بقلم: الشيخ محمد البغدادي
القصد من وراء الحديث عن أبي الفضل إشغال الفكر والقلب والقلم بالمذاكرة والتأمل في جوانب هذه الشخصية، الفريدة المثال في طول التأريخ الإنساني، وفي المذاكرة إحياء للقلب، وشحذٌ للذهن، وبناء للشخصية الإيمانية، والقرب من المولى سبحانه.
إن هذه الشخصية العظيمة مما لا جرأة لي ولمثلي في التطاول لبيان مكامن العظمة فيها، وللإشادة بعظيم آثارها، وللإصحار بفضائلها فقد تكفل بهذا:
ألف: أهل بيت العصمة والطهارة
إذ ورد عنهم ما يكشف عن السر المستودع في هذه الذات، وعن طهارتها وعظمتها، بل احتوائها لأكرم الصفات. (أشهد لك بالتسليم والتصديق، والوفاء والنصيحة، لخلف النبي المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن فاطمة[1]، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم، أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنت فنعم عقبى الدار، لعن الله من قتلك ولعن الله من جهل حقك، واستخف بحرمتك، ولعن الله من حال بينك وبين ماء الفرات، أشهد أنك قتلت مظلوماً، وأن الله منجز لكم ما وعدكم)[2].
ذات نشأت في بيت النبوة والإمامة، ومهبط الملائكة، ومعرض أقدس أعمال ولد آدم عليه السلام. فملأ توجيه تلك الدار كل كيانها، فأضحت كما أريد لها وكما ينبغي لها أن تكون.
باء: سمو أعمالها نهض بها، فما تخفى على عدوٍ، أو حبيب
إذن ما علينا إلا استطلاع ما ظهر لنا من أعمالها لاستيعاب مداليله في عظمة هذه الشخصية، وفي تقويم ذواتنا، وكذلك اقتباس ما ورد عن أهل العصمة عليهم السلام للنظر إلى جوهر تلك الذات، وما احتمل أن نبلغ في معرفتنا غير القليل، وقد ورد عن الإمام السبط الشهيد عند مصرع أبي الفضل عليه السلام: «الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوي»[3].
مع المعصوم
كل ما نحكيه في سطور هذه المقالة من خصائص ومزايا أبي الفضل فإنما هو مع ملاحظة كونه معاصراً لأعظم المعصومين في تاريخ البشرية.
ولو افترضنا أن أبا الفضل ــ بنفس خصائصه وخصاله المتوفرة فيه ــ كان في حقبة لا معصوم فيها، لكان الإنسان الأول في الفضل والكمال فلا يلحقه لاحق فضلاً عن أن يسبقه سابق ولكان سيد البشرية في أيامه وعظيمها.
غير أن وجود الإمام الحسين ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته في أمته ــ والإمام عظيم دهره بلا استثناء ــ فكانت أنظار الأمة متوجهةً إلى الإمام دون غيره.
محدودية البحث في أبي الفضل عليه السلام
في كتاب لنا حول مسلم بن عقيل توسعنا في الحديث عن مسلم وعن جوانب عديدة تتعلق به وبمواقفه وحركته في ضمن القضية الحسينية. إلاّ أن من قبيل هذا التوسع في البحث، لم يحصل لأبي الفضل كما هو الحال في مسلم، ولعل الوجه في هذا واضح، ولا بأس في التأكيد:
ألف ــ إذ إن مسلماً كان القائد المباشر لمقطع من حركة الإمام الحسين عليه السلام فكان هو الموجه للأحداث وهو الذي يصدر عنه الأمر والنهي، بينما كان المباشر لقيادة الحركة فيما بعد هو الإمام عليه السلام وكان أبو الفضل سنده وعضده ووزيره.
