بقلم: الشيخ محمد جواد مغنية
كن من تشاء كن الدنيا بكاملها **** فلست تعدل صديقاً بميزان
أخذ الشاعر هذه الحكمة من سيد البلغاء، وإمام الحكماء أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال مشيراً الى حذائه البالية: ((والله إن هذه خير عندي من دنياكم إلاّ أن أقيم حقاً أوأدفع باطلاً)).
ما هذا المنطق؟! وما هذا الميزان؟! نعل بالية لا تقدر بشيء، ولا يبذل بأزائها قليل من متاع الحياة توزن بالملك والسلطان بل بالدنيا بكاملها فترجح عليها وعلى لذاتها جميعاً وتكون خيراً منها ومن أشيائها كافة إن هذا لشيء عجاب؟!!
إن هذا المنطق منطق من يقول فصلاً، ويحكم عدلاً يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من حواشيه، إن هذا الميزان ميزان القائل: ((دعوني أكتفي من دنياكم بملحي وأقراصي، فبتقوى الله أرجو خلاصي)).
وإذا كانت الأمور توزن بآثارها، وتقاس بنتائجها فان الحذاء التي تقي القدم من الأوساخ والقذرات والأحجار والأشواك خير من الملك الجائر، والسلطان الظالم الذي يودي بالأرواح والأموال بالشرف والمروءة، إن الدنيا التي يتمتع بها الشقي الفاسق، ويحرم منها التقي العادل، لا تعادل في ميزان الحق جناح بعوضة، ولا ورقة في فم جرادة.
إن في الإنسان غريزة من أقوى الغرائز البشرية، وهي حب العظمة، والرغبة الملحة في أن يكون المرء شيئاً مذكوراً جوع يضرم الجحيم، وظمأ يلتهب كالسعير، أحرق بلفحاته الأخضر واليابس، يسلك المرء كل سبيل، ويضحي بالنفس والنفيس، والعزيز والثمين ليسكن هذه الارواء المنبعثة عن حب العظمة، والشعور بالأهمية.
وكم يذرع بالنفاق والرياء، والحقد والجفاء، والحزبية الحمقاء كي يحصل على شيء من الشهرة، والكمال الموهوم فلم ينجح مسعاه إذ لم يحصل على شيء، وإذا حصل لا يدوم، أن للباطل جولة ثم يضمحل.
أيها السادة: والسر الوحيد أن كل عمل لم يبن على أساس متين من الدين، ولم يرتكز على مبدأ سيد الوصيين وهو التقوى بإطاعة الله ومتابعة الراسخين في العلم من الأئمة الأطهار والعلماء الأبرار لا بد وأن يكون مآله إلى الهباء والخسران، ومصير صاحبه إلى الفشل والخذلان لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين.
وإذا كان علي مع الحق والحق مع علي-كما في الحديث الشريف- فمن الطبيعي أن يرتكز بنيانه على تقوى الله ورضوانه ومن الطبيعي أن تكون الإمارة وألقابها، والزعامة وأثوابها هباءً في نظره إذا لم تكن وسيلة لاقامة الحق ودفع الباطل.
هذا هو المبدأ الوحيد الذي يستطيع الباحث أن يفسر به شخصية الإمام عليه السلام)، ويرجع إليه في جميع أفعاله وصفاته، وهذا هو البرنامج والبيان الذي أذاعه على الناس كافة، ودعاهم إليه قبل الخلافة وحينها، ولم يحد عنه طرفة عين فما دونها، وهذي هي الروح التي أورثها بنيه عليه السلام بالتربية والعرق حتى أصبحت لهم كطبيعة الحياة تسيطر على غرائزهم، وتدفعهم الى السير في طريق الحق والعدالة.
وأهل الكوفة أعلم الناس بعلي وبنيه، يعلمون انفعالهم وبواعثهم، وما يوقظهم؟ ويستثيرهم؟ لذلك كتبوا الى الحسين عليه السلام) أقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، أيسمع الحسين صوت الحق فلا يسرع لتلبيته؟ أليس هو ابن علي؟! ولكن تريث هنا قليلاً لأن أهل الكوفة أصحاب أبيه وأخيه، تريث ليتأكد أن الصوت من أعماق الفؤاد، فأرسل ابن عمه مسلماً عليه السلام) فلما تبين أنه صوت القلب خف إليهم مسرعاً.
لو لم يلب الإمام نداء الكوفيين، فلمن تكون الحجة؟ وعلى من تقع التبعة؟ وماذا يكون حكم التاريخ ولو لم يلب الإمام نداء الكوفيين، يحكم التاريخ إما بأن الحسين عليه السلام) لا يجيب داعي الحق إذا دعاه، وإما بأن يزيد أهل للخلافة، لأن الإمام أقره واعترف بسلطانه، وهذا الأخير هو المعين لدى أرباب الأهواء والشهوات لأنه أبلغ في الدعاية لباطلهم، وكان لهم أن يخاطبونا محتجين هذا إمامكم المعصوم وجد الألوف من السيوف ولم يحرك ساكناً.
سار الإمام ملبياً ذلك النداء، وفي أثناء مسيره ظهر له كذب المنادي، فهل يرجع الإمام من حيث أتى وهؤلاء أهل مسلم وذووه لا يتركون دم صاحبهم، بل هؤلاء الأمويون لا يكتفون بمسلم، ولا مصد لهم سوى الحسين، وهل يعصمه من الكفار حرم الله وحرم جده الرسول؟ وهذا يزيد أنفذ بالأمس عمر بن سعد في عسكر كثيف وأوصاه بقبض الحسين سراً وإلا فليقتله غيلة، ودس مع الحاج ثلاثين شيطاناً، وأمرهم بقتل الحسين على أي حال اتفق. فأية حرمة لله ولرسوله عند الأمويين؟ إذن لا بد من متابعة السير ومقابلة أولئك الذين دعوا الحسين الى الحق وجهاً لوجه.
وصل الحسين الى كربلاء، وخاطب أرباب الكتب والرسل، ولما أصروا على الكفر عرض عليهم أن يتركوه وأطفاله على أن يترك دنياهم ويقيم بعيداً عن ديارهم وسلطانهم، رغب إليهم في ذلك لئلا يقول القائل: أن الحسين طالب ملك وانه هو الذي قتل نفسه حيث وجد لها طريق السلام والأمان، فأبوا عليه إلا السيف والاستسلام ليزيد.
لو استسلم الحسين عليه السلام) ليزيد لم تقم للحق قائمة، ولم تكن للعدالة عين ولا أثر ما دامت السموات والأرض، وكان للباطل أن يحكم ويتحكم متى شاء وكيف شاء؟ وليس لمصلح أن ينكر عليه فعلى الأولياء والمصلحين أن ينقادوا للظالمين طائعين فمهما بلغ المبطل بجوره فهو دون يزيد ظلماً وطغياناً ومهما بلغ المصلح بعظمته فهو دون الحسين عدلاً وإيمانا.
إذن لو لم ينهض الحسين لكانت الحجة للباطل على الحق ما دام في الأرض ساكناً.
إرسال تعليق