرض كربلاء.
وسوف أقوم بدراسة الخطاب الحسيني قبل المسير وبالتحديد خطابه عليه السلام في مجلس والي المدينة وذلك من خلاله الكشف عن طبيعة هذا الخطاب وأهدافه ودلالاته، وإيضاح البنية اللغوية الافرادية والتركيبية، وبيان الأساليب التي استعملها الإمام ومدى تأثيرها على المتلقي والسامع، ذلك أن من أهم الأهداف التي يرمي إليها الخطباء هو التأثير بأكبر قدر ممكن في نفوس السامعين، ليتم من خلال ذلك الإقناع بما يقوله الخطيب وما يدعو إليه، وسوف نبدأ في هذا الفصل بدراسة الخطاب الحسيني في بلاد الحجاز.
الخطاب الحسيني قبل المسير
يمثـل كلام الإمام في بلاد الحجاز (المدينة ومكة) المرحلة الأولى من مراحل الخطاب الحسيني، وحين ننظر إلى بنية هذا الخطاب سواء أكان في المدينة أم في مكة بعد خروجه إليها نجد انه يتمثل في اتجاهين:
الأول: هو الرفض القاطع لبيعة يزيد بعد هلاك معاوية.
الثاني: دعوة المسلمين إلى نصرة الحق ورفض الباطل.
والإمام الحسين حين يركز خطابه في هذين الاتجاهين ينطلق من فكرة واضحة هي؛ كونه صاحب حق اغتصب حقه أمام المسلمين جميعاً، ذلك أن في عقد البيعة ليزيد نقضاً للعهد المبرم بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية في الصلح المعقود بينهما أمام المسلمين كما هو معروف عند المؤرخين.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض وإقناع السامعين به يتخذ أسلوب التعبير في الخطاب الحسيني أبعاداً مختلفة، ويستعمل الإمام أبنية وأساليب متغايرة، ليرسم من خلالها الصورة التي تؤثر في عقل المتلقي وقلبه، وحين ننعم النظر في تراكيب الخطاب في هذه المرحلة نجده أحياناً موجهاً إلى عقول السامعين، ليحفزها على التفكير والتمييز بين الحق والباطل، وأحياناً يوجه خطابه إلى العواطف ليستشيرها ضد الظلم والطغيان، وفي أحيان أخرى يركز على ثوابت الدين الإسلامي «الحق، حتمية الموت، زوال الدنيا، الثواب، العقاب، الجنة، النار، البعث بعد الموت».
ومن هنـا نجد الخطاب في هذه المرحلة يزدحم بالأساليب الإنشائية، ويكثر منها في بنية خطابه وتراكيبه، فالأمر والنهي والاستفهام والنداء والقسم والعرض وغيرها تهيمن على بنية الخطاب اللغوية، وتأخذ مساحة كبيرة من بناء الخطاب في هذه المرحلة وفي المراحل الأخرى.
ويمكن أن نلحظ في بنية الخطاب أن الإمام يستعمل أكثر التعبيرات تأثيراً في عقول المخاطبين وأسماعهم، وهو يلجأ إلى أسلوب الإقناع حيناً، وقد يستعمل أسلوب الحوار والمناقشة أو التهـديد والتخويف من العواقب وهكذا، لذا تنوعت الأساليب التي يعبر بها الإمام عن أغراضه، وتداخلت في تراكيب خطابه الجمل الإسمية مع الجمل الفعلية والخبر مع الإنشاء، ليرسم من خلالها الصورة التي يريد إيصالها إلى السامعين، ومن هنا يمكن القول: إن بنية الخطاب الحسيني في مراحله المختلفة تتسع، لتشمل كل الأساليب المستعملة في لغة العرب من توكيد وقسم وتشبيه وشرط ومجاز وحقيقة واستعارة وكناية وتكرار وخبر وإنشاء وغيرها، وفيما يأتي عرض لانموذج من نماذج خطابه عليه السلام في بلاد الحجاز.
خطاب الإمام الحسين في مجلس والي المدينة
يمثل هذا الخطاب لدينا أول خطاب بدأت به مسيرة الإمام الحسين في ثورته لتنتهي بمعركة الطف.
