المراثي الحسينية بين الاتجاه التقليدي والاتجاه التجديدي

بقلم: د. علي حسين يوسف

توطئة


كانت مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف الأول من القرن العشرين نتاج أمرين، هما:

1. إنَّ تلك المراثي كانت امتداداً طبيعياً لما سبقها من مراثٍ في العصور السابقة.

2. ارتباطها بالمرحلة التاريخية التي مرَّ بها العراق في الحقبة المحصورة بين 1900 – 1950 م.

 لذا كان من الطبيعي أن تتضمن تلك المراثي سمات كثيرة من الموروث الشعري، في الوقت التي كانت تمثل صورة لواقع اجتماعي وسياسي، كان بمنزلة الحاضنة الفكرية للشعراء.

وربما لا يمكن الجزم بترجيح أحد هذين العاملين على الآخر في قوَّة حضوره وشدَّته في مراثي هذه الحقبة، ولعلَّ ما موجود – بين أيدينا – من مراثٍ نظمت خلال هذه السنوات الخمسين يسمح بالقول: إنَّ تلك المراثي كانت كالبوتقة التي انصهر فيها الماضي بالحاضر.

وليس من المستبعد أن يشعر القارئ لمراثي السيد مهدي الطالقاني، و الشيخ كاظم آل نوح، و عبد الحسين الحويزي، وكاظم سبتي، والسيد رضا الموسوي الهندي، وقاسم حسن محيي الدين، وباقر حبيب الخفاجي، وكأنَّه يقرأ مراثيَ للكميت، أو الشريف الرضي، أو السيد حيدر الحلي، فربما تشابهت الأفكار، والأخيلة، والأساليب على الرغم من تباين الظروف، فلا ننسى أنَّ لشعراء الشيعة مدرسة خاصة تميزت بالنفس العربي الخالص، وضع ركائزها، وشيَّد أركانها شعراء كبار أمثال: الكميت الأسدي، ودعبل الخزاعي، والشريف الرضي، واستمرت في العطاء إلى يومنا هذا، فلا غرابة بعد ذلك من وجود هذه التقاربات الموضوعية والفنية بين شعرائها[1].

وفي الوقت نفسه، فإنَّ الدليل لا يعوزنا في وجود عشرات المراثي في هذه الحقبة، التي كان للحاضر صداه الكبير في تعابيرها، وصورها، وأساليبها، لكن الشعراء في كلتا الحالين كانوا يعبرون عن إيمانهم بمبادئ الثورة الحسينية، وسيتضح ذلك أكثر في الفصل الثاني من هذا الباب.

وإذا كانت المراثي الحسينية في النصف الأول من القرن العشرين تمثل امتداداً لما سبقها من مراثٍ في القرون الماضية، والقرن التاسع عشر خاصة، فإنَّ ذلك يمكن أن يكون نتيجة طبيعية للتقارب الزمني بين الحقبتين، وامتداد الثقافة التقليدية – ثقافة المساجد والشيوخ – ولأنَّ عدداً من الشعراء الذين أمضوا شطراً من حياتهم في القرن العشرين قد تكونت ثقافتهم في أجواء القرن التاسع عشر، فاستمروا في المحافظة على أساليبه، وتقاليده الأدبية. وثمَّة أمر لا بدَّ من الإشارة إليه، وهو ذلك الميل الفطري في الإنسان لكل ما هو قديم، فالماضي يظهر في أغلب الأحوال بتلك الصورة المثالية في نظر الكثيرين، ولاسيما حين لا يلبي الحاضر طموحات الإنسان، ثمَّ إنَّ الجديد قد يتطلَّب كدّاً ذهنياً لتفهمه، وفضلاً عن ذلك فإنَّ " الإنسان مجبول على إيثار الراحة وحب الهدوء، فإنَّه يكون دون ريب مجبولاً على نبذ الجديد ضناً براحته، وحرصاً على هدوئه "[2].

ومهما يكن من أمر، فإنَّ مسألة القديم والجديد من الأمور النسبية، فما نعده اليوم جديداً سيصبح قديماً لا محالة بمرور الأيام، وما من جديد إلا وقوبل بالرفض أول أمره، قال أحد الكتّاب: " نعم لقد كانت بعض التقاليد في يوم من الأيام ابتداعاً، ولكنها رسخت وتأصلت حتى أصبحت من العرف المرعي شأنها في ذلك شأن العرف الخلقي والاجتماعي... "[3]، وهكذا حينما يرسخ العرف الأدبي كرسوخ العرف الاجتماعي، فإنَّه لا بدَّ من أن يكون قد استجاب لهموم قطاعات واسعة من الشعب، إلى الحد الذي جعل أحد الباحثين يربط مسألة القديم والجديد في الأدب بمسألة الصراع الطبقي، فالاتجاه التقليدي لطالما ارتبط بقيم الطبقة السائدة[4]، لكن هذا الرأي ليس دقيقاً دائماً، ولاسيما وأنَّ الشواهد قد دلَّت على أنَّ الشعر التقليدي قد حظي بإعجاب أناس لا تجمعهم طبقة واحدة، ولا يردون من مشرب واحد، فضلاً عن ذلك فإنَّ هذا النوع من الشعر " ما زال أثيراً لدى كثيرين من الشعراء والشبان، ولم تزل صناعتهم الفنية من طراز ما كان ينسجه الأقدمون من حيث الأخيلة والتصوير، ومن حيث الفن والأداء "[5]، ولنا في مراثي الإمام الحسين خير مثال على ذلك، فما زال شعراء هذا الفن سائرين على خطى من سبقهم، وهم يرددون ألحان الولاء الحسيني، ولم يكن الجامع بينهم سوى سور القضية الحسينية.

وبالعود إلى مراثي النصف الأول من القرن العشرين – موضوع دراستنا – نجد أنَّ التقليد كان يعكس ظرفاً اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً مرَّ به العراق آنذاك، مما خلق مستوى من التفكير " لم يكن مهيَّئاً له أن يزدهر في مجتمع متخلف يعاني من الكبت الفكري والاجتماعي، ومن الخضوع لسلطان التقاليد"[6]، الأمر الذي يجعل الحكم على تقليدية عدد من تلك المراثي بالإيجاب أو السلب مجانباً للموضوعية، فالتحليل الموضوعي لقضية أدبية معينة، لا بدَّ أن يأخذ بنظر الاعتبار الظروف التاريخية، والاجتماعية التي تفاعلت في بلورة تلك القضية.

