قصة استبصار السيد إدريس الحسيني المغربي

الولادة والمدينة

ولد عام (1967م) بمدينة (مولاي إدريس) المغربية، وترعرع في مدن المغرب: القصر الكبير، مكناس، الرباط، وذلك نتيجة الظروف التي كانت تحدّدها وظيفة والده في وزارة الفلاحة.


الأجواء التي ترعرع فيها

نشأ السيّد إدريس في أوساط عائلية وبيئة اجتماعية منحته منذ البداية الثقة بالنفس والعقلية المنفتحة والواعية نتيجة هيمنة قانون حرّية الرأي وحرّية الفكر فيها، فكان متحرّراً من كلّ فكر عقائدي في بيئته ولم يواجه أيّ لون من ألوان الأزمة في الحرّية.

فيقول السيّد إدريس في هذا المجال: (إنَّني لم أنشأ في أسرة تضرب أبناءها إطلاقاً، لأنَّ المغاربة لا يعرفون كيف يضربون أبناءهم. وهذه الحرّية العقائدية في بيتي ساعدتني على أن أدخل في معترك الاختيارات الفكرية من دون مسبقات).

كما أنَّ دولة المغرب بنحو عامّ كما يصفها السيّد إدريس بلد يتمتَّع بمجتمع مدني، وفيه أن تختار فكراً لا يعني أنَّ المسألة أصبح لها مدلولاً طائفياً، كما هو الوضع في بلدان أخرى، بل الكلّ حرّ في أن يختار طريقته من دون أن يذهب به ذلك إلى الإخلال بالأمن العامّ.

وفي هكذا أجواء ترعرع السيّد إدريس متَّسماً بالعقلية المتفتّحة والناقدة، فنما لديه طموح البحث في الفكر الإنساني على نحو عام والفكر الإسلامي على نحو خاص، وهذا هو الطموح الذي ظلَّ يراوده منذ الصبا والذي دفعه ليجتاز العقبات كلّها التي اعترته من أجل تحقّقه.

بداية الرحلة الجادّة في البحث

أدرك السيّد إدريس في بداية توجّهه للبحث أن ليس ثمَّة شيء في الدين إلاَّ وله علاقة بالتاريخ، وأنَّ ما تملكه اليوم الأمّة الإسلاميّة من عقائد وأحكام وثقافات كلّها جاءت عن طريق الرواية، فلهذا ينبغي أن يكون التاريخ هو أحد المصادر العلمية المهمّة. فتوجَّه السيّد إدريس إلى الأبحاث التاريخية بصورة موضوعية ومن دون تحيّز أو تعصّب لاتّجاه معيَّن.

مرحلة اجتياز العقبات

أوّل عقبة واجهها السيّد إدريس في مسيرته تحذير بعض العلماء له من البحث في القضايا التاريخية القديمة، محتجّين لذلك بأنَّ هذا الأمر باعث على الفتنة وأنَّه يورث الباحث شبهات توجب تزلزل بنيته العقائدية.

لكن السيّد إدريس سرعان ما تمكَّن من اجتياز هذه العقبة، فلم يتقبَّل هذه الفكرة، فيقول في هذا المجال: (لقد تحوَّل البحث عن الحقيقة، فتنة في قاموس هذا الصنف من الناس، وكأنَّهم يرون البقاء على التمزّق الباطني، حيث تتشوَّش الحقيقة وتغيب، أفضل من الافصاح عن الحقّ الذي من أجله أنزل الوحي، وكأنَّ مهمّة الدين هو أن يأتي بالغموض، وكأنَّ الله عز وجل أراد أن يبلبل الحقائق).

وكانت العقبة التالية أمامه هي قداسة بعض الشخصيات، لكن بعد عزمه على معرفة الحقّ أدرك أنَّ الحقيقة أغلى وأنفس من الرجال من دون استثناء، وأنَّه لا بدَّ أن يوطّن نفسه ويهيّئها للطوارئ في معترك التنقيب عن الحقائق الضائعة. فلهذا لم يفسح المجال لأيّ قداسة مزعومة أن تجمّد فكره في مجال البحث عن الحقيقة.