تشير الروايات إلى أن الإمام الحسين حين دعاه الوليد بن عتبة والي المدينة لم يأمن جانبه (راجع تاريخ الطبري 5 / 339) ، فجمع فتيانه ورجاله من بني هاشم وأمرهم بالوقوف عند باب الوالي، وقال لهم إذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار، ودخل الإمام على الوالي فوجد عنده مروان بن الحكم، ونعى إليه الوليد معاوية وطلب منه البيعة ليزيد، وبعد حوارٍ جرى بينهما أقنعه الإمام أن بيعته لا يمكن أن تكون سراً، وحين يجتمع الناس سوف ينظر في الأمر، ولما أراد الإمام الانصراف تدخل مروان بن الحكم في الأمر وقال للوليد: «والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه» (راجع البداية والنهاية 8 / 158).
لقد أغضب هذا الكلام التحريضي الإمام الحسين عليه السلام، فنهض قائماً، وقال: «يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت» (راجع الكامل في التاريخ 2 / 530).
هذا الكلام لا يجرؤ أحد غير الإمام الحسين أن يقوله في دار الأمير قاله الإمام الحسين، لأنه صاحب حق مغتصب يعرفه كل المسلمين، ولأنه يستند إلى ركن شديد هو مكانته من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لذا نراه يواصل كلامه: «والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك» (راجع مقتل الإمام الحسين الخوارزمي 1 / 184).
التحليل اللغوي والبلاغي لهذه الفقرة من الحوار
الناظر في بنية خطاب الإمام الحسين في هذا الموقف يجد أن طبيعة هذا الرد الغاضب تلائم المقام الذي قيل فيه ويشعر أن وراءه أسباباً ودوافع جعلت الإمام يبني خطابه في هذا الموقف على الأساليب الإنشائية ــ نداء فيه ذم موجع ــ استفهام فيه إنكار وسخرية، قسم عظيم بلفظ الجلالة وهكذا، إن تتابع هذه الأساليب فيه إيحاء بشدة الغضب وتعبير عن القوة، ذلك أن الأساليب الإنشائية أقدر في التعبير عن مثل هذه الحالات من الأساليب الخبرية.
والملاحظ أن الإمام استعمل تعبيراً خالف فيه المعروف في سياق القسم، فالشائع أن المقسم به يتقدم على المقسم عليه نقول: «والله ما فعلت هذا» لكن الإمام عدل عن هذا الأسلوب فقدم الفعل «كذبت» على المقسم به، لفظ الجلالة، والغرض من هذا التقديم هو إعطاء صفة الكذب عند هذا الرجل توكيداً لا يتحصل لو جرى التركيب على الأسلوب المعروف.
فهناك فرق بين قولنا: «والله كذبت»، وقولنا: «كذبت والله» ذلك أن مثل هذا التركيب يعطي صفة الكذب اهتماماً أكبر من خلال تقديمها، لأن العرب تقدم في كلامها الذي هو أهم (راجع كتاب سيبويه 1 / 223).
ويوحي التعبير بهذا التركيب أن صفة الكذب طبيعة ملازمة لهذا الرجل وليس وضعاً حادثاً، وهذا هو الحق، لأن مروان ممن لعنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفضلاً عما تقدم فإن تقديم الضمير «أنت» على الفعل «تقتلني» وتسليط الاستفهام عليه بالهمزة المحذوفة وليس على الفعل له دلالة على أن المخاطب أبعد ما يكون عن تحقيق مثل هذا الأمر وفيه إظهار لعجزه عن مثل هذه الأمور، وتبدو فيه طبيعة الاستهانة بقدرة المخاطب واضحة، فالخطاب يقول للمخاطب: إنك غير قادر على تنفيذ مثل هذا المركب الصعب.
عودة إلى خطاب الإمام الحسين عليه السلام لوالي المدينة
ثم يلتفت الإمام الحسين إلى الوليد فيقول: «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة» (راجع الكامل في التاريخ 3 / 246).
تحليل هذه الفقرة من الحوار
الملاحظ أن البنية التركيبية لهذا الخطاب تبدو أكثر هدوءاً من الخطاب الأول على الرغم من كونهما قيلا في مكان واحد هو دار الأمير، وسبب ذلك أن المقام يختلف بين الخطابين، فمقام الخطاب الأول هو رد على تحريض غير مسؤول أطلقه مروان بن الحكم في حين جاء الخطاب الثاني لبيان موقف الإمام من هذا الأمر، وتبدو تراكيب الخطاب الثاني خالية من الأساليب الإنشائية باستثناء النداء في بداية الكلام، أما تراكيب الخطاب الأخرى فقد بنيت على الأسلوب الخبري، ويبدو من خلال ما ورد في كلام الإمام أنه يحدد طرفين يحاول المقارنة بينهما.
