بقلم: السيد نبيل الحسني
إنّ بعض الآثار التي ظهرت كنتائج لوجود بنات الرسالة والأطفال في كربلاء كانت متمايزة في الظهور وذلك بحسب سعة دائرة تأثيرها ــ وعلى سبيل الإشارة ــ كالأثر الوجداني الذي سنتعرض لبيانه لاحقا فإنه قد شغل حيزاً كبيراً في النفس البشرية.
في حين نجد تجلي مصداق التوحيد في حركة العقيلة زينب الإصلاحية للمجتمع ينحصر في النخبة الذين أخذوا على عاتقهم حمل رسالة الإسلام ونشره بين الناس؛ أي أولئك الذين يبلغون رسالات الله تعالى.
فهؤلاء قد أخذت بهم المذاهب وعبثت بهم آراء الخلفاء وضاع الحديث حتى أصبح البعض منهم يرى بعض الأحاديث في معاوية قد ساوت بينه وبين جبرائيل وعلى لسان أحد أصحابه كأبي هريرة الذي قال: (الأمناء ثلاثة، جبرائيل ومعاوية وأنا)[1].
فحينما يكون معاوية كجبرائيل عليه السلام وفي رقبته دماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كحجر بن عدي ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر الذي يكشف مقتله عن أن معاوية إمام الفئة الباغية كيف سيكون حال التوحيد عند المسلمين وكيف ستكون صلاتهم وزكاتهم وحجهم وغيرها من فروع دينهم؟!
فإذا كان التوحيد وهو أساس بعث الأنبياء وقيام الرسالات بهذا المستوى الذي أصبح قاتل الحسن بن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهم كجبرائيل عليه السلام، فكيف سيكون التوحيد عند الناس؟!
من هنا: نلمس أن حركة أهل البيت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانت لغرض إقامة التوحيد فضلاً عن حروب أمير المؤمنين علي عليه السلام. فلأجل التوحيد خرج علي عليه السلام لحرب الناكثين في معركة الجمل، ولأجل التوحيد خرج لقتال القاسطين في صفين ولأجل التوحيد خرج لقتال الخوارج في النهروان.
فتلك الحروب التي غيرت مسار الرسالة المحمدية أخبر عنها رسول الله قائلاً: عن جابر بن يزيد الجعفي (عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: سمعت عماراً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أنا أقاتل على التنزيل وعلي يقاتل على التأويل». فقال علي عليه السلام: «صدق عمار ورب الكعبة، إن هذه عندي لفي ألف كلمة، تتبع كل كلمة ألف كلمة»)[2].
ولا أعتقد أن هناك مسلماً يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقاتل لغير التوحيد ولا أعتقد أن هناك مسلماً يعتقد أن النبي قاتل غير المشركين.
وعليه: حينما يقرن النبي حركته الجهادية التوحيدية بالقرآن ويلازمها بحركة علي أمير المؤمنين عليه السلام الجهادية التوحيدية فكانت الأولى على التنزيل والثانية على التأويل، وأن كلا القتالين إنما كان ضمن حدود كتاب الله تعالى فإن الذين قاتلهم علي عليه السلام هم بنفس المستوى العقائدي لأولئك الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
من هنا: كان صلح الإمام الحسن عليه السلام أو خروج الإمام الحسين عليه السلام بعياله وقتاله في كربلاء إنما لغرض التوحيد وإقامته في المجتمع المسلم ولولا ذلك لما بقي مسلم موحد ويكفي من الأدلة لمن بقي في نفسه شيء من عدم الاعتقاد بهذه الحقيقة أن ينظر إلى التاريخ ليرى أن الولاة الذين خدموا حكام بني أمية كانوا يدعون المسلمين إلى الطواف حول بيت عبد الملك بن مروان وهو خير لهم من الطواف حول قبر رسول الله! وأن مقام عبد الملك عند الله خير من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخليفة المرء خير من رسوله[3].