باء ــ إن حركة مسلم وقيادته وإدارته للأحداث قد ترتّبت عليها نتائج مهمة ومصيرية بالنسبة للحركة الحسينية ككل بحيث بدأت علائم نجاحها منها حين التف أهل الكوفة حول مسلم وبايعه حينها ثمانية عشر ألفاً خلال أيام، كما بدأ انقلاب الناس وانفلات الأمور وسير الأحداث بالاتجاه المعاكس في أثناء حركة مسلم كذلك.
لكن الواضح من النصوص أن الأثر الحميد بمرقاة أعلى والمنزلة الأسمى كانت لأبي الفضل ولعل هذا يعود لعاملين:
أ) مواقف خاصة لأبي الفضل في حركة الطف، والتي بلغت به مقامه الخاص.
ب) خصائص ذاتية لأبي الفضل قبل الطف وبغض النظر عن حركته فيه.
وأمر آخر يجدر الالتفات إليه
إن المقدار المتوفر من النصوص الحديثية والروائية المتعلقة بأبي الفضل عليه السلام قليل جداً، فلم يستوعب مساحة كبيرة من حياته المباركة، نعم نقلت عن سيرته في الطف مجموعة مهمة من الأخبار.
والسر في هذه القلة
1 ــ وجوده في عصر المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهذا يؤدي إلى توجه الأنظار نحو المعصوم والاهتمام بنقل ما يتعلق به بشكل أوفر.
2 ــ شموله بما أصاب أهل البيت النبوي من ظلم مختلف طبقات الأمة نتيجة مواقف السلطات الحاكمة وضغوطها وإرهابها، ونتج عن هذا عدم اهتمام كثير من المؤرخين والمؤلفين ــ من العامة ــ بنقل تفاصيل حياته.
3 ــ يظهر من خلال التأمل في ثنايا سيرة أبي الفضل وشخصيته أنه عليه السلام كان قد أذاب ذاتيته في جنب إمامه الحسين عليه السلام وغفل عن نفسه بالتمام، ولذلك لم يسمع له تفرد في موقف أو بروز عنوان مستقل له في المجتمع كما كان الأمر في أخيه ــ ابن الحنفية ــ كما لم ينقل عنه أي موقف في قبال موقف الإمام المعصوم، أو أقل مرتبة من الاعتراض عليه وكذلك كانت العلاقة بين الحسن والحسين عليهما السلام ــ أي: مرتبة عالية من الطواعية التامة والتفاني في جنب الإمام المعصوم وولي الأمر عن الله ورسوله وبأمر الله ورسوله ــ بينما نجد هناك مواقف لأخوة الإمام الحسين عليه السلام ليست بمرتبة طواعية أبي الفضل.
فينقل مثلاً عن ابن الحنفية أنه نصح أخاه بعدم السير إلى العراق وبعدم الإصغاء لهتوف أهل الكوفة وفي هذا الموقف غفلة ــ بحسب ظاهر الحال ــ عن إمامة الإمام الحسين عليه السلام وعن عصمته وعن علمه المفاض من الله ورسوله والذي يقتضي في الإمام عليه السلام حسن اتخاذ الموقف وصوابيته وسداده مهما ادلهمت الخطوب وتكاثفت الظلمات، فإن الإمام مصباح هدى للعالمين فضلاً عن نفسه المقدسة، وهذا هو معنى الإمام، بينما لا نجد أدنى مرتبة من مثل هذا الموقف ينطلق عن أبي الفضل، وما هذا إلا لنكرانه لذاتيته بالمرة مطاوعةً لإمامه، ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته الحق في أمته.
ــــــــــــــــ
[1] نقل في ضياء الصالحين ص225 عن كامل الزيارات وجود فقرة ــ وعن فاطمة ــ ولم نعثر عليها عند مراجعة نسخة كامل الزيارات المتوفرة لدينا.
[2] كامل الزيارات للشيخ ابن قولويه: ص44، والنص مروي عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام في زيارة لأبي الفضل عليه السلام.
[3] العباس بن علي للشيخ القرشي: ص224؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج45، ص42، دون ذكر الفقرة الأخيرة.
إرسال تعليق