يوم كربلاء يوم الانسانية الخالدة

بقلم: الشيخ سليمان ظاهر

لئن نسخ خطبه الخطوب ورزيته الرزايا وفجائعه كل ما وقع في الدهر من الفجائع وكان كما قال حبيب الطائي:

هو الخطب الذي ابتدع الرزايا **** وقال لأعين الثقلين جودي

فقد كتب فيه الحسين بن علي وذوو رحمه وخيرة صحبه كتاباً ضم بين دفتيه آيات بينات. بل معجزات باهرات ومعاني خالدات من تضحية بالغة اقصى حدود التضحية ومن إباء لم تعرفه الأباة ومن مثالية منقطعة النظير هي من المثل العليا التي قلما بلغها إنسان مهما سمت نفسه ومن حوافز ودوافع لهذه المثالية الرائعة التي شذ اجتماع أسبابها أو بعض أسبابها لمستهتر بالإنسانية ولوع بكل مقتضياتها وملابساتها. وكل ما يتصل بها من السمو النفسي والعلو الخلقي ومن وضع خطط يتعلم منها البشر دروس التجرد وحياة الروح التي لا تحس الآلام التي تحس هياكلها الجسمية المادية التي يشاركها فيها كل ذي كيان جسمي أجامداً كان ام نامياً او حيواناً.

اما الاسباب التي تهيأت للحسين وآله وانصاره ولم تهيأ لبشر مهما ارتقت منـزلته وعلت رتبته واستأثر بها بالخلود بايثاره امته على نفسه متحملاً بهذا الايثار ما تعجز عن حمله البوازل وينوء به اولو الوصية من الرجال فاليك منها:

-أ-تفرده من مزايا الشرف


بما لا مطمع فيه لطامع ومن سوامق المجد والعلا مالم يتمتع به بيت من بيوتات العرب والعجم. ومن بواذمة الفخر مالم يشرك قبيلة هاشماً به أي قبيل قرشي وقريش سادات العرب بلا منازع:

1-تحدره من الاصلاب الطاهرة من صلب اسماعيل الى ان استقر في صلب علي وفاطمة المنحدرة من صلب اشرف الانبياء وخاتمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم ماهم سؤدداً ونبلاً وشرفاً وفضلاً.

2-انحصار سيادة شباب اهل الجنة به وبأخيه الحسن وهي الغاية التي تنقطع دونها كل غاية ولا ترقى اليها همة شريف ولا مشروف.

3-انه احد الخمسة الذين قيل فيهم:

افضل من تحت الفلك **** خمسـة رهـط وملك

4-اختصاصه بالشرف العظيم واختصاص اخيه الحسن بما لم يشركهما به احد من العالمين فتحفظ في اعقابها سلسلة الذرية المحمدية الى يوم الدين.

5-تسلسل الأئمة الاثنى عشر من عقبه وهم بقية الله في ارضه. وعرفاؤه من خلقه وحملة شرعه وامناؤه على وحيه واحد ثقليه اللذين خلفهما الرسول الاعظم منار هداية للأمة من بعده الى قيام الساعة.

-ب- اجتماع خلال فيه لو حوى عظيم خله منها لكانت عنوان عظمته:


1-الجود: وكان يباري فيه السحاب وتنقطع دونه همة الاجواد وهل بعد جوده بنفسه في سبيل الدين واحقاق الحق ومكافحة الظلم مع قلة الناصر واستفحال الطغيان الأموي وشمول سلطانه مايدع ذكراً مجيداً لجواد ؟ (والجود بالنفس اقصى غاية الجود).

2-إباء الضيم: ومن ضحى بما قدم الحسين من أضاحي في سبيل آبائه وارخص نفسه ونفوس ذوي رحمه وقرباه وخلص أصحابه وهي النفوس التي لا تكاد تسام في سوق المنايا.

3-الدين المتين: وفي سبيله والبدع الاموية تحاول طمس معالمه وأخفاء مراسمه كابد ما كابد من الوقوف امام قوات يحارب فيها الواحد المئتين يصمد الى كثرتها الزاخرة والمربي عددها على رمال الدهناء بقلة من انصاره صموداً لم يسطر له التاريخ مثيلاً.