الأول: الإمام الحسين الذي ينتمي إلى بيت النبوة ومعدن الرسالة.
الثاني: يزيد بن معاوية شارب الخمر المجاهر بالفسق.
وأول ما يلفت النظر في هذا النص هو تتابع النعوت أو الأخبار التي تصف كلاً من الطرفين، فالحسين سليل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة.
ويزيد شارب الخمر مجاهر بالفسق قاتل النفس المحترمة، إنّ تكرار هذه النعوت فيه مغزى دلالي قصد إليه الإمام هو تثبيت كل طرف في المكان المناسب له وكشف حقيقته بين المسلمين وفيه إشارة إلى ان سير الأمور كما هو واقع الآن ليس في صالح الأمة الإسلامية، لأن يزيد بحكم هذه المواصفات لا يصلح أن يكون ولي أمر المسلمين وأمير المؤمنين، والإمام الحسين بحكم مواصفاته هو الأصلح لتولي أمور المسلمين، ومن هنا كانت نهضته لتغيير هذا الواقع وإعادة الأمور إلى نصابها.
وفضلاً عما تقدم من دلالة فإن الإمام بنى سياق خطابه على التراكيب الإسمية «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة... ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر»، وبناء الخطاب على هذه التراكيب يدل على ثبات هذه الصفات في كل طرف وكأنها طبيعة ملازمة له لا تنفك عنه، ومن أجل هذا عدل الإمام عن التركيب الفعلي الذي يدل على الحدوث والتجدد.
وفي قوله «بنا فتح الله وبنا يختم» قدم شبه الجملة «بنا» على الفعلين «فتح ويختم» وهذا التقديم له دلالة هي التخصيص والقصر، ويدل استعمال صيغة الماضي على سبق أهل البيت بفتح الله سبحانه وتعالى، أما الفعل المضارع «يختم» ففيه دلالة على استمرار هذا الأمر فيهم (المأثور من كلام الإمام الحسين، دراسة لغوية / 72).
ويمكن أن نلمح من هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى اختص أهل البيت بولاية المسلمين، وجعلها حقاً لهم وهذا ما يدل عليه ختام كلمة الإمام حين قال: «وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة».
لقد أعلن الإمام في سياق هذا الخطاب رفضه القاطع لبيعة يزيد بولاية أمور المسلمين بقوله: «ومثلي لا يبايع مثله» لقد بنى الإمام هذا الحكم على ضوء ما تقدم من صفات الطرفين، وقد مثل هذا التركيب موقف الإمام الرافض لهذه البيعة، لأن موافقة الإمام على هذه البيعة يعني إعطاء الغطاء الشرعي لخلافة يزيد وهذا ما يرفضه الإمام رفضاً قاطعاً وقد أعلن هذا الموقف أمام الملأ جميعاً.
الخطاب الحسيني في معركة الطف لم يكن على وتيرة واحدة في تراكيبه ودلالاته، إنما اتخذ منحى تصاعدياً في طبيعة الأسلوب وحشد الدلالات واختيار التراكيب التي تنسجم مع طبيعة الموقف وبحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه الخطاب، ذلك أن خطاب الإمام الحسين كما أرى لا يمكن أن يكون مرحلياً يمثل مرحلة تاريخية ينتهي بنهايتها، ويبقى محفوظاً في متون الكتب مثل غيره من خطابات القادة، إنما المراد منه أن يكون منهجاً لكل ثورة حق ضد باطل، وكل صرخة في وجه ظالم ومن هنا يكتسب خطاب الإمام الحسين ديمومته، ليكون مدرسة تتعلم فيها الأجيال كيف ينتصر الدم على السيف، وكيف ينتفض المظلوم ضد الظالم، أريد لهذا الخطاب أن يتعلم منه المسلمون وغيرهم أن النصر في المعركة ليس دائماً بالمعنى المادي.
