حب الجاه من أعظم الآفات المهلكة للدين

بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية

وهو انتشار الصيت[1] والاشتهار، وحبه مذموم في القرآن والأخبار، وهو آفة عظيمة في الدين، والمحمود هو حب الخمول إلا من شهره الله من غير تكلف طلب للشهرة.

قال الله تعالى:((تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسٰاداً وَالْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[2].

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حب الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل[3].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فساداً من حب الجاه والمال[4].[5]

وقال عليه السلام[6]: إنما هلك الناس باتباع الهوى وحب الثناء[7].

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: تبذل لا تشهر ولا ترفع شخصك لتذكر بعلم، واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار[8].

وقال الصادق عليه السلام: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك[9].

وقال عليه السلام[10]: ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث بها نفسه[11].

وقال عليه السلام[12]: رب ذي طمرين[13] لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره[14].

وتحقيق الكلام في الجاه في فصول:
 

الفصل الأول: في سبب حب الجاه


إعلم أن المال ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوبة تعظيمها وطاعتها، والسبب في حب المال هو السبب في حب الجاه وزيادة، لأن ملك القلوب يتبعه ملك الأعيان، ويرجح الجاه على المال من وجوه ثلاثة:

الأول: إن التواصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه، إذ العالم والعابد الذي يريد حصول الجاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له.

الثاني: إن المال معرض للتلف بالغضب والسرقة والقلوب سالمة من ذلك، وإنما تغضب القلوب بقبح الحال وتغير الاعتقاد، وذلك مما يهون دفعه.

الثالث: إن ملك القلوب ينمو ويسري ويتزايد من غير حاجة إلى تعب لأن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله نطقت وانطلقت الألسنة لا محالة بما فيها، وانتشر ذلك في الأقطار والأمصار، ولا يزال في زيادة اقتناص القلوب والنمو، والمال لا يمكن استنماؤه إلا بتعب شديد.

ولكن الجاه ليس بمذموم مطلقاً، بل هو كالمال ممدوح من جهة ومذموم من أخرى، وكما أنه لابد للإنسان من أدنى مال لضرورة المطعم والملبس فلابد له من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق كما يحتاج الإنسان إلى طعام يتناوله ويجوز أن يحب الطعام والمال الذي يباع به الطعام، وكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم، وكذا حبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته، وكذا حبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به، وأن يكون له من المحل في قلب السلطان ما يحثُه على دفع الشر عنه، فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال[15].

الفصل الثاني: في علاج حب الجاه


إعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم، وابتلي بالرياء والسمعة والنفاق والمداهنة والتساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وعلاجه العلم والعمل:

أما العلم: أن يعلم أن السبب الذي لأجله أحب الجاه ــ وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم ــ إن صفا وسلم فأخره الموت ولا ينفعه في الآخرة لو لم يضره، ولو سجد له كل من على وجه الأرض فعن قريب لا يبقى الساجد ولا المسجود له[16]، ويكون حاله كحال من مات قبله من ذوي الجاه مع المتواضعين له ، ولمثل هذا لا ينبغي أن يترك الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها.

والكمال الحقيقي الذي يقرب صاحبه من الله ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت ليس إلا العلم بالله وبصفاته وأفعاله، ثم الحرية وهي الخلاص من أسر الشهوات. هذا هو الكمال الباقي بعد الموت والباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً للنفس.

والمال والجاه هو الذي ينقضي سريعاً، وهو كما مثله الله تعالى:((إِنَّمٰا مَثَلُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ الأَرْضِ))[17]، وكل ((تَذْرُوهُ الرِّيٰاحُ))[18] بالموت فهو ((زَهْرَةَ الْحَيٰاةِ الدُّنيٰا))[19] وكل ما لا يقطعه الموت فهو من ((الْبٰاقِيٰاتُ الصّالِحٰاتُ))[20].

فمن عرف الكمال الحقيقي صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها، ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده.

وأبصار أكثر الخلق ضعيفة تؤثر الدنيا على الآخرة، كما قال تعالى: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى))[21] وقال تعالى: ((بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ))[22].

ومن كان كذلك فينبغي له العلاج بالعلم بالآفات العاجلة لصاحب الجاه، فإن صاحب الجاه مخاطر على نفسه وماله، ومحمود مقصود بالإيذاء، مبتلى بالناس خص بالبلاء، من عرفته الناس يقاسي الشدائد العظيمة، ولأجلها يتمنى الخمول.

ولا يزال ذو الجاه خائفاً على جاهه ومحترزاً من زوال منزلته عن القلوب والقلوب أشد تغييراً من القدر في غليانه، وهي مرددة بين الإقبال والإعراض، وما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر، فإنه لا ثبات له.

والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء اشتغال عن الله وتعرض لمقته في العاجل والآجل. وجميع ذلك غموم عاجلة مكدرة للذة الجاه الموهومة فضلاً عما يفوت في الآخرة. هذا هو العلاج العلمي.

