بقلم: السيد عبد الله شبر
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الصوم جنة من النار[1].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تعالى[4]: الصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: حين يفطر وحين يلقى ربه عزّوجل، والذي نفس محمد بيده لخلوف[5] فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك[6].
وقال الكاظم عليه السلام : قيلوا فإن الله تبارك وتعالى[7] يطعم الصائم ويسقيه في منامه[8].
قيل: ولو لم يكن في الصوم إلا الارتقاء من حضيض[9] حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالملائكة الروحانية لكفى به فضلاً ومنقبة[10]، وإنما كان الصوم جنة من النار لأنه يدفع حر الشهوة والغضب اللتين بهما تصلى نار جهنم في باطن الإنسان في الدنيا وتبرز له في الآخرة. وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم : «ما لم يغتب مسلماً»[11] لأن الغيبة أكل لحم الميتة، فهو نوع من الأكل يقوى به البدن.
وإنما كان الصوم لله مع أن سائر العبادات له ــ كما شرف البيت بالنسبة إليه والأرض كلها له ــ لوجهين:
أحدهما: إن الصوم كف وترك، وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد وجميع الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى، والصوم لا يعلمه إلا الله.
والثاني: إنه قهر لعدو الله، فإن وسيلة الشيطان الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب[12]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع[13]، والشهوات مرتع الشياطين ومرعاهم.
وإنما كان خلوف الفم ــ وهو تغير رائحته ــ أطيب عند الله من ريح المسك لأنه سبب طيب الروح الذي هو عند الله من الإنسان كما أنه بدنه عند نفسه، وإليه أشير في قوله تعالى: {مٰا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمٰا عِندَ اللّهِ يبقى}[14]، وأين طيب الروح من طيب المسك؟ فإن الأول روحاني عقلي معنوي والثاني جسماني حسي صوري.
فصل
قال أبو حامد ما ملخصه: إعلم أن للصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص: أما «صوم العموم» فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوات.
وأما «صوم الخصوص» فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، ويتم بأمور ستة:
الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر الى كل ما يذم ويكره، بل كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله تعالى. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفاً من الله أتاه الله إيماناً[15] يجد حلاوته في قلبه[16]. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة[17].
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء. قال صلى الله عليه وآله وسلم : إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائماً[18] فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم[19].
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى المحرمات، إذ كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه. قال تعالى: {سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ}[20]. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : المغتاب والمستمع شريكان في الإثم[21].
الرابع: كف بقية الجوارح من اليد والرجل من المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، إذ لا معنى للصوم عن الحلال والإفطار على الحرام فيكون قد بنى قصراً وهدم مصراً، وشرب الدواء وأكل السم، لأن المحرمات سموم تهلك الدين والصوم دواء، ولا ينفع الدواء مع السم. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كم من صائم ليس له من صومه[22] إلا الجوع والعطش[23]. فقيل: هو الذي يفطر على الحرام. وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو الحرام. وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام[24]، ولعل المعنى أعم.
الخامس: أن لا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ، فما من وعاء أبغض إلى الله من بطن مليء من الحلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، ثم تفطم عن الشهوات إلى الليل حتى تهيج شهوتها وتقوى رغبتها، ثم تطعم من اللذات إلى أن تمتلئ؟! ولعلها لو تركت على عادتها لكان أولى، بل ينبغي أن يأكل الأكلة المعتادة ولا يملئ بطنه.
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أيقبل صومه فيكون من المقربين، أو يرد عليه فيكون من الممقوتين[25].
أقول: وإلى هذا النوع من الصوم أشير في ما روي عن الصادق عليه السلام قال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك...[26] وعد[27] أشياء غير هذا وقال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك[28]. ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع امرأة تسب جاريتها وهي صائمة فدعى بطعام فقال لها كلي، فقالت إني صائمة، فقال كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس من الطعام والشراب فقط[29].