لأن الإمام الحسين (عليه السلام) انتصر نصراً عظيماً بالرغم من كونه لم يكسب المعركة على الأرض، ويزيد انهزم انهزاماً لا مثيل له بالرغم من كسبه المعركة على الأرض، وخسر بعد هذه المعركة كل شيء وظلت تلاحقه هو وأعوانه لعنة الله والناس أجمعين، وها هو الحسين شامخ منذ أربعة عشر قرناً، وسيبقى ولا وجود لأعدائه ومن قتله.
إن الناظر في بنية الخطاب الحسيني يلاحظ اختلافاً واضحاًَ في بنية هذا الخطاب وتراكيبه اللغوية وأساليب التعبير التي استعملها الإمام للوصول إلى غاياته خلال المسيرة التي قطعها ركب الإمام الحسين، ومن هنا برزت لدينا ثلاث مراحل اختلفت فيها طبيعة هذا الخطاب، وتنوعت الأساليب والتعبيرات التي بنى عليها الإمام خطابه في كل مرحلة وهذه المراحل هي:
1 . الخطاب الحسيني في بلاد الحجاز قبل المسير.
2 . الخطاب الحسيني في أثناء المسير إلى كربلاء.
3 . الخطاب الحسيني في أرض كربلاء.
وسوف أقوم بدراسة الخطاب الحسيني قبل المسير وبالتحديد خطابه عليه السلام في مجلس والي المدينة وذلك من خلاله الكشف عن طبيعة هذا الخطاب وأهدافه ودلالاته، وإيضاح البنية اللغوية الافرادية والتركيبية، وبيان الأساليب التي استعملها الإمام ومدى تأثيرها على المتلقي والسامع، ذلك أن من أهم الأهداف التي يرمي إليها الخطباء هو التأثير بأكبر قدر ممكن في نفوس السامعين، ليتم من خلال ذلك الإقناع بما يقوله الخطيب وما يدعو إليه، وسوف نبدأ في هذا الفصل بدراسة الخطاب الحسيني في بلاد الحجاز.
الخطاب الحسيني قبل المسير
يمثـل كلام الإمام في بلاد الحجاز (المدينة ومكة) المرحلة الأولى من مراحل الخطاب الحسيني، وحين ننظر إلى بنية هذا الخطاب سواء أكان في المدينة أم في مكة بعد خروجه إليها نجد انه يتمثل في اتجاهين:
الأول: هو الرفض القاطع لبيعة يزيد بعد هلاك معاوية.
الثاني: دعوة المسلمين إلى نصرة الحق ورفض الباطل.
والإمام الحسين حين يركز خطابه في هذين الاتجاهين ينطلق من فكرة واضحة هي؛ كونه صاحب حق اغتصب حقه أمام المسلمين جميعاً، ذلك أن في عقد البيعة ليزيد نقضاً للعهد المبرم بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية في الصلح المعقود بينهما أمام المسلمين كما هو معروف عند المؤرخين.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض وإقناع السامعين به يتخذ أسلوب التعبير في الخطاب الحسيني أبعاداً مختلفة، ويستعمل الإمام أبنية وأساليب متغايرة، ليرسم من خلالها الصورة التي تؤثر في عقل المتلقي وقلبه، وحين ننعم النظر في تراكيب الخطاب في هذه المرحلة نجده أحياناً موجهاً إلى عقول السامعين، ليحفزها على التفكير والتمييز بين الحق والباطل، وأحياناً يوجه خطابه إلى العواطف ليستشيرها ضد الظلم والطغيان، وفي أحيان أخرى يركز على ثوابت الدين الإسلامي «الحق، حتمية الموت، زوال الدنيا، الثواب، العقاب، الجنة، النار، البعث بعد الموت».
ومن هنـا نجد الخطاب في هذه المرحلة يزدحم بالأساليب الإنشائية، ويكثر منها في بنية خطابه وتراكيبه، فالأمر والنهي والاستفهام والنداء والقسم والعرض وغيرها تهيمن على بنية الخطاب اللغوية، وتأخذ مساحة كبيرة من بناء الخطاب في هذه المرحلة وفي المراحل الأخرى.
