بقلم الشيخ وسام برهان البلداوي
قد تفنن أصحاب رايات الضلالة والانحراف طوال فترة الغيبة الكبرى في اختلاق مختلف الأكاذيب، وتقمص مختلف الشخصيات التي ورد لها ذكر في روايات أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وأحاديثهم، كاليماني الذي وصفت رايته وحركته بالهدى والسداد، وكالخراساني الذي يخرج في نفس سنة اليماني والذي يكون من أصحاب السداد والهدى أيضا.
ولعل أعجب دعوى ادعيت هي دعوى من قال: إنه ابن الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه ، وانه المرسل من قبل أبيه في عصر غيبته الكبرى التامة، وانه وزيره في أيام ظهوره وحكمه، وانه الحاكم الذي سينصب خليفة للإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه من بعد موته ورحيله من هذه الدنيا، وانه سيخرج من صلبه اثنا عشر مهديا سيحكمون من بعده وبعد الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه ، وانهم وإياه المهديون الذين بشر بهم الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في أحاديثهم، وقد ترقى هذا المدعي في ترهاته حتى ادعى زيادة على ما مر بأنه اليماني، وانه إمام معصوم، مفترض الطاعة شأنه شأن بقية الأئمة الاثني عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهو بقية آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهو الركن الشديد الذي سيركن إليه الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهو أيضا المؤيد بجبرائيل والمسدد بميكائيل صلوات الله وسلامه عليهما ، والمنصور بإسرافيل صلوات الله وسلامه عليه ، إلى غير ذلك من أنواع الأوصاف والألقاب التي أطلقها الرجل على نفسه جزافا ومخالفة لما أجمع عليه أساطين المذهب وكل أفراده.
وقد تشبث مدعي وجود الزوجة والأولاد للإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه في غيبته الكبرى بعدة روايات متشابهة، وأدلة واهية، بذلوا فيها الجهد الجهيد، والسعي الحثيث، لإثبات ما دون إثباته خرط القتاد، والتي كان أكثرها بل كلها مترددا ما بين الوهم والغلط في فهم الروايات الشريفة إما تعمدا أو جهلا، وما بين تلبيس من إبليس أعاذنا الله منه وجميع المؤمنين. وفيما يأتي واحدة من تلك الشبهات التي حاولوا عبثا تسخيرها لخدمة افكارهم الضالة.
الزواج مستحب والإمام أولى بفعل المستحب
قال المدعي: إن الزواج والذرية من سنن الله ــ سبحانه وتعالى ــ في خلقه، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين، واستحبابه مؤكد على لسان الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وإذا كان الزواج بهذه الدرجة من الأهمية، فالإمام أولى بتطبيقه وتحصيله، وعلى ذلك يكون زواج الإمام المهدي أثناء غيبته التامة الكبرى مؤكداً وقوعه، بل مقطوعاً بحصوله.
ويرد على هذه الشبهة: ان الزواج ليس مستحبا في كل صوره
ان الزواج ليس مستحبا بصورة مطلقة كما يريد ان يوحي إليه ذلك المدعي، بل ان الزواج شأنه شأن كل حادثة تجري عليه الأحكام الخمسة كما تجري في غيره من المواضيع.
قال الشيخ الجواهري قدس الله روحه : (فاعلم أن النكاح إنما يوصف بالاستحباب مع قطع النظر عن العوارض اللاحقة، وإلا فهو بواسطتها تجري عليه الأحكام الأربعة الباقية)[1] والأحكام الخمسة التي يكون عليها الزواج هي:
1: قد يكون الزواج مستحبا
قال الشيخ الجواهري قدس الله روحه : (النكاح مشروع، بل مستحب لمن تاقت واشتاقت نفسه إليه، من الرجال والنساء كتابا وسنة مستفيضة أو متواترة، وإجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين)[2].
وقال الشيخ احمد الوائلي قدس الله روحه : (رأي مجموعة من فقهاء الإمامية قالوا: النكاح مستحب في ذاته مع قطع النظر عن الطوارئ، واستحبابه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع)[3].
2: وقد يكون الزواج واجبا
قال الشيخ الجواهري قدس الله روحه : (فيجب ــ الزواج ــ مع النذر وشبهه، لرجحانه بالأصل، ومع ظن الضرر بالترك، لوجوب دفع الضرر المظنون، قيل: وعند خوف الوقوع في المحرم بدونه)[4].
وقال الشيخ سيد سابق: (الزواج الواجب: يجب الزواج على من قدر عليه، وتاقت نفسه إليه، وخشي العنت. لان صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب، ولا يتم ذلك إلا بالزواج)[5].
3: وقد يكون الزواج محرما أو واجب الترك
قال المحقق الاردبيلي قدس الله روحه : (وربما كان واجب الترك كما إذا أدى إلى معصية أو مفسدة، وعن النبي صلى الله عليه وآله: إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة من هجرتي فقد حلت لهم العزوبة والعزلة، والترهب على رؤوس الجبال، وفي الحديث: يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة... ويفهم من كلامه أن الأمر إذا آل إلى المعصية، يصير ذلك حراما، فيكون ما يتوقف ويحصل به الحرام حراما ككون ما يتوقف عليه الواجب واجبا)[6].
وقال الشيخ الجواهري قدس الله روحه : (ويحرم إذا أفضى إلى الإخلال بواجب، كالحج، ومع الزيادة على الأربع)[7].
وقال السيد اليزدي قدس الله روحه : (وقد يحرم كما إذا أفضى إلى الإخلال بواجب من تحصيل علم واجب أو ترك حق من الحقوق الواجبة...)[8].