إذن: لابد من صرخة تتصدع تحتها تلك الرواسب التي رانت على عقول أولئك الذين يرون أنهم يدعون إلى التوحيد وأن رموز التوحيد لديهم هم الخلفاء: كمعاوية، ويزيد، وعبد الملك، وهارون، والمأمون، وفلان وفلان.
فكانت هذه الصرخة من فم ابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فم زينة أبيها العقيلة زينب عليها السلام، حينما بدا في منطقها التلازم بين مفهوم الجمال ومفهوم التوحيد ليتجلى مصداق الوحدانية لله تعالى في حركتها الإصلاحية لتلك النفوس التي نسجت من حولها خيوط عناكب بني أمية حينما بثت بين المسلمين أن الله تعالى هو الذي مكنهم من الجلوس في كرسي الحكم وهو الذي مكنهم من رقاب المسلمين ليدعوا الناس إلى التوحيد وكأن ليس هناك من موحد غيرهم.
بهذا الفكر الهدام وبهذه العقيدة الفاسدة يتوجه عبيد الله بن زياد الذي ارتضع من ثدي النفاق إلى ربيبة التوحيد وسليلة الطهر والنبوة زينب قائلاً لها: «كيف رأيت صنع الله بأخيك وبأهل بيتك»؟[4].
ونلاحظ هنا بوضوح: كيف يعتقد ابن زياد بأنه الموكل بحفظ التوحيد فهو يعرف الله تعالى وأن الله سبحانه هو الذي صنع بأخيها الحسين ــ عليه السلام ــ وبأهل بيتها كل تلك المجازر من تقطيع الرؤوس وذبح الأطفال حتى الرضيع وسبي النساء وسحق جسد الحسين بحوافر الخيل والتمثيل بالأجساد وغيرها من الجرائم كل هذا يجعله ابن زياد من صنع الله تعالى. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}.
لكن السؤال المطروح إذا كان الله تعالى قد صنع ذلك فبمن فعله، صنعه؟ أليسوا هؤلاء أهل بيت حبيبه وسيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وآله وسلم، فلماذا يصنع بهم ذلك، ألانهم خرجوا لإقامة التوحيد له سبحانه وحفظ شريعته من ابن زياد ومعاوية ومن ولاه على رقاب المسلمين؟!
إذن: المعركة معركة فكر، ومعركة توحيد: وما أشبه اليوم بالأمس! فما زال أتباع أهل البيت عليهم السلام يُفعل بهم ما فعله ابن زياد بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة هي نفسها: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟!!!
فكان جوابها أشد من سيوف الطالبيين وأمضى من ضربات الصالحين على تلك العقول المريضة لتستأصل بكلماتها تلك الأورام الخبيثة التي كادت أن تميت القلوب التي تستمع إليها.
فقالت صلوات الله وسلامه عليها: «ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة».
فهذه الكلمات التي لم تتجاوز السطرين هي في الحقيقة كالشطرين اللذين يمتاز بهما سيف علي بن أبي طالب عليه السلام، فكما أن تحت هذا السيف تجندل صناديد الشرك، كذاك تحت هذين السطرين انهارت صروح الطواغيت وأساطين النفاق، وذلك من خلال الأسس الإصلاحية الآتية:
1ــ تلازم مفهوم الجمال والتوحيد عند العقيلة زينب عليها السلام
من المفاهيم التي تألقت في كلام العقيلة زينب عليها السلام هو مفهوم التوحيد؛ والتوحيد كعقيدة إيمانية ترافق حركة الإنسان منذ ولادته ــ وهي الفطرة ــ إلى وفاته، فقد تفاوت الناس في هذه الرتبة الإيمانية وتفاوتوا في مفهومهم للتوحيد؛ حتى ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قيل له: يا رسول الله لقد شوهد عيسى بن مريم عليه السلام يمشي على الماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لو زاد يقينه لمشى على الهواء»[5]. وفي إبراهيم قال عزّ وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[6].
ومن هنا: نلمس أن مفهوم التوحيد عند العقيلة زينب عليها السلام يرقى إلى تلك الرتبة التي تحدث عنها القرآن الكريم والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فزينب الكبرى رأت بعين اليقين جمال الملكوت وأيقنت أن هذا الجمال والجلال لا يصدر إلا عن الجميل الذي أضفى من جماله على هذا الكون.