ومن الأمور التي كاد الاتفاق ينعقد عليها أنَّ الشعر العراقي في النصف الأول من القرن العشرين – ولاسيما في بدايات ذلك القرن – كان مديناً للقيم الأدبية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر الذي سبقه، فقد كان الشعر العراقي في القرن التاسع عشر يعكس صورة المجتمع آنذاك، فإنَّ مجتمعاً يعيش في عزلة عن العالم الخارجي، ويعاني أبناؤه من البطالة التامة، لسوء إدارة الدولة آنذاك، لا بدَّ أن يعاني أفراده العوز المادي، وتفشي الأميَّة، وتردي الحالة الصحيَّة[7].

ومن ثمَّ فإنَّ مجتمعاً كهذا لا يمكن أن ينتج أدباً مثمراً وفعالاً، فإنَّ الإبداع لا يجتمع مع التخلف والجوع بل يستحيل أن يجتمع الإبداع والتخلف.

فكان من الطبيعي أن تغلب الركاكة على الشعر العراقي في هذا القرن، وأن يكون شعراً نخبوياً لا يمثل الواقع بشيء، معتمداً على اجترار الماضي الشعري[8].

وإذا كانت مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في مطلع القرن العشرين قد ورثت شيئاً من تلك السلبيات، فإنها في الوقت نفسه قد ورثت نبرة الرفض المتجدد بتجدد الذكرى الحسينية من مراثي القرن التاسع عشر، فإذا كان الشعر قد تحوَّل إلى وسيلة رزق وكسب، فغاب الصدق فيه، فإنَّ مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) حافظت على طابع الصدق المعبر عن التزام الشعراء لقضايا دينهم، من دون أن يكون هناك سبب مادي يدفعهم لذلك، سوى الإخلاص في الولاء لأهل البيت.

وإذا كان النقاد يرون في التقليدية أمراً سلبياً يؤاخذ عليه الشعراء[9]، فإنَّ تقليدية المراثي الحسينية كانت أمراً مختلفاً لسببين:

الأول: انَّ موضوع الإمام الحسين يتميَّز بالثراء، وكثرة التفاصيل، وغزارة الموضوع، وتنوع المفاصل المؤثرة فيه، الأمر الذي يحتم على الشعراء التنوع الشعوري، فالشاعر وإن كان مقلداً في البناء والشكل الفني، فإنَّه من المستبعد أن تتشابه استجاباته العاطفية للمواقف المؤثرة في واقعة الطف، مع استجابات غيره من الشعراء، ولاسيما أنَّ الأمر يتعلق بمعتقده الديني.

الثاني: تميَّزت مراثي الإمام الحسين، وبخاصة في العراق، بالنفس العربي الخالص، فإذا كان فيها شيء من التقليد، فإنما يعزى ذلك إلى كونها تمثل امتداداً لأنموذج عالي المستوى في الشعر العربي، تمثل في مراثي دعبل الخزاعي، والسيد الحميري، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي[10]، فإنَّ تكرار ألفاظ الشكوى من الزمان، والتحريض على أخذ الثأر، والمطالبة به؛ يمكن أن يكون دليلاً واضحاً على الحرمان والهوان اللذين كان الشعب يعيشهما يومذاك، وربما كانت تلك الألفاظ بمنزلة ناقوس الخطر لأمة كادت هويتها العربية تتلاشى في ظل قرون طويلة من الاحتلال الأجنبي.

ولعلَّ خير دليل على ما تقدَّم؛ أنَّ تلك المراثي طالما تغنَّت بأنصع صفحات التاريخ العربي، وأكثرها إشراقاً – صفحة الثورة الحسينية وموقف سيد الشهداء فيها – وكأنَّ شعراء هذه المراثي يذكِّرون الأمة بأنَّ لها ماضيا مشرفا في زمن كان فيه شعراء السلطة يتمنون تقبيل أيدي الولاة[11]، ولثم أقدامهم[12].

الاتجاه التقليدي


يمكن القول: إنَّ سمات التقليد السابقة قد شكَّلت اتجاهاً واضحاً في هذه المراثي في الحقبة المحصورة بين 1900 – 1950 م، ولا ضير في أن نطلق عليه تسمية الاتجاه التقليدي (الكلاسيكي)، وبخاصة أنَّ الشعر العراقي قد عرفَ هذا الاتجاه خلال هذه الحقبة ممثلاً بطائفة كبيرة من الشعراء[13].
ويمكن أن نلحظ ملامح الاتجاه التقليدي في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) عند مجموعة من الشعراء، استمروا في العطاء الشعري إلى منتصف الفرن العشرين، منهم: كاظم آل نوح، ومير علي أبو طبيخ، ومحمد الشيخ بندر، ومحمد حسن سميسم، ومحمد علي اليعقوبي، وعبد الحسين الحويزي، وعبد المنعم الفرطوسي، والسيد رضا الهندي، وجواد الشبيبي، وإبراهيم حموزي، وغيرهم.

فقد اقتصر الرثاء عند هؤلاء الشعراء على غاياته الرثائية الخالصة، فكان شعراً وصفياً موضوعياً أكثر منه شعراً ذاتياً، فقد طغى الوصف الموضوعي لما جرى في كربلاء على صوت الشاعر، حتى كاد يختفي في زحمة صهيل الخيول، وصليل السيوف، وأصوات النساء الثكالى، وصراخ الأطفال اليتامى.

يقول كاظم ال نوح[14]: (من الطويل)

وأضرمت النيران في خيم الهدى *** وفرت بنات المصطفى خوف اشعالِ
مروعة راحت ببيداء قفرة *** تنادي لابطال حماة واقيالِ
بني الموت صبرا للدفاع عن الحمى *** وعن فتيات حاسرات واطفال

ان هذه الأبيات تكشف عن نفس تقليدي ظل مسيطرا على عقول عدد من الشعراء مثل كاظم ال نوح الذي قال فيه احد النقاد انه كان " مثالا حسنا للمدرسة التي عاشت في العصور الوسطى والتي انتهت بمولد الرصافي والزهاوي الا انها بقيت تحيا على نطاق ضيق في بعض الدوائر الدينية "[15].