4-الشجاعة: نسخت شجاعته كل مايؤثر عن الشجعان من حديث تالد او طريف وحسبك من خطرها مارواه كما في الطبري بعض اعدائه وهو عبد الله بن عمار وقد عتب عليه بعضهم مشهده قتل الحسين قال: شد عليه (الحسين) رجاله فمن عن يمينه وشماله فحمل على من عن يمينه حتى انذعروا وعليه قميص له من خز وهو معتم قال: فوالله مارأيت مكسوراً قط قد قتل ولده واهل بيته واصحابه أربط جأشاً ولا امضى جناناً منه ولا اجرأ مقدماً والله مارأيت قبله ولا بعده مثله ان كانت الرجالة تنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى اذا شد فيها الذئب.

هذه وايم الله الشجاعة الخارقة للعادة فان من اوتي من الحنان والرأفة مثل ما اوتي الحسين لا على بيته فحسب وهم فلذة كبده ولا على اخوانه وهم جناحاه ولا على ابناء اخيه وابناء اعمامه وهم اطائب اسرته واللباب المحض من عشيرته والذروة العالية من سنام فخره. ولا على الصفوة المختارة من صحبه الذين بذلوا نفوسهم الغالية دون الذود عن مهجته ولا على حرمه ونسوته واخوته وبناته وهن يشاهدن بام اعينهن نجوم الارض تتساقط صرعى على اديم الثرى تعاني حر السيف وحر الظماء وينظرن الى الحسين وحيداً فريداً.

[صفر الانامل من حام ومنتصر]


كل اولئك لم يضعف له عزماً ولم يوه له ركناً ولم يحد من شجاعته ولم يكف من غرب بسالته بل ماكان ذلك الا ليزيده مضاء ومضياً في الامر واستبسالاً واستخفافاً بالمنية وقياماً بكل آيات الشجاعة ومعجزاتها.

5-الخطابة: ان ما أثر عنه من الخطب البليغة وقدمني بما مني من هموم الحياة لا في عهد يزيد بل فيه وفي عهد ابيه معاوية وهو يقلقل رحله الخائف من المدينة الى مكة فالكوفة وفي يوم الطف ألا يوم والجماهير تندفع كالسيل الجارف لقتاله وهو معدود وهم لا يحصون عدداً وعدداً ان ما أثر عنه من الخطب ومن الخطوب المحدقة به من عن يمينه وشماله ما يضم كل خطيب مهما أوتي من رائع بيان وسعة جنان لهو من طراز الخطب العلوية البارعة التي تنحسر دون زاخرها اذهان الخطباء المصاقع الذين لم يكدر لحياتهم معين وكانوا في طمأنينة من العيش وأمن من الخوف.

6-الصبر: من اوتي ما اوتي الحسين من الصبر وهو يتجرع مرارته في حياة اخيه ويسمع ويرى ما لا تقر عليه نفس ابي فكيف به وهو الذي سن الاباء ولكنه احتمل ذلك صابراً محتسباً مطيعاً اخاه الحسن وله عليه حق الطاعة ومنتظراً بلوغ الجور الاموي واعتسافه منتهى مداه فلم يذهب بصبره قتل اخيه مسموماً وهو لا يجهل من دس له السم ومن اثر عنه ((ان لله جنوداً منها العسل)) لانه كان يأمر بدس السم في العسل لمن يهيب قتله علانية.

صبر على منع القوم من دفن اخيه بجوار جده بل ومن طواف مشيعيه بجنازته حيال قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) صبر على ما انتقض من مبادئ الاسلام وعلى ما جرى في سلطان معاوية وملكه العضوض من انقلاب عظيم في الاخلاق المطبوعة والمستفادة وانصراف كثير من الوجوه الى دنيا معاوية الطويلة العريضة وتجاهل ما وصف به المسلمين الكتاب العزيز {كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} فكأن هذه الآية الكريمة نزلت في غيرهم.

صبر على سب ابيه على المنابر وعلى اهراق زياد بن ابيه دماء شيعة ابيه ظلماً وعدواناً وعلى قتل حجر بن عدي واصحاب حجر صبراً لا لجرم اقترفوه ولا لسنة بدلوها وشريعة غيروها اللهم الا لذنب واحد وهو ولايتهم لعلي صنو النبي ووصي النبي وابن عمه وناصر دينه في المواقف كلها.