ثم إنها أيقنت أيضاً أن هذا الجميل لا يصدر عنه إلا كل شيء جميل فإن كتب الحياة أو القتل فهما سيان من الجمال وأن قدر الصحة أو المرض فهما في الجمال شيء واحد؛ وكذلك الفقر والغنى والشدة والرخاء؛ أو العسر واليسر فكله جميل وجماله ليس بلحاظ جوهر الشيء؛ إذ من البديهي أن العافية أرجى للعبد من المرض وكذلك الغنى والرخاء واليسر وطول العمر وغيرها من المطالب الحياتية فهي أرجى وأنعم لكل إنسان من حيث جوهرها.
ولكن العقيلة عليها السلام لا تنظر إلى جوهر هذه المطالب وإنما تنظر إلى صنع الله تعالى وما يختاره لعبده فإن هذا الاختيار جميل، وهذا التقدير جميل، فلا يصدر عن الله تعالى إلا الجمال.
ولذلك: تساوى عندها عليها السلام الصحة والمرض، والغنى والفقر، والعسر واليسر.
وهنا ملاحظة: قد يرقى كثير من المؤمنين إلى رتبة من التوحيد يتساوى عنده البلاء والرخاء، فيعدهما سييّن لأن محل صدورهما هو الله.
ولكن. أن يُرى هذا التقدير جميلا فيؤنس به كما يأنس الشارد الظامئ بواحة غناء، فيها عذب الماء.
فهذا مرهون بأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ولاسيما صاحبة العصمة الصغرى عقيلة حيدر عليها السلام.
ولذلك: تلازم عندها مفهوم الجمال ومفهوم التوحيد، وهو ما دلّ عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لمّا سئل عن معنى (إن الله جميل ويحب الجمال)؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أحد صمد لم يلد ولم يولد».
وقد أردف الفخر الرازي هذا الحديث الشريف بقوله: (لأنه إذا لم يكن واحداً عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه، ولذلك سميت سورة التوحيد بـ(سورة الجمال)[7].
2ــ صنع الله تعالى هو المحور في بنية التوحيد ومعركة الإصلاح عند العقيلة زينب عليها السلام
انطلق ابن زياد بوحي شيطانه وتدليسه في معركته الفكرية في مجلسه الذي غص برموز الدولة والقادة العسكريين من الكوفة والشام العائدين من ساحة المعركة ووجهاء الناس وشيوخ القبائل في قصر الإمارة وهو المنتصر اليوم على خصمه الذي يدرك جيداً بأنه يمتلك رصيداً ضخماً في عقول الموحدين ومكانة لا يستهان بها عند المسلمين فهم لا يمكن إخفاؤهم على أهل الكوفة فبالأمس كانوا بها أسياداً وقادة ودعاة تلثم أعتابهم الأملاك وبحبهم تجري الأفلاك فعلى من يريد ابن زياد أن يخفي تلك الشموس الطالعة!
ولذا: أراد كسب المعركة العقائدية والفكرية بعد أن توهم مع قادة جيشه، أنه انتصر في المعركة العسكرية فقام فنفث في الحاضرين أن هذا الصنع، هو صنع الله تعالى ليهون على الناس وأولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء النبوة وما اقترفوه في كربلاء من جرائم، وصنعوا هذا الصنيع فهم لم يفعلوا وإنما الله هو الذي صنع؟!
وظن أنه بنفثه هذا السم على الحاضرين أن لا طاقة لابنة علي عليهما السلام بالرد عليه، بل لم يخطر على باله أنه سينهزم في هذه المعركة الدائرة في مجلس قصر الإمارة شر هزيمة لتبقى تدور في قاعات القصور ومقصورات الطواغيت إلى يوم الوعد الموعود.
