من مظاهر عطف الإمام الحسين عليه السلام

بقلم: الشيخ حسن الشمري

يمكن أن نقول: إن أعظم اكتشاف يُعدّ في هذا الوجود هو اكتشاف النفس البشرية، فالذي يكتشف النفس البشرية يُعدّ ((عالماً وفاتحاً قديراً))، وقد اكتشف ((كولمبوس)) أمريكا.

ولكن قبل اكتشافه اكتشفَ القدرة في الاقتحام، فالنفس البشرية تشكّل مركز الثقل عند الإنسان، فإذا عرف قيمتها وحجمها يستطيع من خلالها إنجاز أعظم المشاريع وبمختلف صورها، ففي النفس قوة جبارة.

قال تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا))[1].

فالله عز وجل منح النفس ((الإلهام)) وهي قوة مكينة، وقد استطاع الأئمة عليهم السلام ((اكتشاف هذا العالم المكين)) عند الإنسان، فعندها استطاعوا التعامل مع هذه القوة المكينة، وتوظيفها في مجال الخير وخدمة الإنسان فجاءت النتائج باهرة.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقد أشار إلى هذا الاكتشاف:


دواءك فيك وما تبصرُ *** وداءك منكَ وما تشعرُ

أتحسبُ أنكَ جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبرُ[2]



فالإنسان ينطوي على ((عالم كبير وواسع يفوق التصور)).
أمثلة طبية

جاء في كتاب (الإعجاز الطبي في القرآن):

((يقول تعالى جلّ من قائل: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ  ))[3].

فلننظر في بعض مظاهر التقدير والتدبير في جسم الإنسان، وهي آيات لا تُعد ولا تحصى.

ففي المعدة يوجد ((35 مليون)) غدة معقّدة التركيب لأجل الإفراز، حيث تفرز مواداً لتحويل الطعام إلى مركبات تفيد الجسم، أما الخلايا الجدارية التي تفرز ((حمض كلور الماء: HCL» فتقدّر بمليار خلية... مليار معمل كيميائي في هذه المعدة الصغيرة.

لقد صمّم الله سبحانه في كل خلية معملاً لصنع ((حمض كلور الماء)) الذي لو أردنا صنعه في المعامل لاحتجنا إلى معدات كثيرة، وأماكن كبيرة، ووقت طويل، وإمكانات هائلة، هذه الخلية الصغيرة أوكل الله سبحانه وتعالى إليها صنع ((هذا الحمض بكثافة قليلة))، فإذا زادت كثافته قليلاً في المعدة، حصل مع الإنسان حموضة وحرقة ومشاكل كثيرة، وإذا نقصت كثافته قليلاً لم يعد ينهضم الطعام، فتحصل معه غازات وتلبّك في الهضم، فكل شيء مقدّر تقديراً عجيباً.

وفي الأمعاء الدقيقة في ((العنج والصائم)) من الأمعاء الدقيقة يوجد ((3600 زغابة معوية)) في كل ((1 سم2)) لامتصاص الأغذية المهضومة، فالطعام بعد أن يخلص من المعدة يأتي إلى الاثني عشرية، ثم يأتي إلى الأمعاء الدقيقة، حيث يبدأ امتصاصه بعد أن أصبح مستحلياً، وهذه الزغابات التي تشبه الضملة هي التي تمتصه، وهي تمتص منه فقط المواد التي تفيد الجسم، أما المواد التي لا فائدة منها فتظل سائرة لتُطرح خارج الجسم.

وجاء في وظائف الكريات الحمراء والقلب: إذا جئنا إلى الدم، ولاحظنا الكريات الحمراء، والتي فيها عنصر الحديد الذي يعطيها اللون الأحمر، فإذا حصل مع الإنسان فقرٌ في الدم فإنّ الطبيب يصف له دواء فيه مركبات الحديد، ولو صففنا الكريات الحمراء التي في جسم إنسان واحد بجانب بعضها على صف واحد لأحاطت بالكرة الأرضية التي نعيش عليها من ((5 ــ 6 مرات))، وأما القلب الذي أنعم الله به علينا فهو مضخة الحياة التي لا تكلّ عن العمل، وعدد ضرباتها حوالي ((70 ضخّة)) في الدقيقة الواحدة، وينبض يومياً ما يزيد على مائة ألف مرة يضخ خلالها ((800 لتراً)) من الدم، وحوالي ((56 مليون غالون)) على مدى العمر الوسطي للإنسان))[4].

فإذا عرفنا مكنون هذا الإنسان نقول: على الإنسان أن يسعى لآخرته ويهيء مقدماتها بالمال والنفس.



فحرام عليك أيها الإنسان أن تُذهب بثروتك التي جاءت بشقّ الأنفس لبضع كلمات لا تغني عنك شيئاً، فهي بمجرد أن تظهر تذهب كالفقاعة أو كالزبد الذي يذهب جفاءً، وقد تمكن الأئمة عليهم السلام من الحفاظ على هذا ((العالم)) ومستوى العطاء المادي والمعنوي من خلال تذكير الإنسان بواقعه، وقد ضمّن الإمام أبو عبد الله عليه السلام ثلاث ملاحظات غاية في الأهمية:

1 ــ الذهاب إلى ذي دين، وذو الدين لا يطلب وجه الناس حتى يتحدث إليهم ويذكر ما أعطى، وإنما يطلب وجه الله وابتغاء مرضاته، والذي يطلب مرضات الله لا يرائي لأنه يعلم أنّ الرياء يبطل العمل، قال تعالى: ((لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى))[5].