صبر على ذلك كله لتبلغ الحجة ذروتها ويتبين الرشد من الغي ولتعلم الامة الى أين تصير والى أي هوة تسير وكيف يتصرف الراعي بها وهي الرعية.

صبر على ما يفتأت على شريعة جده. وما يوضع على لسانه من الاحاديث وما يكذب عليه وما يغير ويبدل من شرعه.

صبر على الداهية الكبرى في الاسلام وآخر ما يفرغه معاوية من كنانة افتأته على المسلمين والاحتكام في اعشارهم وابشارهم ألا وهي حملهم مكرهين اوطائعين على بيعة ولده يزيد وهو من هو وماذا يستجمع من ادوات الملك واسباب السلطان والمؤهلات لهما.

صبر على كل دواهي معاوية في حياة معاوية اما وقد مات معاوية وانتهى الامر الى يزيد شارب الخمور ومرتكب الفجور فقد بلغ العدد بسكوت الحسين مقطعه وعيل صبره ويزيد يحمله مكرهاً او طائعاً على البيعة له وهي ما لا يقره عليهادينه ولا إباؤه وفضله وقد انتهت سلسلة مظالم معاوية الى سلسلة مظالم يزيد وهي اشد خطراً على الاسلام وعلى جامعة الاسلام فآن للحسين ان يثور وقامت عليه حجة الله البالغة بالقيام في هذه الثورة سواءاً اكتب له فيها النصر ام لم يكتب وهو جد عالم مما ظهر من اقواله انه مغلوب في ميادين النـزال والنضال وانه مخذول من الكوفيين الذين خذلوا أباه وأخاه من قبل وان بالغوا في كتبهم الزاخرة التي بلغت اثني عشر الف كتاب باعدادهم العدة لمحاربة عدوه وقد عقد له البيعة بالخلافة والامامة ثمانية عشر الف منهم على يد مسلم بن عقيل رسول الحسين اليهم وسرعان ما نقضوا البيعة وقد ولي امر الكوفة مع ولاية البصرة عبيد الله بن زياد لم يفت هذا الانتقاض المخزي من عضد الحسين ولا انتقص شيئاً من صبره العظيم ولا حمله على الرجوع عن قصد الكوفة غدرالكوفيين بمسلم وهاني بن عروة بل صبر ووطن نفسه على احتمال كل مكروه في سبيل الذود عن الدين.
صبر على ملاقاة الاعداء وان غصت بجموعهم المتدفقة تدفق الآتي لهوات الفلوات وملأوا فضاء كربلاء بخيلهم ورجلهم لم يذهب بجميل صبره تساقط القتلى من انصاره واهل بيته وبنيه واخوته وبني عمومته القتيل تلوا لقتيل وهو ينظر بام عينه مصارعهم محتملين حر القيظ وحر السيوف وحر الظمأ وماء الفرات منهم قاب قوسين او أدنى.
صبر على ذبح طفله في حجره وعلى عطشه الممض وعلى لوعة النساء وهن يشاهدن مصارع نجوم الارض من بني عبد المطلب واسود الكريمه من بني هاشم وفلذات اكباد محمد وعلي وفاطمة صلوات الله عليهم.

له الله مفطوراً من الصبر قلبه **** ولو كان من صم الصفا لتفطرا

ولو ان مصيبة واحدة من هذه المصائب عرضت لانسان مهما تدرع بالصبر وتجلبب بالحزم والعزم ومهما بلغ من أيد وقوة وحكمة وبصيرة لأوهنت منه كل تلك الخلال واستسلم للضعف النفسي فكيف لمن كابد مما كابد من تلك الرزايا التي لا تعرف الحدود والرسوم وهو لا يزداد الا نشاطاً واقداماً على كل مكروه في سبيل الغاية الشريفة التي هي جزء من نفسه والتي سمت بروحه ان تستسلم للجزع وان تضرع لخطب مهما عظم وجل وتجردت عن الهيولي واتصلت بعالم الروح والملكوت الاعلى حتى لم تعرف معنى للآلام ولا تحس بما تحس منها الاجسام وهكذا ترتفع النفوس الى ان تلتحق بمثلها الأعلى عازفة عن ملذات الحياة ومتعها الفانية الزائلة.