هذا أنموذج من المراثي التقليدية، تبدو فيه اللغة الحماسية واضحة، للمطالبة بأخذ الثأر، والتحريض عليه، وطلب الانتقام، أما صوت الشاعر، فلم يعد له وجود فيها، لكن هذه اللغة الخطابية، والحماسة العالية قد تفسر بما كان يعانيه الشعراء آنذاك من ظروف اجتماعية وسياسية قد تنعكس على رؤاهم للأشياء والوجود.

وليس كل المراثي التي نلحظ فيها طابع التقليد قد اتسمت بهذه السمات، إلى الحد الذي يمكن القول معه إنَّ الاتجاه التقليدي لم يكن تقليدياً خالصاً، فقد نجد – وهو كثير – ملامح التجديد عند شعراء من هذا الاتجاه، مثل: محمد حسن أبي المحاسن، والسيد رضا الهندي.

يقول السيد رضا الهندي[16]: (من الكامل)

ظمآن ذاب فؤاده من غلةٍ *** لو مسَّت الصخر الأصم لذابا
لهفي لجسمك في الصعيد مجرداً *** عريان تكسوه الدماء ثيابا
ترب الجبين وعين كل موحد *** ودَّت لجسمك لو تكون ترابا
لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا *** يكسوه من أنواره جلبابا

نجد في هذه الأبيات صوت الشاعر واضحاً من خلال تلهفه، وتحسره لما أصاب الحسين (عليه السلام)، ونجد اللغة هادئة، ابتعدت عن الخطابية والمباشرة من خلال الخيال المتجسد في الصورة الواردة في البيتين الثاني والثالث.

ومن السمات الظاهرة في مراثي شعراء هذا الاتجاه أيضاً عدم الخوض في مشكلات المجتمع، كالذي نلحظه في مراثي الاتجاه التجديدي، ولعلَّ من أسباب ذلك؛ التقليد الأدبي المتوارث، فلم يألف الشعراء في القرون الماضية الخوض في مسائل جانبية في الرثاء.
وربما كان السبب في ذلك سياسياً، خاصاً بقناعات عدد من الشعراء، فقد كان هؤلاء يرون في الدولة العثمانية ممثِلة لدولة الإسلام، فكان من الطبيعي أن لا نأمل من هؤلاء نقداً لسياستها، وإظهاراً لمعاناة الشعب، بل إنَّ هؤلاء الشعراء يرون في أنفسهم لسان حال هذه الدولة يفرحون لانتصاراتها، ويحزنون حينما يصيبها أذىً، فقد ابتهج كاظم آل نوح[17]، ومحمد علي اليعقوبي[18]، ومحمد حسن أبو المحاسن[19] لانتصار الأتراك في موقعة الدردنيل ضد قوات الائتلاف سنة 1915، وكان موقف هؤلاء الشعراء ينم عن حرصهم الشديد على الإسلام، إذ اعتقدوا أنَّ دولة آل عثمان كانت تمثل صورة من صور الخلافة الإسلامية، ونصرها في الدردنيل نصرٌ للإسلام.

ومما يشبه هذا الموقف ما نجده عند شعراء آخرين، كعبد الحسين الحويزي الذي رأى في دولة الإنكليز الدولة المثالية، فراح يمجدها، ويمدح حكامها[20].

ومن صور التأثر الأخرى في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الحقبة تقليد البناء الفني للقصائد العربية، فنجد المرثية مكونة من: مقدمة، وتخلص، وغرض، وخاتمة، ونجد الشعراء في مقدماتهم يقفون على الأطلال، ويبكونها ويتذكرون الصحب والخلان، ويتغزلون بصويحباتهم اللاتي ابتعدن عنهم، ويبكون أيام شبابهم، مثلما فعل الشعراء من قبل.

ويظهر التقليد أيضاً في الألفاظ والتراكيب والأساليب، فقد تصادفنا ألفاظ غريبة مستمدة من معجم الشاعر القديم، ربما احتيج في تفسيرها إلى معجم لغوي.

أما الأساليب، فقد كانت مقدمات هذه المراثي غالباً ما تبدأ بالأمر (استيقاف الصحب)، أو النصح، وتردد كثيراً أسلوب التحسر من خلال ألفاظ مثل (لهفي، أسفي).

ومن الصور النمطية الموروثة في رثاء هذه الحقبة الفنون الشعرية الأخرى غير القصائد، مثل الرباعيات[21]، والخماسيات[22]، والمشطرات[23]، والتواريخ الشعرية[24]، والمنظومات الشعرية[25]، وإن لم تشكل ظواهر بارزة في مراثي هذه الحقبة.

ولعلَّ ما تقدَّم ذكره من خصائص مراثي الإمام الحسين في هذه الحقبة، التي غلب عليها التقليد، كان نتيجة طبيعية، لأن أغلب تلك المراثي كانت شعراً منبرياً.

والشعر المنبري: هو ذلك النوع من الشعر الذي يكتب بقصد إلقائه على المنابر، ويوجه لجمهور واسع من الناس، ويكون ملتزماً بقضايا معينة، ويتطلب من الشاعر إمكانات مميزة في الإلقاء والإقناع[26].

ففي وقت كادت تنعدم فيه وسائل التعليم في المجتمع العراقي خلال العهود السابقة، كان المنبر الحسيني، وسيلة مهمة في تثقيف الناس بأمور الدين والدنيا، وقد حافظ على دوره في إحياء الذكرى الحسينية، والإرشاد، حتى بعد أن ظهرت المدارس في النصف الأول من القرن العشرين، وكان للشعر – وما زال – حضورٌ واضحٌ في المنابر الحسينية، لما له من تأثير في النفوس، لذا كان له صدى جماهيري واسع حينما يلقى على المنابر لتصويره الجوانب المؤثرة في واقعة كربلاء، وما جرى فيها من مآسٍ لأهل البيت (عليهم السلام)[27]، ويبدو ذلك واضحاً في المناسبات الدينية، وبخاصة في شهر محرَّم الحرام من كل عام، وليس من المبالغة القول بأنَّ تأريخ الأدب العربي، وفي كل العصور التي مرَّ بها لم يشهد انسجاماً، وتلاحماً بين الشاعر وجمهور المتلقين، مثلما حصل في مراثي الإمام الحسين، حتى تكاد تتحول تلك المراثي – في أحيان كثيرة – إلى خطابات حماسية، تثير العواطف عند إلقائها على المنبر، ومن الراجح أنَّ هذا الأمر لا يمكن حصوله لو لم يكن الشاعر مشاركاً لذلك الجمهور في عواطفه.