فكان جوابها الكاشف عن رؤيتها في التوحيد الأفعالي لله تعالى: إنها لم تر إلا جميلا أنه صدر عن الله عزّ وجل فكل ما يصدر عن الله فهو جميل؟ إنه مفهوم جديد لم يطرق مسامع ابن زياد من قبل ولم يخالج عقله قبل هذا اليوم وهو الغارق في النفاق ليتربع في الآخرة في قعر جهنم قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...}.
3ــ الفاعل غير الفعل في بنية التوحيد عند العقيلة زينب عليها السلام
تنتقل العقيلة زينب عليها السلام بعد بيانها لرؤيتها في التوحيد إلى جانب آخر من التوحيد وهو القضاء والقدر الذي خلطه ابن زياد في قضاء الطواغيت والظالمين فجعل قضاءه بقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متلازماً بقضاء الله تعالى بقتلهم ليلتبس على السامع أن هؤلاء بقضاء الله تعالى قد قتلوا ومن ثم لا عقاب ولا ثواب فقد تساوى القاتل والمقتول في القضاء الإلهي والعياذ بالله.
في حين جاء جواب العقيلة زينب واضحاً ومصححاً ومبدداً لهذه الشبهة العقائدية ففصلت بين الفاعل والفعل في أفعال الناس، فقالت عليها السلام: «هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل».
وهنا: كتب سبحانه عليهم أن يكونوا قتلى ولكن لم يكتب على القاتل أن يكون قاتلاً؛ بمعنى: أن هذه الأرواح ملك لله تعالى ومرجعها إليه وأمرها بيده فمنها ما يكون أمر رجوعها إليه بالمرض، ومنها يكون في الغرق ومنها على الفراش، ومنها في ساحة المعركة، فكل ذلك كتبه الله تعالى على خلقه في انهم يرجعون إليه وان أرواحهم تعود إليه سواء كان بعضهم طفلاً رضيعاً أو شيخاً كهلاً أو شاباً في عنفوانه، لكنه سبحانه لم يجعل أمر أزهاقها بما كتبه على المزهق أي الفاعل من الفعل فالفاعل غير مسلوب الارادة والاختيار كما أن الشهيد غير مسلوب الإرادة في الذهاب إلى ساحة القتال وإلا سقط الثواب.
ولكن ليس كل من ذهب إلى المعركة استشهد وهنا يكون معنى كلام العقيلة زينب عليها السلام: «هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل»، «فبرزوا إلى مضاجهم» «وستحاج وتخاصم».
فلو كان الله سبحانه قد كتب على الفاعل القاتل ما يفعله من القتل فماذا سيحاج ويخاصم من الله تعالى.
وعليه: كان جوابها بهذه المعاني التوحيدية، نعم الله كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم إذ لابد لهذه الأبدان من موت وقبر تنام فيه لكنك يابن مرجانة المسؤول عن فعلتك وما اقترفته يداك.
4ــ نواة التوحيد هو الإيمان بالغيب
بعد أن تظهر العقيلة زينب عليها السلام هذه الأسس في بناء الفكر التوحيدي تنتقل بعد ذلك إلى نواة هذا الفكر والذي به تستقيم المدارات الفكرية حول الوحدانية لله تعالى. فتقول عليها السلام: «وسيجمع الله بينك وبينهم».
لكن متى؟ ليس الأمر ببعيد فمهما عمر الإنسان في الحياة فلابد له من الموت. {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...}[8]. وما بعد الموت لأمرّ وأدهى فأين يكون المفر؟ أين ستذهب يابن زياد حينما يجمع الله بينك وبين هؤلاء؟ ألست القائل بوجود الله تعالى وإنه سبحانه هو الذي صنع هذا؟ فماذا ستقول له حينما سيجمعك مع هؤلاء المقتولين للتخاصم؟ فإن كنت تؤمن بالله فهذا الإيمان قوامه التوحيد ونواة التوحيد الإيمان بالغيب، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
فإذن: استعد للسؤال، وإن كنت لا تؤمن فدع الله سبحانه ولا تلصق أفعالك به وقل أنا الذي صنعت بأهل بيتك كل هذا الذي وقع في كربلاء.