وبهذه العقلية خاض السيّد إدريس غمار البحث، واستغرقت رحلة بحثه مدّة طويلة عاشها بين أنقاض التاريخ المدفون.

ويقول السيّد إدريس: (لقد قمت بكلّ ما يمكن أن يفعله باحث عن الحقيقة، ومصرّ على المضي في دربها المضني والوعر).

بداية تعرّفه على التشيّع

يقول السيّد إدريس: (وقع في يدي كتابان يتحدَّثان عن فاجعة كربلاء وسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكنت لأوّل مرَّة أجد كتاباً يحمل لهجة من نوع خاصّ مناقضة تماماً لتلك الكتب التي عكفت على قراءتها، لم أكن أعرف أنَّ صاحب الكتاب رجل شيعي، لأنَّني ما كنت أتصوَّر أنَّ الشيعة مسلمون! فكانت تختلط عندي المسألة الشيعية بالمسألة البوذية أو السيخية!).

ومن هنا تفتَّحت ذهنية السيّد إدريس فتعرَّف على بعض ورؤى التشيّع أفكاره فتبادر إلى ذهنه: لماذا هؤلاء شيعة ونحن سُنّة؟

ويقول السيّد إدريس: (تحوَّل هذا السؤال في ذهني إلى شبح، يطاردني في كلّ مكان، فتجاهلت الأمر في البداية وتناسيته حتَّى أخفّف عن نفسي مضاضة البحث، بيد أنَّ ثقل البحث كان أخفّ عليَّ من ثقل السؤال وأقلُّ ضغطاً من الحيرة والشكّ المريب).

ومن هذا المنطلق قرَّر السيّد إدريس ولأجل التخلّص من هذا الضغط النفسي أن يزوّد فكره بالجديد حتَّى يحسم مسلّماته الموروثة، لأنَّه أدرك عدم قيمة أفكار تتراكم في ذهنه من دون أن تبلور عنده أساس عقائدي متين.

فلهذا قرَّر السيّد إدريس أن يتوجَّه إلى معرفة الفكر الشيعي من أجل الإلمام بالفوارق بينه وبين الفكر السُنّي.

ثمار الانغماس في التراث الشيعي

لم تمض مدة قصيرة من دراسة السيّد إدريس للتراث الشيعي إلاَّ وأدرك أموراً خطيرة قلبت عنده الموازين، وكان منها وعيه بأنَّ الوضع السُنّي لا يجد حرجاً في أن يملي على أتباعه صورة مشوّهة عن معارضيه وأنَّه لا يستحي من الله ولا من التاريخ في تغذيته نزعة التجهيل والتمويه لمنتميه.

ويقول السيّد إدريس: (وفجأة وجدت نفسي مخدوعاً).


وانتفض ضميره قائلاً: (لماذا هؤلاء لا يكشفون الحقائق للناس كما هي في الواقع؟ لماذا يتعمَّدون إبقاءنا على وعينا السخيف؟).

فقرَّر السيّد إدريس أن يبحث عن الحقّ الضائع في منعطفات التاريخ الإسلامي، وكان من أكبر الأحداث التاريخية التي تركت الأثر العميق في وجدانه هي فاجعة الطفّ الدامية، ومنها عرف أنَّ هذا الظلم الذي يشكو منه اليوم ليس جديداً على الأمّة، وأنَّ الظالمين اليوم يسلكون طريقاً أسَّسه أفراد كانوا يشكّلون حجر عثرة أمام مسيرة الأئمّة من آل البيت عليهم السلام.


عقبة أحقّية الأكثرية

يقول السيّد إدريس: (كنت كلَّما طرحت سؤالاً على نفسي، رأيت شيطاناً يعتريني ويقول لي: دع عنك هذا السؤال، فهل أنت أعظم من ملايين المسلمين الذين وجدوا قبلك، وهل أنت أعلم من هؤلاء الموجودين حتَّى تحسم في هذه المسألة؟).

ويضيف: (كنت أعلم أنَّ هؤلاء الملايين لم يطرحوا هذا السؤال على أنفسهم بهذه القوَّة والإلحاح).