وأذكّر البعض ممن يطلب ((السمعة والصيت)) من عمله أن لا قيمة للسمعة والصيت مهما تعاظمت واتسعت فهي لا تغني من الحق شيئاً، فماذا يفيد لو قال الناس: فلان يعطي ويساعد؟!! وماذا يقدم قولهم؟ وإنما الذي يقدم ((ثواب الله عز وجل)) فهو الذي يثري في الدنيا حيث يزيده هدى وبصيرة، فيضع ((عطاءه)) في موضعه، ثم يزداد ثواباً ومغفرة، وأما الآخرة فثوابه أعظم وأكبر.

قال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[6].


2 ــ أو صاحب مروءة: الذي إذا طلبت منه يكرمك، ويحفظ ماء وجهك، فهذا التقي يُعدّ عطاؤه سخياً وإن كان قليلاً، فصاحب المروءة يكرم ويحفظ إكرامه، لأنه يزن الإنسان، ويعرفه قيمته، ويثمن السعي فهو في خُلْده لولا الاضطرار لما شدّ الرحال، فصاحب المروءة يُقدّر الموقف، ويضع في حسابه كرامة الإنسان أولاً وأخيراً.

وهناك ملاحظة: فإنّ صاحب المروءة يعطي ((بنَفَس طيّب))، فيمتلئ عطاؤه طيباً، فيضحى مباركاً وذا نكهة طيبة، لذلك فإنّ عطاء أئمة أهل البيت عليهم السلام يمتاز بنكهة طيبة، ويتصف بالبركة.

قال تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))[7]، فالله عز وجل وصف العطاء بالطعام الذي كان خبزاً لطيبه وبركته.

3 ــ أو حسب: ذو شهامة، فالشهم لا يستعظم العطاء مهما بلغ، لأن العطاء ينطلق من نفس كبيرة، وهكذا ((كلما سمت النفس وكبرت)) ازدادت عطاؤاً، سواء كان مادياً أو معنوياً، فترى صاحب ((النفس الكبيرة)) عظيماً في عطائهِ، وفي سماحته ولطفه وعطفه وحلمه.

وحسبك أن ترى ((كبار النفوس)) لا يبقون في أجسادهم طويلاً لأنها تُرْهَق.


وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ[8]


وهكذا كانت نفس المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

جاء في كتاب (الرسالة في الثورة الحسينية):

((أجمع المؤرخون أن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب، فأمر الإمام عليه السلام بتأديبه، فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي، إن الله تعالى يقول: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ))[9].

فابتسم الإمام بابتسامته المعهودة، وقال له: خلوا عنه، فقد كظمت غيظي.

وعندها سارع العبد قائلاً: ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ))[10].

فقال الإمام عليه السلام: قد عفوت عنك.

فتشجّع العبد، وطلب المزيد من الإحسان، فقال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[11].

فما كان من الإمام عليه السلام إلا أن عفا عنه قائلاً: وأنت حر لوجه الله.

ثم أمر له بجائزة سنية تغنيه عن الحاجة ومسألة الناس[12].

وجاء في كتاب (سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه):

((كان الإمام الحسين كثير البر والصدقة، وقد أورث أرضاً وأشياء فتصدق بها قبل أن يقبضها، وكان يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة، لم يبتغ بذلك إلا الأجر من الله، والتقرب إليه))[13].

وكما أسلفنا ونزيد أن شخصية الإنسان تكبر كلما لامست تعظيماً واحتراماً، ثم هي تعكس ما أخذته، فالنفس تختزن الطيب، كما أنها تختزن السيئ، فإذا أخذت الطيب باستمرار تتحول النفس إلى نبع رقراق، وشلال يتدفّق طيباً في كل حين.
قال تعالى: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[14].

 
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الشمس: 7 ــ 8.

[2] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج16/ص186. الإمام جعفر الصادق عليه السلام: عبد الحليم الجندي، ص177. حياة الإمام الرضا عليه السلام: الشيخ باقر شريف القرشي، ج1/ص204. تاج العروس: الزبيدي، ج17/ص499.

[3] الذاريات: 21.

[4] الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور إبراهيم بيضون، ص260 ــ 261.

[5] البقرة: 264.

[6] القصص: 83.

[7] الإنسان: 8.

[8] شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج3/ص292. تاريخ الإسلام: الذهبي، ج26/ص107. البداية والنهاية: ابن كثير، ج11/ص292. يتيمة الدهر: الثعالبي، ج1/ص253.

[9] آل عمران: 134.

[10] آل عمران: 134.

[11] آل عمران: 134.

[12] الرسالة في الثورة الحسينية: الدكتور حسين الحاج حسن، ص40.

[13] سيد الشهداء الإمام الحسين رضي الله عنه: الشيخ موسى محمد علي، ص70.

[14] إبراهيم: 25.

إرسال تعليق