هذه هي المزايا التي هي من صنع الحسين وغير صنعه أتصف بها اتصافاً اصبح بها نسيج وحده وسمت به من العالم المنظور الى العالم غير المنظور بل ومن عناصرها تكون خلقاً سوياً.

-ج- الى هنا انتهت حياة الحسين


 ولئن كانت كلها آلاماً بل مجموعة من كل عناصر الآلام واحدقت بها المكاره من كل جانب واشدها على نفسه الشريفة ما كان يرى ويسمع من ظلم رائع ومن بدع في الدين وافتأت باشيخة المسلمين وفساد تسرب الى اخلاق الامة التي هي الوسط من الامم.

انتهت حياة الحسين الى هذا المصير المؤلم ولكن الى حياة جديدة متصلة بالخلود بنعيمه الآخروي وبذكرى سامية كلها عبر وعظات تعلم الانسان معنى الانسانية المجهول والمحجوب بحجب المادة الكثيفة باشياء الحياة التافهة التي يشارك فيها الحيوان الانسان.

اما مالحياة الحسين الثانية التي لا يمسها نصب وتعب ولا يصل اليها فناء وزوال وهي بداية نهاية حياة لم تنطو إلا على كل معاني الانسانية وتعلم الناس كيف يكون الهبوط الى الدرك الأسفل وكيف يكون الصعود الى المرتقى الأسمى فاليك بعض آثارها الغر وبعض دروسها العالية التي القيت على البشرية الزائفة عن الطريق السوي والنهج القويم.

1-الثورة على الظلم وكيف يقوض الثائر للحق بمبادئه وتضحيته بنفسه وبمن يملك قيادة عروش المالكين الغاصبين لا بالمقانب والجحافل.

2-تعليم الناس ان كل قوة مهما نبلت وضخمت مستمدة من العسف تنهزم امام قوة الآحاد المستمدة من الحق.

3-إباء الضيم وما احب احد الحياة إلا ذل والناس من خوف الذل في الذل.

4-سيرة مجموعة من عناصر الفضائل النفسية هي منار للقدوة الصالحة وعزاء لكل من أصيب بمكروه وهي في كل ملابساتها وما يتصل بها منتهى صيغ جموع مكاره الدنيا ونوائبها ومصائبها.

5-مادة للبلغاء والشعراء والخطباء لا ينضب معينها وموضوع لم تتكمل وصف عجائبه وغرائبه منذ يوم كربلاء الى يوم الناس هذا روائع الشعر ولا بدائع النثر وكل من شعر ونثر وفن كتب وخطب قديماً وحديثاً يجدون ان مجال القول ذو سعة وانهم لم يبلغوا من تصوير تلك الفاجعة المبلغ الذي تستحقه.

6-ايقاظ الأمة من سباتها العميق وبعثها بعثاً جديداً الى مقاومة الظلم والوقوف امام قوى الظالمين والرجوع بكثير منها الى سيرة الآباء والاجداد من اباء الضيم ومناضله من يتحكم في امورها وفتأت بحقها وكان من آثار هذه اليقظة والبعث تصدع بنيان الملك العباسي الهاشمي على اساس قتل الحسين ومآسي كربلاء.

7-امحاء ذكر الامويين من سجل الوجود اللهم الابكل ما يخزي وشذ ان ترى منتسباً اليهم او من يرضى بان ينتسب اليهم انهم لم يدرجوا كلهم فلم يعقبوا وعلى عكس ذلك ترى الذكر للهاشميين عامة وللعلويين والفاطميين خاصة محاطه بهالة من الشرف والكرامة والسؤدد والفخر ونسبهم تتضاءل دونه الانساب ويعترف كل ذي نسب مهما سما وعلا بتفوق انساب العلويين على نسبه واستأثروا من هذا الشرف الخالد بطرفيه من الاتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلي وفاطمة وبالحسين الذي زاده علواً وارتقاءاً واستهوى اليه افئدة العالمين بشهادته.

تلك الشهادة التي مازال بها الحسين حياً خالداً محاطاً بالذكر الخالد الى ان تقوم الساعة.

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).

إرسال تعليق