وعلى كلّ حال لم تكن هذه الاعتراضات بذلك المستوى الذي تردع السيّد إدريس عن اندفاعه إلى كشف الحجاب عن الحقيقة المستورة.

ولقد حزَّ في نفسه هذه الكثرة الغالبة، حيث إنَّها كبرت في عينه وصعب عليه مخالفتها، بيد أنَّ شيئاً واحداً جعله ينتصر عليها وذلك بإيمانه بأنَّ الأكثرية فقط لا يمكنها أن تمثّل الحقيقة، ولا يسع في البحث الموضوعي عدّ الأكثرية ملاكاً لمعرفة الحقّ، وهذا ما جعله يتمكَّن من الصمود أمام الأمواج البشرية الهائلة التي ليس لها منطق في عالم الحقائق سوى كثرتها.

ويقول السيّد إدريس: (كنت أطرح دائماً على أصدقائي قضيّة الحسين عليه السلام المظلوم، وآل البيت عليهم السلام... فأنا ظمآن إلى تفسير شافٍ لهذه المآسي... كيف يستطيع هؤلاء السلف (الصالح) أن يقتلوا آل البيت عليهم السلام تقتيلاً!؟ لكن أصحابي، ضاقوا منّي وعزَّ عليهم أن يروا فكري يسير حيث لا تشتهي سفينة الجماعة).

ويضيف السيّد إدريس: (من هنا بدأت قصَّة - الحركة نحو الاستبصار - وجدت نفسي أمام موجة عارمة من التساؤلات التي جعلتني حتماً أقف على قاعدة اعتقادية صلبة. أنَّني لست من أولئك الذين يحبّون أن يخدعوا أو أن ينوّموا، لا، أبداً، لا أرتاح حتَّى أجدّد منطلقاتي، وأعالج مسلّماتي، فلتقف حركتي في المواقف، ما دامت حركتي في الفكر صائبة).

ومن هنا شدَّ السيّد إدريس عزمه لمواصلة طريق البحث مهما كانت النتائج، كما أنَّه أدرك بأنَّ هذا الطريق وعر، تتجلّى فيه أقوى معاني التضحية، وفيه يكون الاستقرار والهناء بدعاً. لأنَّ أئمّة هذا الطريق ما ارتاح لهم بال ولا قرَّ لهم جنان، حتَّى يُتّموا، وذُبحوا، وحُوربوا عبر الأجيال!

فأدرك السيّد إدريس مدى قيمة الحقيقة في حسبان الباحثين عنها، وأدرك مدى الجهد الذي ينبغي بذله لخلع جبّة التقليد عن نفسه، واختراق الجدار السميك من الضلالات والأعراف والتقاليد.

فعدَّ لنفسه العدّة المطلوبة لهذه الرحلة الفكرية، فكانت نتيجة هذا الجهد الذي بذله في البحث هو انجلاء تلك الصورة التي ورثها عن الشيعة، وحلَّ محلّها المفهوم الموضوعي الذي يتأسَّس على العمق العلمي المتوفّر في الكتابات التأريخية. كما تبيَّن له أنَّ مذهب أهل البيت عليهم السلام هو أوّل مذهب في الإسلام، وهذا لا يعني أنَّ الشيعة انفردوا عن غيرهم بطريقة ابتدعوها، ولكنَّهم احتفظوا بموقعهم الأصيل الذي عُرفوا به، هذا في الوقت الذي شردت فيه جميع الملل والنحل، وتفرَّقت تبتغي الحقّ عند غير أهله.
اتّخاذ الموقف النهائي

يقول السيّد إدريس: (في اللحظات التي ظهرت لي الأحداث على حقيقتها، قامت - فوراً - حرب بين عقلي ونفسي، فالنفس عزَّ عليها اقتلاع (ضرس) العقيدة السابقة، والعقل عزَّ عليه أن يتغاضى عن الحقائق الواضحة القطعية، فإمَّا أن أتَّبع طريقاً موروثاً، وإمَّا أن أسلك سبيل القناعة ونور العقل).

ويضيف: (كان هذا أخطر قرار اتَّخذته في حياتي، لكي أنتقل بعدها إلى رحاب التحدّيات الفكرية والاجتماعية).

