بقلم: الشيخ وسام البلداوي
لقد كان وما يزال حديث الوصية بكتاب الله سبحانه وبأهل بيت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم غصة في حلق طائفة من أهل الحديث، لم يستسيغوها وحاولوا الخلاص منها بشتى الطرق، فلما أعياهم الطلب، وأتعبهم حديث الثقلين وما انطوى عليه من الولاية الصريحة لعلي ولأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عمدوا إلى حديث قد ثبت بالدليل ضعفه وكذبه، فاعتمدوه وصححوه تجنيا وزورا ليقابلوا به حديث الثقلين المتواتر.
وهذا الحديث هو ما يعرف بحديث (كتاب الله وسنتي) والذي أخرجه مالك بن انس في كتابه (الموطأ) حيث قال: (وحدثني عن مالك انه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه)[1].
أقول: وهذا الحديث لا ينفع لمعارضة حديث الثقلين المتواتر، لضعف جميع طرقه، فطريق مالك بن انس السابق مقطوع من حيث السند، لأنه من بلاغات مالك بن انس في الموطأ حيث لم يبين مالك بن انس كيف وعن أي طريق قد بلغه قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وما لم يعرف الطريق والسند لا يمكن القول بصحته لاحتمال ان مالك بن انس قد بلغه ذلك عن ضعيف أو كذاب أو مدلس، وبالجملة لا يمكن اعتماد حديث مالك وبلاغه لأنه مقطوع، والمقطوع داخل في قسم الضعيف الذي لا يحتج به.
محاولة ابن عبد البر الاعتذار عن إخراج مالك بن انس للحديث مقطوعا
وقد حاول ابن عبد البر جاهدا الاعتذار عن إيراد مالك بن انس لهذا الحديث مقطوعا بقوله:: (وهذا أيضا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد)[2].
أقول: فلينظر القارئ الكريم كيف يكيل القوم بمكيالين، فقد رأينا سابقا كيف وقف علماء أهل السنة ومحدثوهم بوجه حديث الثقلين؛ لأنه لا ينسجم مع منظومتهم الفكرية ومتبنياتهم العقائدية، وكيف هم الآن يدافعون عن حديث مرسل ضعيف لمجرد أن لهم فيه هوى، أو أن لهم فيه مآرب أخرى، فكيف أصبح يا ترى الحديث الضعيف المرسل محفوظا معروفا مشهورا شهرة يستغني بها عن الإسناد، لله درك يا ابن عبد البر! ما أعظم إنصافك! فأين هذه الشهرة وأين مصاديقها، وإذا كان هذا الحديث محفوظا معروفا عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فكيف لم يقف عليه مالك بن انس ولماذا اضطر مالك إلى إرساله بعد أن لم يستطع وصله؟ أو انه تعمد إرساله ليخفي ضعف رجاله كما سنقف عنده في النقطة اللاحقة ان شاء الله تعالى.
محاولة ابن عبد البر إسناد الحديث وفشله في ذلك
وقد حاول ابن عبد البر جاهدا أن يصل ما قطعه مالك فلم يفلح، فحاول إخراج الحديث بطريقين وحكم عليهما بالصحة، فقال في ذكر الطريق الأول: (وروي في ذلك من أخبار الآحاد أحاديث من أحاديث أبي هريرة وعمرو بن عوف حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن سليمان البغدادي قال حدثنا البغوي قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا صالح بن موسى الطلحي قال حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم إني قد خلفت فيكم اثنتين لن تضلوا بعدهما أبدا كتاب الله وسنتي)[3].
ثم ذكر الطريق الثاني بقوله: (وحدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن إبراهيم الديبلي قال حدثنا علي بن زيد الفرائضي قال حدثنا الحنيني عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم)[4].
أقول: لا حجة في كلا الطريقين اللذين استشهد بهما ابن عبد البر لضعفهما، فالطريق الأول فيه (صالح بن موسى الطلحي) وهو: (صالح بن موسى بن إسحاق ابن طلحة بن عبيد الله الطلحي التيمي، الكوفي) من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين روى عنه الترمذي وابن ماجة وهو متروك واه، قال عنه ابن معين: (ليس حديثه بشيء)[5].
