بقلم الشيخ وسام برهان البلداوي
قد وقع كل المتأخرين الذين انتصروا لمنهج المتقدمين في الجرح والتعديل في ورطة كبيرة، ومعضلة عظيمة، إذ وجدوا أنفسهم أمام إشكال كبير جدا، وهو ان المتقدمين من المحدثين وأهل الجرح والتعديل، لم يكن لديهم منهج محدد وواضح في التعامل مع الأحاديث النبوية.
ووجد المتأخرون أيضا أنفسهم أمام عدة مناهج متناقضة ومتضاربة للمتقدمين، فأحمد بن حنبل يقوي حديثا، ومسلم النيسابوري يضعفه، ومالك يصححه، والبخاري يرفضه، والترمذي يحسنه، وغيره يكذبه، ومن دون أن يبينوا في كثير من الأحيان سبب ردهم وتضعيفهم أو علة تأييدهم وتقويتهم.
فضلاً عن الاختلاف والتناقض في منهج المحدث الواحد، فنراه يرفض التدليس لكنه يخرج لمئات من المدلسين، ويضعف مجهول العدالة ويخرج لعشرات منهم، وهكذا، وقد مر في الفصل السابق كثير من الشواهد الدالة على هذا التناقض في المناهج.
ولهذه الأسباب وغيرها وقع المتأخرون في حيص وبيص كما يقول المثل الشائع، وحاولوا تفسير هذا التناقض والتضارب في المناهج بكلمات لا تصمد أمام النقاش العلمي، ولما عجزوا عن تفسير الأمر حاولوا سد باب النقد والاعتراض بوجه كل من يريد معرفة العلل والأسباب التي كان القدماء يبنون عليها أحكامهم في التصحيح والتضعيف وفي الجرح والتعديل، وفسروا المسألة بأنها حالة قلبية وأمر نفسي يمر على المحدثين فيستشعرون معها بصحة الحديث أو عدم صحته.
قال السخاوي في (فتح المغيث): (وقال ابن مهدي هي إلهام لو قلت للقيم بالعلل من أين لك هذا لم تكن له حجة)[1].
ونقل السخاوي عن آخر: (ونحن نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح أن يكون كلام النبوة ونعرف سقمه ونكارته بتفرد من لم تصح عدالته وهو كما قال غيره أمر يهجم على قلبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها)[2].
وهو أمر مضحك وخطير في الوقت نفسه، لأنه يجعل السنة النبوية خاضعة لميول المحدثين ورغباتهم واعتقاداتهم ونوازعهم، ويصيرها متأثرة بالعقد النفسية والمتبنيات المذهبية لذلك المحدث، فما وافق تلك الرغبات والمتبنيات والاعتقادات يكون صحيحا وما خالفها يكون مكذوبا ويحكم عليه بالضعف وعدم الاعتبار.
وقد زادوا الطين بلة حينما لم يكتفوا بالاعتراف بعدم وجود قواعد وأسس منطقية لعملية التقييم، فأوجب كثير منهم اتباع المتأخرين لحكم المتقدمين وتقليدهم في جرحهم وتوثيقهم وتصحيحهم وتضعيفهم من دون السؤال عن أسباب قدحهم ودواعي جرحهم، وفي هذا الصدد يقول إسماعيل بن كثير الشافعي: (أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفته، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح)[3].
فيتضح من ذلك ان القدماء في حكمهم على الأحاديث ليس لهم قواعد محددة ومتفق عليها، فهم كما صرح بعضهم يتبعون حالة نفسية تهجم عليهم فيحكمون على الأحاديث بما يتلاءم وتلك الحالة، ولو سلمنا جدلا بوجود قواعد لهم فانهم لا يلتزمون بها من الناحية العملية التطبيقية، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) إذ قال وهو يتحدث عن مسألة زيادة الثقة ومدى قبولها: (الذي يظهر من كلامهم خصوصا المتقدمين كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وهذه الطبقة ومن بعدهم كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين ومسلم والترمذي والنسائي وأمثالهم والدارقطني والخليلي كل هؤلاء مقتضى تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث وهذا هو الحق)[4].
ــــــــــــ
[1] فتح المغيث شرح ألفية الحديث للشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي ج1 ص235.
[2] المصدر السابق ص236.
[3] الباحث الحثيث في اختصار علوم الحديث لإسماعيل بن كثير الشافعي ص11.
[4] النكت على مقدمة ابن الصلاح لبدر الدين الزركشي ج2 ص175 ــ 176.
إرسال تعليق