ويمكن أن نلحظ في بنية الخطاب أن الإمام يستعمل أكثر التعبيرات تأثيراً في عقول المخاطبين وأسماعهم، وهو يلجأ إلى أسلوب الإقناع حيناً، وقد يستعمل أسلوب الحوار والمناقشة أو التهـديد والتخويف من العواقب وهكذا، لذا تنوعت الأساليب التي يعبر بها الإمام عن أغراضه، وتداخلت في تراكيب خطابه الجمل الإسمية مع الجمل الفعلية والخبر مع الإنشاء، ليرسم من خلالها الصورة التي يريد إيصالها إلى السامعين، ومن هنا يمكن القول: إن بنية الخطاب الحسيني في مراحله المختلفة تتسع، لتشمل كل الأساليب المستعملة في لغة العرب من توكيد وقسم وتشبيه وشرط ومجاز وحقيقة واستعارة وكناية وتكرار وخبر وإنشاء وغيرها، وفيما يأتي عرض لانموذج من نماذج خطابه عليه السلام في بلاد الحجاز.
خطاب الإمام الحسين في مجلس والي المدينة
يمثل هذا الخطاب لدينا أول خطاب بدأت به مسيرة الإمام الحسين في ثورته لتنتهي بمعركة الطف.
تشير الروايات إلى أن الإمام الحسين حين دعاه الوليد بن عتبة والي المدينة لم يأمن جانبه (راجع تاريخ الطبري 5 / 339) ، فجمع فتيانه ورجاله من بني هاشم وأمرهم بالوقوف عند باب الوالي، وقال لهم إذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار، ودخل الإمام على الوالي فوجد عنده مروان بن الحكم، ونعى إليه الوليد معاوية وطلب منه البيعة ليزيد، وبعد حوارٍ جرى بينهما أقنعه الإمام أن بيعته لا يمكن أن تكون سراً، وحين يجتمع الناس سوف ينظر في الأمر، ولما أراد الإمام الانصراف تدخل مروان بن الحكم في الأمر وقال للوليد: «والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه» (راجع البداية والنهاية 8 / 158).
لقد أغضب هذا الكلام التحريضي الإمام الحسين عليه السلام، فنهض قائماً، وقال: «يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت» (راجع الكامل في التاريخ 2 / 530).
هذا الكلام لا يجرؤ أحد غير الإمام الحسين أن يقوله في دار الأمير قاله الإمام الحسين، لأنه صاحب حق مغتصب يعرفه كل المسلمين، ولأنه يستند إلى ركن شديد هو مكانته من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لذا نراه يواصل كلامه: «والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك» (راجع مقتل الإمام الحسين الخوارزمي 1 / 184).
التحليل اللغوي والبلاغي لهذه الفقرة من الحوار
الناظر في بنية خطاب الإمام الحسين في هذا الموقف يجد أن طبيعة هذا الرد الغاضب تلائم المقام الذي قيل فيه ويشعر أن وراءه أسباباً ودوافع جعلت الإمام يبني خطابه في هذا الموقف على الأساليب الإنشائية ــ نداء فيه ذم موجع ــ استفهام فيه إنكار وسخرية، قسم عظيم بلفظ الجلالة وهكذا، إن تتابع هذه الأساليب فيه إيحاء بشدة الغضب وتعبير عن القوة، ذلك أن الأساليب الإنشائية أقدر في التعبير عن مثل هذه الحالات من الأساليب الخبرية.
والملاحظ أن الإمام استعمل تعبيراً خالف فيه المعروف في سياق القسم، فالشائع أن المقسم به يتقدم على المقسم عليه نقول: «والله ما فعلت هذا» لكن الإمام عدل عن هذا الأسلوب فقدم الفعل «كذبت» على المقسم به، لفظ الجلالة، والغرض من هذا التقديم هو إعطاء صفة الكذب عند هذا الرجل توكيداً لا يتحصل لو جرى التركيب على الأسلوب المعروف.
فهناك فرق بين قولنا: «والله كذبت»، وقولنا: «كذبت والله» ذلك أن مثل هذا التركيب يعطي صفة الكذب اهتماماً أكبر من خلال تقديمها، لأن العرب تقدم في كلامها الذي هو أهم (راجع كتاب سيبويه 1 / 223).