وفي الحقيقة أنَّ حبّ الحسين حاز قلوب الناس، حتى خيِّل لمن يرى ما يجري في شهر محرم أنَّ تلك القلوب خلت إلا من ذكر الحسين، وربما كان هذا مصداقاً لقول النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):

"اللهم أني أحب حسيناً فاحبه واحب من يحبه"[28].

مما دفع عدداً من الشعراء إلى التشديد على الصور المأساوية في مقتل الحسين؛ لإثارة الجماهير، مثل تصوير الإمام في حال من الضعف والانكسار، كقول الشاعر كاظم سبتي[29]: (من الرمل)

لمن الرأس على رمح طويلْ *** مال والعرش له كاد يميلْ
ولمن من حوله تلك الرؤوسْ *** كمصابيح تجلَّت وشموسْ
يا له يوم صرت يوماً عبوسْ *** جلَّ فاهتزَّ له عرش الجليلْ
يا له يوم به الجن بكتْ *** لدماء فيه هدراً سفكتْ
كم به ربة خدر هتكتْ *** وسرت للسبي من غير كفيلْ
لمن الأطفالُ صرعى كالنجوم *** ولمن فوق الثرى تلك الجسوم
حولها تجثو نساء وتقوم *** تملاً البيداء نوحاً وعويلْ

والقصيدة كلها تجري على هذا النسق المأساوي، المراد منه إثارة عواطف المستمعين.

والحقيقة أنَّ ما جرى في كربلاء على أهل بيت النبي، أشد قسوة مما يذكره الشعراء، لكن الوجه الآخر للمشهد الحسيني في ذلك اليوم كان أكثر إشراقاً، وأعذب رواية، فالحسين (عليه السلام) على قلَّة أنصاره، وكثرة أعدائه تحدّى الخصم قائلاً:

" لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"[30].

ثمَّ إنَّ هذا اللون من الرثاء لا يعكس الصورة الكاملة ليوم كربلاء، لذا كان الاقتصار عليه من لدن الشعراء موضع رفض بعض الكتاب[31]، لكنه في الوقت نفسه كان استجابة لما يتطلبه الموقف من إيقاعات خاصة، فإنَّ " الإيقاع عنصر تأثيري فعال في الشعر الذي ينشد في المحافل العامة، ويتخذ طابع القصائد الخطابية، ولذلك لا زلنا نحس بأنَّ القصيدة القائمة على وحدة البيت هي القصيدة التي تصلح للإلقاء في المحافل، والتأثير في الجماهير "[32].

وإذا ما أتينا إلى ما يتطلبه هذا النوع من المراثي، نجد أنه يعتمد على جملة أمور، من أهمها أن يكون هناك جمهور مستمع في الغالب، أو مفترض أحياناً، وأن يلقى بطريقة مؤثرة من خلال توظيف إمكانات الصوت والانفعال المناسب، ولا بدَّ أن يكون الجمهور مهيئاً لتقبل الآراء والاتجاهات الفكرية التي تتضمنها المراثي، وأن تكون تلك الأفكار والمعاني بمستوى الجمهور في أغلب الأحيان، وهو الأمر الذي يتطلب من الشاعر أن يكون أشبه بالخطيب[33].

وقد توافرت تلك المتطلبات في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) التقليدية، فهي وإن لم تخل من اجترار القديم إلا أنها كانت مندمجة في مشكلات المجتمع، أو على الأقل استطاع شعراؤها تلبية ما يتطلبه الذوق، فقد "تتحكم بالذوق عوامل... لا علاقة لها بالجمال إطلاقاً منها الشعور الجمعي بالولاء لقبيلة، أو مذهب ديني، أو أخلاقي، فإنَّ حكم الناس على الآثار الفنية كثيراً ما يتأثر بهذا الشعور الجمعي "[34].

الاتجاه التجديدي


وفي مقابل الاتجاه التقليدي، كان هناك اتجاه آخر في رثاء الإمام الحسين، يسير إلى جانب الاتجاه الأول، أو يتداخل معه أحياناً، يمكن أن نطلق عليه (الاتجاه التجديدي).

كان هذا الاتجاه في الرثاء الحسيني جزءاً من اتجاه عام ساد الشعر العراقي بعد مطلع القرن العشرين، نتيجة لعوامل ساعدت على ظهوره، وهذه العوامل منها ما هو عام شمل المنطقة العربية، وتمثَّل بالنهضة الأدبية العربية التي ابتدأت بجهود محمد علي باشا في إرسال البعثات العلمية إلى أوربا، وتأسيس مطبعة بولاق، ونشر الكتب القديمة، ونشوء تيار يهدف إلى إحياء التراث العربي، فضلاً عن الاطلاع على الثقافات الأجنبيَّة[35].

 وهذه العوامل أتاحت للأدباء العرب فرصة الاحتكاك بالثقافة الغربية، ودفعتهم إلى الموازنة بين المجتمع العربي المتأخر والمجتمع الغربي المتقدم، وصاروا يسمعون بأنواع من الشعر لم يألفوها في الشعر العربي، مثل الشعر التمثيلي، والقصصي، والملحمي[36].

وبعد أن وقعت المنطقة العربية تحت الاحتلال الأوربي، ظهر الوعي القومي واضحاً، متمثلاً في الثورات بوجه المحتلين، لاسيما ثورة 1919 في مصر، وثورة 1920 في العراق، مما كان عاملاً مهماً في نشوء أدب منغمس في قلب الأحداث[37].