وأما العملي: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بالأنس بالخمول والقناعة بالقبول من الخالق والاعتزال عن الناس والهجرة إلى مواضع الخمول، فإن المعتزل في بيته في البلدة التي هو بها مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته، ومن قنع استغنى عن الناس وانقطع طمعه عنهم، وإذا استغنى عنهم لم يكن لقيام منزلته في قلوبهم عنده وزن، ويستعين على ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول[23].
 

الفصل الثالث: في حب المدح والثناء


وسببه شعور النفس بالكمال والدلالة على أن الممدوح قد ملك قلب المادح وسخره، وملك القلوب أحب من ملك الأموال ــ كما تقدم.

ولهذين السببين يكره الذم ويتألم به القلب، والسبب الثالث أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لاسيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بشأنه، وهذا يختص بثناء يقع على الملأ.

والرابع من المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء عليه إما طوعاً أو قهراً، والحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وقد تجتمع هذه الأسباب فيعظم الالتذاذ ويندفع استشعار الكمال بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في مدحه، فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله بطلت اللذة الثابتة ــ وهو استيلاؤه على قلبه ــ وبقيت لذة الاستيلاء بالحشمة.

وحب المدح والثناء كحب الجاه حرمة وإباحة ونفعاً وضراً، وعلاجه علاجه، وعلمه بأن الصفة الممدوح بها إن فقدت فاستهزاء وإن وجدت فالدنيوية كمال وهمي والدينية موقوفة على الخاتمة.

وعلاج كراهة الذم العلم بأن الصفة المذموم بها إن وجدت فتبصير للعيوب، وفيه الفرح والشغل بالإزالة، وإن فقدت فكفارة للذنوب وفيه الشكر لله والترحم للذام حيث أهلك نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كسروا رباعيته: اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون[24].

والإنسان يفرح ممن يذم عدوه وهو عدو نفسه، فينبغي أن يفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام عليها ويعتقد ذكاءه، وفطنته لما وقف على عيوبها، فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أعين الناس حتى لا يبتلى بفتنة الجاه، وإذا سبقت إليه حسنات لم يتعب فيها فعساه يكون جبراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها.

ولو جاهد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة ــ وهي أن يستوي عند ذامه ومادحه ــ لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره.
وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحدى تلك العقبات، ولا يقطع شيء منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل[25].

ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصيت: الذكر الجميل الذي ينتشر في الناس. لسان العرب، ابن منظور: 2/ 58، مادة "صوت".

[2] سورة القصص/83.

[3] كشف الريبة، الشهيد الثاني: 51، الفصل الرابع.

[4] في المحجة: "من حب الجاه والمال والشرف في دين الرجل المسلم".

[5] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 112، كتاب ذم الجاه والرياء، بيان ذم حب الجاه.

[6] في المحجة: "قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام".

[7] المصدر السابق.

[8] الإختصاص، الشيخ المفيد: 232، حديث في زيارة المؤمن لله. وفيه النص: «قال أمير المؤمنينعليه السلام: تبذل لا تشهر، ووار شخصك لا تذكر، وتعلم، واكتم، و اصمت تسلم، قال: وأومأ بيده إلى صدره، فقال: يسر الأبرار ويغيظ الفجار».

[9] الكافي، الكليني: 2/ 297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة/ ح3.

[10] أي: «الإمام الصادق عليه السلام».

[11] الكافي، الكليني: 2/ 298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة/ ح4.

[12] في مجموعة ورام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

[13] في مجموعة ورام: "رب أشعث أغبر ذي طمرين".

[14] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/ 182، بيان ذم الاشتهار وفضيلة الخمول.

[15] أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 128 ــ  129، الفصل الثاني. جامع السعادات، النراقي: 2/ 352 ــ 354، الجاه أحب من المال. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/248 ــ 249، كتاب ذم الجاه و الرياء، بيان سبب كون الجاه محبوبا.

[16] تنبيه: المقصود بالمسجود له، هو: من غلب على قلبه حب الجاه، وابتلي بالرياء، كما هو موضح أعلاه.

[17] سورة يونس/ 24.

[18] سورة الكهف/ 45.

[19] سورة طه/ 131.

[20] سورة الكهف/ 46.

[21] سورة الأعلى/ 16 ــ 17.

[22] سورة القيامة/ 20 ــ 21.

[23] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 128 ــ 131، كتاب ذم الجاه والرياء، بيان علاج حب الجاه. جامع السعادات، النراقي: 2/ 364 ــ 366، فصل علاج حب الجاه. إحياء علوم الدين، الغزالي: 3/ 254 ــ 256، كتاب ذم الجاه والرياء، بيان علاج حب الجاه.

[24] أنظر: إيمان أبي طالب، السيد فخار بن معد الموسوي: 155، الفصل الثاني.

[25] أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 129 ــ 132، الفصل 2 ــ 3. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 6/ 131 ــ 138، كتاب ذم الجاه والرياء. جامع السعادات، النراقي: 2/ 368 ــ 372.

إرسال تعليق