قال أبو حامد: وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر في ما سوى الله واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك زاد الآخرة ـ انتهى[30].
وفي مصباح الشريعة : قال الصادق عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصوم جنة، أي ستر من آفات الدنيا وحجاب من عذاب الآخرة، فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات وقطع الهمة عن خطرات الشيطان، فأنزل نفسك منزلة المرضى لا تشتهي طعاماً ولا شراباً، متوقعاً في كل لحظة شفاءك من مرض الذنوب، وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة تقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله تعالى.
ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عزّوجل: الصوم لي وأنا أجزي به، فالصوم يميت مواد النفس وشهوة الطمع، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء وحبل الالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمة وتخفيف الحساب وتضعيف الحسنات. وفيه من الفوائد ما لا يحصى وكفى بما ذكرنا منبه لمن عقل ووفق لاستعماله[31].
ـــــــــــــــ
[1] مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: 666، شهر شوال، فصل في زكاة الفطر.
[2] في الفضائل: "على" بدل "في".
[3] فضائل الأشهر الثلاثة ، الشيخ الصدوق : 122 ، كتاب فضائل شهر رمضان/ ح124.
[4] في الفقيه: "تبارك وتعالى".
[5] الخلوف: تغير طعم الفم.
غريب الحديث، ابن سلام: 1/ 327.
[6] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق: 2/ 75، كتاب الصوم، باب فضل الصيام/ ح4.
[7] ليس في ثواب الأعمال: "تبارك وتعالى".
[8] ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق: 51، ثواب الصائم.
[9] الحضيض: قرار الأرض وأسفل الجبل.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 1/ 385، مادة "حضض".
[10] أسرار العبادات، الفيض الكاشاني: 250، أسرار الصيام، مدخل في فضل الصيام.
[11] أنظر: مصدر "الحديث الثاني" في بداية "الباب الثامن".
[12] أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 274، الباب السادس في الصوم.
[13] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/ 101، باب تهذيب الأخلاق.
[14] سورة النحل/ 96. ونصها: {ما عِندَكُمْ يَنفَدُ وَما عِندَ اللّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ ما كانُواْ يَعْمَلُونَ}.
[15] في المستدرك: "فمن تركها خوفا من الله أعطاه إيمانا".
[16] مستدرك الوسائل، النوري: 14/ 268، كتاب النكاح، باب تحريم النظر إلى النساء الأجانب وشعورهن/ ح5.
[17] مواهب الجليل، الحطاب الرعيني: 3/ 303.
[18] في المسند: "الصيام جنة فإذا كان أحدكم يوما صائما".
[19] مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني: 4/ 279/ ح 3284.
[20] سورة المائدة/ 42.
[21] كشف الخفاء، العجلوني: 2/ 215، حرف الميم/ ح2323.
[22] في البحار: "صيامه".
[23] بحار الأنوار،الشيخ المجلسي:93/294،كتاب الصوم،باب 36 آداب الصائم/ح24.
[24] أنظر: الفيض القدير، المناوي: 4/ 21 / شرح الحديث رقم 4404.
[25] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 1/ 221 ــ 223، كتاب أسرار الصوم، الفصل الثاني في أسرار الصوم وشروطه الباطنة.
[26] في الكافي الحديث متصل.
[27] في الكافي: "وجلدك وعدد أشياء".
[28] الكافي، الكليني: 4/ 87، كتاب الصوم، باب أدب الصائم/ ح1.
[29] أنظر: الإقبال، ابن طاووس: 86، الباب الخامس فيما نذكره من سياقة عمل الصائم، فصل فيما نذكره من كمال صفات الصوم.
[30] أنظر: إحياء علوم الدين، الغزالي: 1/ 221، كتاب أسرار الصوم الفصل، الثاني في أسرار الصوم و شروطه الباطنة.
[31] أنظر:مصباح الشريعة،الإمام الصادق عليه السلام :135 ــ 136، الباب الثالث والستون في الصوم.
إرسال تعليق