وقد ذكره النسائي في (كتاب الضعفاء والمتروكين) بقوله: (صالح بن موسى الطلحي متروك الحديث)[6].
وكذلك ذكره الرازي في (الجرح والتعديل) عن: (عبد الرحمن قال سألت أبي عن صالح بن موسى الطلحي فقال: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا كثير المناكير عن الثقات. قلت يكتب حديثه؟ قال: ليس يعجبني حديثه)[7].
وقال السمعاني: (كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات حتى يشهد المستمع لها أنها معمولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به)[8].
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (صالح بن موسى الطلحي وهو ضعيف ضعفه الأئمة)[9].
وأما الطريق الثاني ففيه (كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف) روى عنه البخاري وابو داود والترمذي وابن ماجه، وهو ضعيف متروك كذاب، قال عنه يحيى بن معين: (كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ليس هو بشيء)[10].
وقال عبد الله بن احمد بن حنبل: (وضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ولم يحدثنا بها في المسند)[11]، وفي مسند احمد المطبوع والمتوفر في الأسواق وفي المكتبات العامة يوجد حديث لكثير بن عبد الله[12]، وهو تحريف واضح لكتاب المسند يضاف الى ما سبق الكلام عنه في فصل سابق.
وقال النسائي: (كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك الحديث)[13].
وقال ابن الجوزي: (كثير بن عبد الله وهو كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني. قال أحمد بن حنبل: لا يحدث عنه، وقال مرة: لا يساوي شيئا، وقال يحيى بن معين: حديثه ليس بشيء لا يكتب. وقال النسائي والدارقطني: هو متروك الحديث. وقال الشافعي: هو ركن من أركان الكذب. وقال أبو حاتم بن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب)[14].
وقال ابن حجر: (قال الآجري سئل أبو داود عنه فقال كان أحد الكذابين سمعت محمد بن الوزير المصري يقول سمعت الشافعي وذكر كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف فقال ذاك أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب)[15].
فإسناد كلا الطريقين ضعيف، ولا يستطيعان إخراج مالك من ورطته، فيسقط الاحتجاج بهما ولا يصلحان لمعارضة حديث الثقلين المتواتر سندا ومعنى.
محاولة الشيخ الألباني الوهابي تصحيح طريق أبي هريرة وفضح كذبته
وقد حاول الشيخ الألباني عبثا وتكبرا تصحيح هذا الحديث في كتابه (الحديث حجة بنفسه) بقوله: (عن أبي هريرة...قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم «ما تمسكتم بهما» كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض». أخرجه مالك مرسلا والحاكم مسندا وصححه)[16] وقد صححه وحسنه في مواضع أخرى يطول ذكرها.
أقول: وقد كذب الألباني على الحاكم النيسابوري حين ادعى بان الحاكم النيسابوري قد صحح حديث أبي هريرة، فحينما رجعنا إلى كتاب المستدرك لم نجد الحاكم قد علق شيئا على الحديث كعادته، لان الحاكم اعتاد بعد إيراده للأحاديث أن يقول مثلا، (على شرط الشيخين ولم يخرجاه) أو (على شرط مسلم أو البخاري وحده ولم يخرجاه) أو غير ذلك من التعليقات، ولكنه وبعد إيراده لهذا الحديث سكت عن التعليق عليه، لعلمه بضعف رجاله، فمن أين حصل اليقين للألباني بان الحاكم قد صححه، وهو تجنٍّ واضح وتكلف مفضوح.
محاولة ثانية للشيخ الألباني لتصحيح طريق ابن عباس وفشله في ذلك
وقد صحح الألباني حديثا آخر عن ابن عباس: («أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه» رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد احتج البخاري بعكرمة واحتج مسلم بأبي أويس وله أصل في الصحيح)[17].
أقول: سند رواية الحاكم هكذا: («حدثنا» أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أنبأ العباس بن الفضل الأسفاطي ثنا إسماعيل بن أبي أويس «وأخبرني» إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني ثنا جدي ثنا ابن أبي أويس حدثني أبي عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله...)[18].