أما الوضع في العراق، فقد كان انفتاح العراق في مطلع القرن العشرين على العالم الخارجي بفعل وصول الصحف والمطبوعات، وسفر عدد من الأفراد إلى الخارج عاملاً في تنامي عدد من الاتجاهات، كالقومية والوطنية والعلمانية[38]، فثورة الحسين بن علي في الحجاز سنة 1916 كانت سبباً في ازدياد الشعور الوطني عند العراقيين[39]، وكان وصول الإنكليز إلى المنطقة باحتلالهم العراق سنة 1918 سبباً في المقارنة بين نمط حياة الغرب، والوضع الذي كان يعيشه العراقيون، فقد " أيقظ فتح الإنكليز بمظاهره المادية الفكر العراقي، برؤيته مستوى عالياً من الحياة، لم يره عند جنود الدولة العثمانية، كالنظافة والأناقة.. "[40].

وكان الأدب العربي في العراق، لاسيما الشعر قد تفاعل مع هذه المتغيرات "فابتعد عن خدمة السلطان والوالي والحكومة، واتجه للشعب، وخدمته، وأصبحت للشعب منزلة محترمة، وبدأ الشعراء، وقادة الرأي في معالجة مشكلاته الاجتماعية والسياسية، لرفع شأنه، وخلق شعب قوي صحيح، غني، ومثقف"[41]، وأصبحت قضايا الشعب تجد صداها في أكثر الأغراض الشعرية، ولاسيما في مراثي الإمام الحسين عند الشعراء الذين آمنوا بأن شخصية الإمام الحسين، لابد أن تكون ملهماً لشعب ينشد استقلاله، ليعيش برفاهية وسلام، حتى أصبح سمة واضحة عند شعراء مثل محمد صالح بحر العلوم، وطالب الحيدري، ومظهر إطيمش، وخضر عباس الصالحي، وصالح الجعفري، وعبد الحميد السماوي، والسيد محمد جمال الهاشمي، والشيخ عبد الغني الخضري، وإبراهيم الوائلي، وعباس الملا علي، فلم يعد الإمام الحسين (عليه السلام) موضوع بكاء فحسب عند هؤلاء الشعراء، وإنما أصبح موضوع تأمل، وتوظيف لخلق حالة من الوعي في نفوس الناس تستمد قوتها من صلابة موقف الإمام في كربلاء. يقول محمد صالح بحر العلوم[42]: (من الكامل)

قسماً بيومك وهو في تاريخنا *** دامٍ سنبقى لا نهادنُ أحوبا[43]
نمشي على هَْدىِّ الأباةِ ونزدري *** بالنائبات ولا نفوِّت مطلبا
ونقود ركب الشعب لاستقلاله *** حتماً وإن تكن المشانقُ مركبا
ولنا الشهادةُ في سبيل دفاعنا *** عن حقنا–كالشهدِ–تحلو مشربا
فالموت في طلب الكرامة منهل *** عذْبٌ، وميْتٌ من يعيش معذَّبا

يحاول الشاعر استمداد عزمه من عزم الإمام الحسين (عليه السلام)، ففي سبيل الاستقلال ترخص النفوس، وتستهين بالمشانق، كما استهان الإمام الحسين بالموت في سبيل العقيدة. وقد كانت حياة بحر العلوم مصداقا لما قاله في ابياته المتقدمة فقد قاسى في سبيل الدفاع عن الشعب الاضطهاد والسجن والمطاردة[44].

وإذا كان بحر العلوم يستسهل الموت في سبيل حرية الشعب، فإنَّ طالب الحيدري يرى في تاريخ الإمام الحسين (عليه السلام) أنشودة لكل الثائرين، يقول[45]: (مخلع البسيط)

دم الإمام الشهيد نورٌ *** لنا وتاريخه نشيدُ
تصيح أيامه علينا *** تحرروا أيها العبيدُ
سدنا على غيرنا قديماً *** واليوم قد سادنا المسودُ
فأين تاريخنا المجيد *** وأين إيماننا الوطيدُ
ألا حسام ألا قناةٌ *** ألا حصاةٌ ألا عمودُ


إذ يرى الشاعر أنَّ تأريخ الإمام الحسين (عليه السلام) - الذي ضحى بنفسه، وسقط صريعاً – يمثل موقفاً رافضاً يستنكر على الشعب سكوته في ظل الاحتلال الأجنبي. فالشعر عند الحيدري يعكس "مشاعرا [كذا] وطنية نبيلة كان يحملها الشاعر لهذا الشعب وهذا الوطن في الوقت الذي كان يعز فيه المخلصون"[46].

أما صالح الجعفري فيرى أنَّ الشعب قد خان مبادئ الحسين حين سكت عن جرائم اليهود في فلسطين، يقول[47]: (من الكامل)

أعزز عليك أبا الفداء بأننا *** خنّا بنيك قرابة وجوارا
ما ذرَّ منهم ثابت في تربةٍ *** إلا شحذنا منجلاً وشفارا
أَمِنوا اليهودَ وغدرهم لكنَّهم *** لم يأمنونا مسلمين نصارى
.................
والمسجد الأقصى الشريف مصدع الـ *** ـفقرات لا أسساً ولا أسوارا

فالشاعر يسمو بشعوره الإسلامي، والقومي لتكون فلسطين هاجسه حينما يتذكَّر مأساة الحسين، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه، حينما يستحضر الشاعر موقف الإمام الحسين الذي كان من أجل عزة الإسلام. والابيات تعكس " المرارة والخيبة في انتاج الشعراء لتاخر بلادهم في السياسية والعلم"[48].

أما عبد الحميد السماوي، فإنَّه يستنهض العراقيين في إحدى مراثيه الحسينية، قائلاً[49]: (من الكامل)

فهلمَّ يا بن الرافدين وإن هُما *** جفّا أفاض لك الشعورُ روافدا
لا زلت مضطرب الهواجس صامت الـ *** ـأعضاء تستوحي خيالاً شاردا
خفِّض عليك فلا أراك بحاجةٍ *** حتى تقيم على نبوغك شاهدا
أتعج خلف المدلجين وطالما *** ابتعثتك جالية العوالم رائدا
كم صرخةٍ صعدتها فتقاطرت *** خطباً يرن بها الصدى وقصائدا

يأبى الشاعر على العراقيين إذعانهم لغيرهم، وهم أصحاب ذلك التاريخ الطويل الشاهد على نبوغهم الحضاري.