ومن هنا استقرَّ المقام بالسيّد إدريس في هدى الأئمّة الأطهار، فأعلن تشيّعه في المغرب ثمّ هاجر إلى سوريا من أجل الالتحاق بالحوزة العلمية في دمشق. فتلقّى دراسته الحوزوية على يد جملة من المشايخ والعلماء، وما يزال متابعاً لدراسته إلى جانب مزاولة التدريس بالحوزة العلمية، إضافة إلى عمل الصحافة والكتابة الأخرى.

وقد تبلور عند الأستاذ اتّجاهين في رحاب العلم والمعرفة:

الأوّل: الاهتمام بالمباحث المعاصرة والجديدة والحديثة التي تطرح بكثافة في ساحة المغرب.

الثاني: هو الاهتمام بالمباحث الدينية والمذهبية التي بدأ يتلقّاها على أيدي أساتذة الحوزة العلمية التي انتسب إليها.

وقد أبدع الأستاذ في نتاجاته في كلا الاتّجاهين، فألَّف بعض الكتب فيما يخصّ المباحث الدينية مثل كتاب (لقد شيَّعني الحسين)، وكتاب (الخلافة المغتصبة)، وألَّف جملة من الكتب تدور حول الأفكار والرؤى المعاصرة ككتاب (محنة التراث الآخر).

مؤلّفاته

1 - لقد شيَّعني الحسين عليه السلام (الانتقال الصعب في رحاب المعتقد والمذهب)، صدرت الطبعة الأولى عام (1414هـ/ 1994م) عن دار النخيل للطباعة والنشر/ بيروت، ترجمه مالك محمودي إلى اللغة الفارسية تحت عنوان (راه دشوار از مذهب به مذهب) وصدرت الترجمة عام (1416هـ) عن دار القرآن الكريم/ قم.

2 - الخلافة المغتصبة (أزمة تاريخ أم أزمة مؤرّخ)، صدرت الطبعة الأولى عن دار الخليج، والطبعة الثانية عام (1416هـ) عن دار النخيل العربي للطباعة والنشر/ بيروت.

3 - هكذا عرفت الشيعة (توضيحات وردود)، صدر عام (1418هـ) عن دار النخيل العربي للطباعة والنشر/ بيروت.

4 - محنة التراث الآخر (النزعات العقلانية في الموروث الإمامي)، صدر عن دار الغدير/ بيروت سنة (1419هـ).

5 - حوار الحضارات، صدر عن المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ المغرب/ الطبعة الأولى/ عام (2000م).

6 - المفارقة والمعانقة (سؤال المقابسة في قرن جديد، رؤية نقدية في مسارات العولمة وحوار الحضارات)، صدر عن المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ المغرب/ الطبعة الأولى/ عام (2001م).

المقالات

1 - في نقد الأسطورة السبئية، نشرتها مجلَّة المنهاج التي تصدر عن مركز الغدير/ بيروت/ العدد الثالث/ خريف (1417هـ/ 1996م).

2 - الجابري.. واللامعقول الشيعي، نشرته مجلَّة المنهاج/ العدد الثامن/ شتاء 1418هـ/ 1997م.

3 - الأنطولوجيا المشّائية في أفق انفتاحها، ومقاربة لنظرية الوجود عند صدر المتألّهين الشيرازي، نشرته مجلَّة المنهاج/ العدد التاسع/ ربيع 1418هـ/ 1998م.

4 - مع ابن تيمية في ردوده على المنطقيين، نشرتها مجلَّة المنهاج/ العدد الرابع عشر/ صيف (1420هـ/ 1996م).

5 - آفاق النهضة في الفكر العربي المعاصر وجدلية العلاقة مع الغرب من منظار نقدي، نشرتها مجلَّة البصائر/ بيروت/ العدد 10/ ربيع (1413هـ/ 1993م).

6 - المقبول واللامقبول في (أصوليات) روجيه غارودي، نشرته مجلَّة البصائر/ العدد 10/ ربيع (1413هـ/ 1993م).





إرسال تعليق