4: وقد يكون الزواج مكروها
قال الشيخ الجواهري قدس الله روحه : (النكاح وإن كان مندوبا إلا أنه إذا توقف على مقدمات مكروهة مرجوحة سقط الخطاب باستحبابه حينئذ لا أنه ترتفع مرجوحية المرجوح له)[9].
وقال الشيخ سيد سابق: (الزواج المكروه: ويكره في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق، حيث لا يقع ضرر بالمرأة، بأن كانت غنية وليس لها رغبة قوية في الوطء. فان انقطع بذلك عن شيء من الطاعات أو الاشتغال بالعلم اشتدت الكراهة)[10].
5: وقد يكون الزواج مباحا
قال الشيخ الجواهري: «ويتصف بالإباحة إذا تضمن ترك النكاح مصلحة تساوي مصلحة الفعل، فإن ذلك قد يتفق، كما إذا خاف من تلف مال معتد به له بواسطة التزويج أو تضييع عيال له في محل آخر مع وجود الشهوة وكمال الرغبة»[11].
وقال الشيخ سيد سابق: «الزواج المباح: ويباح فيما إذا انتفت الدواعي والموانع»[12].
وقال الشيخ أحمد الوائلي: «وقد يكون مباحا كما إذا عارضه مستحب آخر يكون مساويا له في المصلحة»[13].
وبناء على ما تقدم من أحكام للزواج، نستطيع أن نقطع بان زواج الإمام المهدي حال غيبته التامة بالشكل الذي يدعيه الخصم، ليس غير ممكن وحسب بل هو مقطوع بعدمه، وداخل في حكم واجب الترك، لما في الإقدام عليه من المفسدة التي تفضي إلى الإخلال بواجب صيانة سرية الغيبة وتماميتها ولزوم صيانة السر وعدم هتكه، إذ ان وجود الذرية والزوجة مساوق عرفا لانكشاف الحال وكشف السر، وفي هذا الصدد يقول السيد محمد الصدر قدس الله روحه : «إن وجود الذرية ملازم عادة لانكشاف أمره والاطلاع على حقيقته. فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع جهل زوجته وأولاده بحقيقته، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر الالتفات. ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية؟! فإنهم أو بعضهم ــ على أقل تقدير ــ يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب. ومعه يكون دائماً تحت رقابتهم ومشاهدتهم. ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً طويلا. فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً، سوف يلاحظون بكل وضوح عدم ظهور أمارات المشيب والشيخوخة على والدهم وإنه بقي شاباً على شكله الأول، ومن ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي D، أو إنه فرد شاذ لابد من الفحص عنه والتأكد من حقيقته. وبالفحص ومداومة السؤال لابد أن يتوصلوا إلى الاحتمال على أقل التقادير، وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره. وأما لو بقيت ذريته فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح)[14].
وهذا الذي قطعنا به مؤيدا بالرواية المروية عن الإمام أبي الحسن الرضا صلوات الله وسلامه عليه حينما دخل عليه علي بن أبي حمزة فقال له: (أنت إمام؟ قال نعم، فقال له: إني سمعت جدك جعفر بن محمد يقول: لا يكون الإمام إلا وله عقب. فقال صلوات الله وسلامه عليه : أنسيت يا شيخ أو تناسيت؟ ليس هكذا قال جعفر، إنما قال جعفر: لا يكون الإمام إلا وله عقب إلا الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي فإنه لا عقب له فقال له: صدقت جعلت فداك هكذا سمعت جدك يقول)[15].
إذن: فدليل الاستحباب الوارد على لسان الآيات الكريمة والروايات الشريفة، لا يستطيع ان ينهض بما أراد المدعي إثباته من حتمية زواج الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه ، وحتمية حصول الذرية، استنادا إلى عموم أدلة استحباب الزواج، لان هذا العموم كما أوضحنا مقيد بقواعد عامة تسالم عليها المذهب، إذ مع وجود المفسدة والإخلال بالواجب لا يبقى استحباب للزواج، وكذلك هو مقيد بالرواية المروية عن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه ، وهو مقيد أيضا بالفهم العرفي الذي تم توضيحه من قبل السيد محمد الصدر قدس الله روحه ، وهو مقيد أيضا بالمنهج العام الذي انتهجه الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه في غيبته التامة الكبرى والقاضي بالتواري الكامل وعدم ترك أي أثر يمكن أن يدل عليه، وإخفاء كل خبر يمكن أن يوصل إليه، والزوجة والذرية من أعظم تلك الآثار التي يمكن أن تكشف أمره صلوات الله وسلامه عليه فلا شك في انتفائهما.
ــــــــــــــ
[1] جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج29، ص33.
[2] المصدر السابق: ص8.
[3] من فقه الجنس في قنواته المذهبية للدكتور الشيخ أحمد الوائلي: ص64.
[4] جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج29، ص33.
[5] فقه السنة للشيخ سيد سابق: ج2، ص15.
[6] زبدة البيان للمحقق الأردبيلي: ص505.
[7] جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج29، ص33.
[8] العروة الوثقى للسيد اليزدي: ج5، ص476.
[9] جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج29، ص9.
[10] فقه السنة للشيخ سيد سابق: ج2، ص18.
[11] جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج29، ص33.
[12] فقه السنة للشيخ سيد سابق: ج2، ص18.
[13] من فقه الجنس في قنواته المذهبية للدكتور الشيخ أحمد الوائلي: ص65.
[14] تاريخ الغيبة الكبرى للسيد محمد محمد صادق الصدر: ص63.
[15] كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: ص224. بحار الأنوار: ج25 ص251. دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري:ص436.
إرسال تعليق