ويوحي التعبير بهذا التركيب أن صفة الكذب طبيعة ملازمة لهذا الرجل وليس وضعاً حادثاً، وهذا هو الحق، لأن مروان ممن لعنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفضلاً عما تقدم فإن تقديم الضمير «أنت» على الفعل «تقتلني» وتسليط الاستفهام عليه بالهمزة المحذوفة وليس على الفعل له دلالة على أن المخاطب أبعد ما يكون عن تحقيق مثل هذا الأمر وفيه إظهار لعجزه عن مثل هذه الأمور، وتبدو فيه طبيعة الاستهانة بقدرة المخاطب واضحة، فالخطاب يقول للمخاطب: إنك غير قادر على تنفيذ مثل هذا المركب الصعب.
عودة إلى خطاب الإمام الحسين عليه السلام لوالي المدينة
ثم يلتفت الإمام الحسين إلى الوليد فيقول: «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة» (راجع الكامل في التاريخ 3 / 246).
تحليل هذه الفقرة من الحوار
الملاحظ أن البنية التركيبية لهذا الخطاب تبدو أكثر هدوءاً من الخطاب الأول على الرغم من كونهما قيلا في مكان واحد هو دار الأمير، وسبب ذلك أن المقام يختلف بين الخطابين، فمقام الخطاب الأول هو رد على تحريض غير مسؤول أطلقه مروان بن الحكم في حين جاء الخطاب الثاني لبيان موقف الإمام من هذا الأمر، وتبدو تراكيب الخطاب الثاني خالية من الأساليب الإنشائية باستثناء النداء في بداية الكلام، أما تراكيب الخطاب الأخرى فقد بنيت على الأسلوب الخبري، ويبدو من خلال ما ورد في كلام الإمام أنه يحدد طرفين يحاول المقارنة بينهما.
الأول: الإمام الحسين الذي ينتمي إلى بيت النبوة ومعدن الرسالة.
الثاني: يزيد بن معاوية شارب الخمر المجاهر بالفسق.
وأول ما يلفت النظر في هذا النص هو تتابع النعوت أو الأخبار التي تصف كلاً من الطرفين، فالحسين سليل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة.
ويزيد شارب الخمر مجاهر بالفسق قاتل النفس المحترمة، إنّ تكرار هذه النعوت فيه مغزى دلالي قصد إليه الإمام هو تثبيت كل طرف في المكان المناسب له وكشف حقيقته بين المسلمين وفيه إشارة إلى ان سير الأمور كما هو واقع الآن ليس في صالح الأمة الإسلامية، لأن يزيد بحكم هذه المواصفات لا يصلح أن يكون ولي أمر المسلمين وأمير المؤمنين، والإمام الحسين بحكم مواصفاته هو الأصلح لتولي أمور المسلمين، ومن هنا كانت نهضته لتغيير هذا الواقع وإعادة الأمور إلى نصابها.
وفضلاً عما تقدم من دلالة فإن الإمام بنى سياق خطابه على التراكيب الإسمية «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة... ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر»، وبناء الخطاب على هذه التراكيب يدل على ثبات هذه الصفات في كل طرف وكأنها طبيعة ملازمة له لا تنفك عنه، ومن أجل هذا عدل الإمام عن التركيب الفعلي الذي يدل على الحدوث والتجدد.
وفي قوله «بنا فتح الله وبنا يختم» قدم شبه الجملة «بنا» على الفعلين «فتح ويختم» وهذا التقديم له دلالة هي التخصيص والقصر، ويدل استعمال صيغة الماضي على سبق أهل البيت بفتح الله سبحانه وتعالى، أما الفعل المضارع «يختم» ففيه دلالة على استمرار هذا الأمر فيهم (المأثور من كلام الإمام الحسين، دراسة لغوية / 72).
ويمكن أن نلمح من هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى اختص أهل البيت بولاية المسلمين، وجعلها حقاً لهم وهذا ما يدل عليه ختام كلمة الإمام حين قال: «وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة».
لقد أعلن الإمام في سياق هذا الخطاب رفضه القاطع لبيعة يزيد بولاية أمور المسلمين بقوله: «ومثلي لا يبايع مثله» لقد بنى الإمام هذا الحكم على ضوء ما تقدم من صفات الطرفين، وقد مثل هذا التركيب موقف الإمام الرافض لهذه البيعة، لأن موافقة الإمام على هذه البيعة يعني إعطاء الغطاء الشرعي لخلافة يزيد وهذا ما يرفضه الإمام رفضاً قاطعاً وقد أعلن هذا الموقف أمام الملأ جميعاً.
إرسال تعليق