وعليه: تقوم العقيلة زينب في معركتها الإصلاحية للمجتمع المسلم الذي خرج لقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد اجتمع وجهاء المجتمع وقادة الحكم وهم يشهدون هذه المعركة الفكرية بين أحد أقطاب الفكر الاشراكي الذي يشرك فعل الفاعل بصنع الله تعالى والمرتكز على الأمن من العقاب في اليوم الآخر أو بالأخرى انعدام حصول الحساب في اليوم الآخر، وذلك لأن الله هو الذي صنع فلماذا يحاسب؟، بل ومن يحاسب؟ فليس هناك جناة. وبين أحد أقطاب الفكر التوحيدي الذي يرتكز على أن الإيمان بالغيب هو نواة التوحيد.
5ــ قوام التوحيد في العدل الإلهي
ولأن الله سبحانه وتعالى عادل فلم يضع له شريك، فقوام التوحيد في العدل ولكونه سبحانه عادل لا يرضى ولن يرضى لعباده الظلم ولا يوقع عليهم الظلم. ولذا: قالت عليها السلام: «وستحاج وتخاصم».
فعلى الرغم من أن عبيد الله بن زياد متلبس بالظلم وأقدم على هتك حرمات الله تعالى وقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ذلك لم يمنع من المحاكمة وسيسأل وستقوم عليه الحجج وسيخاصم فيكون هو الخاسر المبين.
عندها: توعدته عليها السلام بالنصر عليه فقالت: «فانظر لمن الفلج يومئذ». فليس النصر ما قامت به الجند من إزهاقها للأرواح المقدسة وسفك الدماء الطاهرة وتقطيع الرؤوس الزكية وسلب نساء النبوة وسبي بنات الرسالة وترويعها وذبح الأطفال الرضع الصبيان من آل الحسين بالسيوف[9] وغير ذلك فهذا وغيره لم يحقق النصر وبل النصر بما يحكم به أعدل العادلين، فانظر يومئذ، وتلك الدعوة في النظر أشد على الكافر مما اقترفت يداه، فكل لحظة تمر عليه يشعر بأنه اقترب من الحساب فهو في غصة ومرارة إلى يوم يموت.
فضلاً على ذلك: فإن هذه الأسس التصحيحية للفكر التوحيدي ستشيد عليها معتقدات الناس حينما يخيرون بين الإيمان بالله سبحانه والكفر فيجعلون له شريكاً في طاعتهم للمال أو السلطان أو الهوى أو غيرها. وقد أمرهم سبحانه قائلاً: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...}[10].
ولا ينال الإخلاص في الدين إلا بمحمد وآله الطاهرين وإلا سيكون الإنسان توحيده كتوحيد عبيد الله بن زياد الذي وقف في المعسكر الآخر لقتال عترة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جعل الله سبحانه شريكاً في تلك الجرائم والظلم الكبير الذي اقترفته يداه وأيادي أنصاره وأعوانه ومن رضي بفعله.
ـــــــــــــ
[1] سير أعلام النبلاء: ج3، ص130. الكامل لابن عدي: ج2، ص245. ميزان الاعتدال: ج1، ص503. البداية والنهاية لابن كثير: ج8، ص129.
[2] الخصال للشيخ الصدوق: ص650، ص48.
[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج15، ص242. النصائح الكافية لابن عقيل: ص106.
[4] كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي: ج5، ص122. اللهوف لابن طاووس: ص94.
[5] مستدرك الوسائل للنوري: ج11، ص198.
[6] سورة الأنعام، الآية: 75.
[7] تفسير الرازي: ج32، ص176.
[8] سورة آل عمران، الآية: 185.
[9] روى الطبري عن هانئ بن ثبيت الحضرمي، قال: رأيته جالساً في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبد الله وهو شيخ كبير قال، فسمعته يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فوالله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس وقد حالت الخيل وتصعصعت إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت إذ أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم افتصد الغلام فقطعه بالسيف. (تاريخ الطبري: ج4، ص343).
[10] سورة البينة، الآية: 5.
إرسال تعليق