أما السيد محمد جمال الهاشمي فيقول في إحدى مراثيه، مستحضراً مأساة فلسطين [50]: (من الطويل)

على مهلكم يا تائهين فإنَّما *** طريقكم وعرٌ وصحراؤكمْ قفرُ
وراءكم ردوا فقد عبثت بكم *** أضاليلُ عُرْفٍ كل أحكامه كفرُ
أفيقوا فإنَّ العلم أبدى نواحياً *** من الحق أخفاها التعصب والغدرُ
وخلّوا فلسطيناً وإسعافها فقد *** أقامت لحل العقد عقادَها مصرُ

فهل أدلّ على حال الأمة بعد ضياع فلسطين من وصف الشاعر للعرب بالتائهين، الذين لم يستوحوا تاريخ أبطالهم.

أما الشيخ عبد الغني الخضري، فيبدي أسفه، لأنَّ الأمة تهاونت في تطبيق مبادئ الإمام الحسين (عليه السلام)، يقول الشيخ عبد الغني الخضري[51]: (من الوافر)

أبا الشهداء كْم لك قد أضعنا *** تعاليماً قد ازدهرت خلالا
كأدراج الرياح مضت هباءً *** وقد عادت بأجمعها خيالا
كإنْ من أجلها ما ذقت مراً *** وما صافحت أسيافاً صقالا
فكم كسرَ العدى لك من ضلوعٍ *** وكم لك من دمٍ في الأرض سالا
قضيت العمَر في جد وسعي *** تناضل دائماً عنها نضالا
فوا أسفاً على تلك المبادي *** أضعناها فضيعنا الكمالا

فالشاعر يقرن تطبيق مبادئ الثورة الحسينية بكمال الأمة، لكنه يبدي أسفه لحالها، بعد أن أهملت خطى سيد الشهداء، وضيَّعت بذلك شيئاً من كرامتها.

أما الشاعر إبراهيم الوائلي في إحدى مراثيه الحسينية فإنَّه يتساءل عن تأريخ مضاع، وعدل عبثت به الأهواء، فيقول[52]: (من البسيط)

صهر النبوة إنَّ العدل قد عبثت *** به المطامع واجتاحته أهواءُ
أين الجهاد الذي كانت مواكبه *** خفاقة النصر يحدوهنَّ أكفاءُ
وأين سيف مشت والموت ضربته *** وطعنة في مدب الشر نجلاءُ
قل للكتائب تنهضْ من مراقدها *** فقد خلت من صهيل الخيل بيداءُ

فبعد أن كان الشعراء التقليديون ينادون بأخذ الثأر والتحريض، فإنَّ الشاعر إبراهيم الوائلي يدعو إلى الجهاد لاستتباب العدل، وإحقاق الحق.

ورأى الشعراء في التعثر الذي أصاب الأمة، في طريقها إلى تحقيق أهدافها في التوحد والاستقلال باعثاً على كفكفة الدموع، والثورة، فيقول عباس الملا علي[53]: (من الخفيف)

لا يسرّ الحسينَ أنك تذري *** فوق خدَّيك أدمعاً مدرارا
نادباً ضارباً تجاري الثكالى *** أو عويلاً به تباري الصغار
بل يسر الحسينَ كونك شهماً *** باسلَ القلبِ أيّداً مغوارا[54]
لتصدَّ الجيوشَ إن عمَّ خطبٌ *** أو تصونَ الديارَ ممن أغارا
بل يسر الحسينَ لونك حراً *** طاهر الذيل تنجب الأحرارا

فإنَّ البكاء والعويل دليل ضعف واستسلام – مثلما يرى الشاعر – في وقت كانت الأمة بحاجة إلى الرجال الأشدّاء الذين يصدون الأعداء، مثلما كان الحسين بوقفته في كربلاء، وهو يجابه عدواً أكثر عدداً وعدَّةً مما كان مع الإمام من الأنصار والسلاح.

وبعد أن كان صوت الشاعر يغيب في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) التقليدية، أصبح واضحاً في مراثي الاتجاه التجديدي من خلال التأملات الذاتية التي تأتي على شكل معاناة يحاول الشاعر التنفيس عنها بذكر واقعة الطف، يقول خضر عباس الصالحي[55]: (من مجزوء الكامل)

يا ابنَ الرسول ولم تزلْ *** ذكراك في طي الصدورِ
وكأنَّها أغرودةٌ *** عذراء تطفحُ بالعطورِ
رتلتُ فيك مشاعري الـ *** ـغرقى بأشذاء الزهورِ
.................
وبآهتي الرعشى لها *** ذكرى مدمّاة السطورِ
فيها انطوت مأساتك الـ *** ـكبرى على مرِّ العصورِ

فكربلاء – عند الصالحي – ذكرى معطرة، تجول في ذاكرته بأريج الزهور، لكنها مع ذلك آهة حزينة مدماة بدماء سيد الشهداء.

أما مظهر اطيمش فيمزج تأملاته الحزينة من ذكرى كربلاء الكئيبة، وتاريخ العرب المشرق، فيقول[56]: (من الكامل)

يا أيها الذكرى الكئيبة والتي *** فيها أذبتِ من الأسى أحشائيا
ما عدتِ إلا واللواعج أيقظتْ *** فيَّ الهمومَ وعاد قلبي كابيا[57]
عاهدتُ نفسي أنْ أصوغَ تحرقي *** نغماً بأسباب التحرق حاليا
حيث العروبةُ بعد بيض صحائفٍ *** تبلى الحياة ولم يزلن بواقيا

إنَّ حزن الشاعر المتجدد بتجدد ذكرى كربلاء، قد صار نغماً يحلو للشاعر ترديده، لأنه يرى في وقفة الحسين صفحة من صفحات العروبة المشرقة، التي لا تزال باقية.