فكلا الإسنادين مداره على (إسماعيل بن أبي أويس) وهو ابن أخت مالك بن انس صاحب كتاب الموطأ، وهو ممن تضاربت به أقوال أهل الجرح والتعديل، والذين ضعفوه وقدحوا في حفظه وأمانته هم الأكثر، وقد لخص المزي في (تهذيب الكمال) الاقوال فيه فقال: (وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: صدوق ضعيف العقل، ليس بذاك، يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه، أو يقرأ من غير كتابه. وقال معاوية بن صالح عن يحيى: أبو أويس وابنه ضعيفان. وقال عبد الوهاب بن أبي عصمة، عن أحمد بن أبي يحيى، عن يحيى بن معين: ابن أبي أويس وأبوه يسرقان الحديث. وقال إبراهيم بن عبد الله الجنيد، عن يحيى: مخلط، يكذب، ليس بشيء. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مغفلا. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال أبو القاسم اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه، إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره، لان كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف. وقال أبو أحمد بن عدي: وابن أبو أويس هذا روى عن خاله مالك أحاديث غرائب، لا يتابعه أحد عليه...)[19]
والدارقطني كان لا يجعل حديثه من قسم الصحيح، قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): (وقال الدارقطني: لا اختاره في الصحيح)[20].
وكان يضع الحديث لأهل المدينة عند وقوعهم في الاختلاف، قال الدارقطني: (قال لي سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم)[21]، فهو إذن من الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يقبل ويصحح لمن هو شأنه هذا؟!.
ولكن القوم وقعوا في حرج شديد؛ لان كلاً من البخاري ومسلم وباقي أصحاب الصحاح والمسانيد باستثناء النسائي، قد اخرجوا له أحاديث كثيرة، فوقع القوم في حيص وبيص إلى أن جاء ابن حجر ليتخذ له طريقاً وسطى، فأوصى بقبول أحاديثه التي في داخل الصحيحين، وأما ما كان خارج الصحيحين فيحكم عليها بالضعف، قال ابن حجر: (إسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس احتج به الشيخان إلا أنهما لم يكثرا من تخريج حديثه ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري وروى له الباقون سوى النسائي... وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه)[22].
أقول: وحتى لو أخذنا برأي ابن حجر فلا يمكن أن نصحح حديث ابن عباس الذي صححه الشيخ الألباني، لان رواية إسماعيل بن أبي أويس لم ترد في الصحيحين، ولا رواية أخرى صحيحة تشاركها فتبقى على ضعفها وبها ينكشف عدم وثاقة الألباني وغيره ومصداقيتهم في تصحيح الأحاديث المعارضة لأحاديث فضائل أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وبهذا ينتهي الكلام من حديث الثقلين وقد تركنا من محاولات القوم الشيء الكثير طلبا للاختصار، ولان الغرض الأساس هو عرض بعض النماذج لا استقصاء جميعها، والحمد لله أولا وآخرا ونسأله المزيد.
ـــــــــــــــ
[1] الموطأ لمالك بن انس رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي ج2 ص480، حديث رقم: 2618، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه الدكتور بشار عواد معروف، طبعة دار العرب الإسلامي.
[2] التمهيد لابن عبد البر ج 24 ص 331.
[3] التمهيد لابن عبد البر ج 24 ص 331.
[4] المصدر نفسه.
[5] تاريخ ابن معين برواية الدوري ج 1 ص 166.
[6] كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي ص 194.
[7] الجرح والتعديل للرازي ج 4 ص 415.
[8] الأنساب للسمعاني ج 4 ص 70.
[9] مجمع الزوائد للهيثمي ج 2 ص 297.
[10] تاريخ ابن معين برواية الدوري ج 1 ص 171.
[11] العلل لأحمد بن حنبل ج 3 ص 213.
[12] مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 306.
[13] كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي ص 228.
[14] الموضوعات لابن الجوزي ج 1 ص 197.
[15] تهذيب التهذيب لابن حجر ج 8 ص 377.
[16] الحديث حجة بنفسه ج1 ص32.
[17] صحيح الترغيب والترهيب ج1 ص10 حديث رقم37.
[18] المستدرك للحاكم النيسابوري ج 1 ص 93.
[19] تهذيب الكمال للمزي ج 3 ص 127 ــ 129.
[20] تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 409.
[21] سؤالات البرقاني الدارقطني ص 47.
[22] مقدمة فتح الباري لابن حجر ص 388.
إرسال تعليق