وقد يصل الشاعر بتأمله لواقع الثورة الحسينية إلى أبعاد ذاتية عميقة، تعبر عن فلسفة الشاعر الوجدانية، وموقفه تجاه قضية الحسين، يقول محمد مهدي الجواهري[58]: (من المتقارب)

تمثَّلتُ يومك في خاطري *** وردَّدتُ صوتَك في مسمعيِ
ومحَّصت أمرك لم أرتهبْ *** بنقل الرواةِ ولم أخدعِ
وقلت لعلَّ دويَّ السنينِ *** بأصداءِ حادثِك المفجعِ
وما رتل المخلصون الدعا *** ة من مرسلين ومن سجَّعِ
.......
إلى أن أقمت عليه الدليـ *** ـل من مبدأ بدم مشبعِ
فأسلم طوعاً إليك القياد *** وأعطاك إذعانة المهطعِ
فنوّرتَ ما أظلم من فكرتي *** وقوَّمت ما اعوجَّ من أضلعي
وآمنتُ إيمان من لا يرى *** سوى العقلِ في الشكِ من مرجعِ
بأنَّ الإباءَ ووحي السماءِ *** وفيض النبوَّة من منبعِ
تجمع في جوهرٍ خالصٍ *** تنزَّه عن عرضِ المطمعِ

فالجواهري يريد أن يكون إيمانه بقضية الإمام الحسين إيمان عقل، لا إيمان عاطفة، فما يراه من ترتيل المخلصين ونواح النساء ليس كافياً لأن يكون دليلاً يركن إليه الشاعر، ثمَّ إنَّه على وعي بما فعلته السياسة لقرون طويلة، فيتولد عنده الشك لذلك، لكنه ليس شك المرتاب، بل هو الشك الموصل إلى الحقيقة، وحينما ثبت لديه الدليل المتمثل بالمبدأ الحسيني الذي روي بدماء الشهيد، آمن الشاعر إيمان مخلص، لا إيمان أغراض ومطامع.

وإذا كانت مراثي الاتجاه التقليدي يغلب عليها الطابع الحماسي، وتدعو إلى أخذ الثأر، والتحريض المستمر، واستنهاض الإمام المهدي (عليه السلام)، فإنَّ مراثي هذا الاتجاه اتسمت بالهدوء، واللهجة المتزنة، ولنا في قصيدة السياب (خطاب إلى يزيد) مثال على ما تقدَّم، يقول فيها[59]: (من الكامل)

مثَّلت غدرك فاقشعرَّ لهولهِ *** قلبي وثارَ وزلزلت أعضائي
واستقطرت عَيْني الدموعَ ورنَّقت *** فيها بقايا دمعة خرساءِ
يطفو ويرسب في خيالي دونها *** ظلّ أدق من الجناح النائي
حيران في قعر الجحيم معلق *** ما بين ألسنة اللظى الحمراءِ
أبصرت ظلَّك يا يزيد يرجُّه *** موج اللهيبِ وعاصف الأنواءِ
رأس تكلَّل بالخنا واعتاض عن *** ذاك النضار بحيَّة رقطاءِ
ويدان موثقتان بالسوط الذي *** قد كان يعبث أمس بالأحياءِ

فالشاعر يوجه اللوم إلى يزيد، مشيراً إلى صفة الغدر في البيت الأول، وربما كان ذلك إيماءة من الشاعر إلى غدر معاوية في صفين، واصلاً بين ذلك الفعل الشنيع، وصورته، وهو يراه معلقاً في قعر جهنم جزاءً لما ارتكبه.

ومثلما لم يكن الاتجاه التقليدي تقليدياً محضاً، فإنَّ الاتجاه التجديدي قد شابته أحياناً ملامح التقليد، يقول الجواهري[60]:  (من المتقارب)

فداءُ لمثواك من مضجعِ *** تنوَّر بالأبلج الأروعِ
بأعبق من نفحات الجنا *** ن روحاً ومن مسكها أضوعِ
ورعياً ليومك يوم الطفوف *** وسقياً لأرضك من مصرعِ

فعلى الرغم من الصورة الجديدة التي جاء بها الجواهري في هذه المرثية، ظلَّ متأثراً بصور القدماء، " فالدعاء بالسقي والرعي ما زال ماثلاً "[61]، وكان من عادة القدماء الدعاء بهما، لقلَّة موارد الماء في جزيرة العرب، يقول ذو الرمة[62]: (من الطويل)

ألا يا اسلمي يا دار ميَّ على البلى *** ولا زال منهلاً بجرعائك القطرُ

وحتى حينما يقول الجواهري[63]: (من المتقارب)

شممت ثراك فهبَّ النسيمُ *** نسيمُ الكرامةِ من بلقعِ
وعفَّرت خدي بحيث استرا *** ح خدّ تفرَّى ولم يضرعِ

فإنَّ هذه الصورة قد وردت في الشعر القديم، فمما يشبه هذا القول قول الشريف الرضي[64]: (من الطويل)

شممت بنجدٍ شيحةً حاجريةً *** فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدي

واستناداً إلى ما تقدم يمكن القول بأنَّ مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) عند الشعراء المجددين، كانت أدباً ملتزماً[65]، فقد تبنت قضايا الجماهير، وعبَّرت عن همومها، فإذا كان " الالتزام مرتبطاً بالعقيدة منبثقاً عنها من شدة الإيمان بها"[66]، فإنَّ القضية التي آمن بها هؤلاء، قضية الشعب، فإنَّ شعراء النصف الأول من القرن العشرين كانوا على وعي بأنَّ الأدب قادر على تحريك الطاقات الكامنة في الجماهير، ومن ثمَّ فإنَّ الالتزام عند هؤلاء يعني " المشاركة في القضايا السياسية والاجتماعية "[67] إدراكاً منهم بالمسؤولية تجاه الجماهير، فجاءت مراثيهم مزيجاً من الرثاء، واستنهاض الجماهير، وزرع الثقة في النفوس بربط الماضي بالحاضر لإضفاء القوة والثراء عليه، فكان الإمام الحسين (عليه السلام) الرمز الحي لذلك الماضي العريق، فهو رجل دين لا طائفة معينة، وهو كذلك رمز لكل قيم الخير.

ـــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: لغة الشعر بين جيلين: 25.
[2] الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي: 82 – 83.
[3] الأسس الفنية للنقد الأدبي: 41.
[4] ينظر: الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي: 77.
[5] الأسس المعنوية للأدب: 83.
[6] لغة الشعر الحديث في العراق: 143.
[7] ينظر: الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر: 76.
[8] ينظر: تاريخ الأدب العربي في العراق: 2 / 341، والشعر العراقي؛ أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر: 37، وتطور الشعر العربي الحديث في العراق: 17، ولغة الشعر الحديث في العراق: 119.
[9] ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 17.
[10] ينظر: لغة الشعر بين جيلين: 25.
[11] يقول الشاعر صالح التميمي في مدح الوالي علي رضا: (من البسيط)
من لي بتقبيل كفٍ صوب عارضها *** يزري بواكف صوب العارض الهطلِ
ديوان الشيخ صالح التميمي: 101.
[12] يقول عبد الغفار الأخرس في مدح الوالي داود باشا: (من الطويل)
فألثم أقدام الوزير التي لها *** إلى غاية الغايات ممشى ومهيع
الطراز الأنفس في شعر الأخرس (ديوان شعر): 25.
[13] ينظر: تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 91.
[14] ديوان الشيخ كاظم ال نوح: 3/536.
[15] تطور الفكرة والاسلوب في الادب العراقي: 102.
[16] ديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 43.
[17] يقول كاظم آل نوح: (من الخفيف)
فتح الله حوزة الدردنيلِ *** بكماة غلب وآساد غيلِ
ينظر: الشعر العراقي الحديث: 80، وديوان الشيخ كاظم آل نوح: 3 / 546. وفيه (حصن) بدل فتح.
[18] ينظر: الشعر العراقي الحديث: 81، نقلاً عن مجلة الصدى البغدادية، وقد ذكر المؤلف أنَّ اسم الشاعر في المجلة محمد علي يعقوب التبريزي.
[19] قال محمد حسن أبو المحاسن يسخر من قوات الائتلاف: (من السريع)
وشادن أورثني حبَّهُ *** كالائتلافين حزناً طويلْ
عزَّ عليَّ الوصل منه كما *** عزَّ عليهم موقف الدردنيلْ
قد رجعوا بالعار لكنني *** رجعت في العشق بمجد أثيلْ
ينظر: ديوان أبي المحاسن الكربلائي: 195 – 196.
[20] قال عبد الحسين الحويزي مادحاً الإنكليز: (من الكامل)
وحويت في الدنيا مكارم جمَّةً *** طلعت بدوراً تزدهي وشموسا
للدولة العلياء شبلاً أعقبت *** حفظت قريحة فكره القاموسا
ملك رعيته إذا ذكروا اسمه *** ضربت لمثل جلاله الناقوسا
ينظر: الشعر العراقي الحديث: 119، والقصيدة غير منشورة في ديوان الشاعر المطبوع.
[21] ينظر: ديوان الربيعي: 1 / 210.
[22] ينظر: سحر البيان وسمر الجنان: 206، 211، 260.
[23] ينظر: الذخائر (ديوان شعر): 91.
[24] ينظر: ديوان الشيخ كاظم آل نوح: 3 / 537.
[25] مثل منظومة مجالي اللطف بأرض الطف، والملحمة الكبرى لواقعة كربلاء المسماة المقبولة الحسينية.
[26] ينظر: الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 631 – 634.
[27] ينظر: الأدب العربي في كربلاء: 175.
[28] كنز العمال: 12/124، الحديث 34307.
[29] منتقى الدرر في النبي وآله الغرر (ديوان شعر): 1 / 61.
[30] تاريخ الطبري: 4 / 323، والإرشاد: 235.
[31] تأملات في حركة ذكرى عاشوراء ينظر: مجلة رسالة الحسين، العدد 1 لسنة 1411هـ: 22 – 29.
[32] الأدب وفنونه، محمد مندور: 37.
[33] ينظر: الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث: 633 – 638.
[34] الأسس الفنية للنقد الأدبي: 120.
[35] ينظر: اتجاهات الشعر العربي الحديث: 10.
[36] ينظر: تطور الشعر العربي الحديث الدوافع، المضامين، الفن: 11.
[37] ينظر: الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي: 34.
[38] ينظر: الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث: 9 .
[39] ينظر: العراق من الاحتلال حتى الاستقلال: 89.
[40] الشعر العراقي الحديث: 244.
[41] م. ن: 244 – 245.
[42] ديوان بحر العلوم: 2 / 85.
[43] الاحوب: الآثم، ينظر الصحاح: 1/105.
[44] ينظر , تطور الفكرة والاسلوب في الادب العراقي الحديث: 102.
[45] من وحي الحسين (شعر): 17 – 18.
[46] الادب المعاصر في العراق: 143.
[47] ديوان الجعفري: 150 – 151.
[48] تطور الفكرة والاسلوب في الادب العراقي الحديث:80.
[49] ديوان السماوي: 365.
[50] مع النبي وآله (ديوان شعر): 191.
[51] ديوان الشيخ عبد الغني الخضري: 183.
[52] ديوان الوائلي: 1 / 170 – 171.
[53] من وحي الزمن (ديوان شعر): 197.
[54] الأيد: القوي، ينظر الصحاح: 2/386.
[55] ضباب الحرمان (ديوان شعر): 48 – 49.
[56] أصداء الحياة – نفح الخلود (ديوان شعر): 87.
[57] كابيا: من كبا، يكبو، سقط. ينظر الصحاح: 5/1965.
[58] ديوان ألجواهري: 3 / 235 – 236.
[59] أزهار ذابلة، قصائد مجهولة (ديوان شعر): 88.
[60] ديوان الجواهري: 3 / 323.
[61] لغة الشعر بين جيلين: 28.
[62] ديوان شعر ذي الرمة: 206.
[63] ديوان الجواهري: 3 / 223.
[64] ديوان الشريف الرضي: 1 / 300.
[65] الأدب الملتزم كان مدعاة أخذ ورد بين فريقين، الأول يرى أنَّ الالتزام مناقض للحرية التي هي شرط من شروط الإبداع، فيما يرى الفريق الثاني بأنَّ الأدب تعبير عن معاناة الإنسان، ولا يوجد أدب غير ملتزم، ويرى أنصار هذا الفريق أنَّ الفريق الأول لم يفرق بين الإلزام والالتزام. ينظر: المعجم المفصل في اللغة والأدب: 1 / 206 – 207.
[66] الالتزام في الشعر العربي: 14.
[67] م. ن: 13.

إرسال تعليق