بقلم: السيد نبيل الحسني
قد يبدو غريباً بعض الشيء
هذا الأثر لدى بعض القراء الذي يرون أن عصر الصحابة والتابعين هو خير العصور التي
تمر بها الأمة الإسلامية مما يحقق خلق بنية فكرية رصينة ومدعومة بكتاب الله تعالى
وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولئك النفر المخلصون الذين ساروا على
هدى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وأن الفاصلة الزمنية بين وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين فاجعة كربلاء خمسون سنة، وهي مدّة ليست
بالطويلة كي تتمخض عنها مأساة الإسلام ويذبح ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وتسبى بنات رسول الله وتساق كما تساق من لم تكن على دين الإسلام فضلاً عن حمل
رأس ريحانة سيد الأنبياء والمرسلين وحبيب رب العالمين في البلاد الإسلامية ينظر
إليه أولئك السلف (الصالح) وهم لا يحركون ساكنا ليقف الخلف متعجباً ولعل بعضهم
مذهول مما حدث لأهل خير الأزمنة.
من هنا: ليس من
المستغرب أن يكون في المجتمع الإسلامي بنية فكرية تحتاج إلى الإصلاح بعد أن عملت
على صبغ حياتها بدم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي غير آبهة بما
يؤول إليه هذا الحدث من نتائج لا تنتهي آثارها إلى يوم الوعد الموعود.
ولذا: كان
إخراج الحسين عياله يعد أدوات جراحية عملت على استئصال الأمراض التي أصابت فكر
المسلم فكونت له بنية فكرية عليلة تستسيغ قتل ابن بنت نبيها وتعذر القاتل فيما
فعل.
وهو ما عرف بالفكر الجبري
الذي ظهر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة وإن كان بصورة غير
معلنة، بل يُعد الخليفة أبو بكر هو أول من وضع الأساس للفكر الجبري حينما خاطب
المسلمين بعد السقيفة، قائلاً: «أما والله ما أنا بخيركم، وقد كنت لمقامي هذا
كارها، ولوددت لو أن فيكم من يكفيني فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله ــ صلى
الله عليه وآله وسلم ــ إذا لا أقوم لها، ان رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه
ملك، وان لي شيطاناً يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني لا أوثر في اشعاركم ولا ابشاركم،
الا فراعوني! فان استقمت فأعينوني، ان زغت فقوموني»([1]).
ثم تلاه بعد ذلك عمر
وعثمان ومعاوية ليظهر بأوضح صوره في حكم يزيد بن معاوية كبنية فكرية وثقافية يتصرف
حسب معطياتها المسلم، فقد تكون لديه مبدأ الجبر المرتكز على تبرئة ما يصدر من
الخليفة أو الحاكم من أفعال بعلة أن الله تعالى هو الذي جعله في هذا الموقع وأنه
غير مسدد من السماء وله شيطان يعتريه ومن ثم فهو معذور فيما يفعل.
من هنا: يتضح
لنا أهمية وجود عقيلة النبوة زينب بنت فاطمة عليهما السلام في كربلاء وذلك
بتقويضها هذا الفكر الهدام وإصلاح البنية الفكرية للمسلمين بتقديم معطيات قرآنية
ونبوية استطاعت أن تعيد للمسلم هويته الإسلامية الملتصقة بالقرآن الكريم والسنة
النبوية.
فنراها تقف كالجبل الشامخ
في مجلس يزيد بن معاوية الذي سعى جاهداً على تثبيت هذا المعتقد في أذهان الناس
حينما التفت إلى مجموعة من وجهاء أهل الشام فقال لهم: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة وما الحامل له على ما فعل والذي أوقعه فيما
وقع؟ قالوا: لا، قال: يزعم أن أباه خير من أبي وأمه فاطمة بنت رسول الله خير من
أمي وجده خير من جدي وأنه خير مني وأحق بهذا الأمر مني فأما قوله: أبوه خير من أبي
فقد حاج أبي أباه إلى الله عز ّ وجل وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله: أمه خير
من أمي فلعمري إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما قوله: جده خير من جدي
فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أن لرسول الله فينا عدلاً ولا
نداً، ولكنه إنما أُتي من قلة فقهه ولم يقرأ: ((قُل اللَّهُم مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء وَتَنْزِعُ الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاء وَتُذِلُّ...))([2]).
وقوله تعالى: ((...وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ...))([3]))([4]).
وكان الذي دفع يزيد بن
معاوية إلى هذه المقولة هو افتضاح أمره حينما خاطبته العقيلة زينب عليها السلام: «أظننت
يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى
أن بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك،
ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين
صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ((وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ))([5]).
ولقد حرص كذلك ولاة بني
أمية على بث هذا المعتقد في أذهان الناس لاسيما في الكوفة حينما خاطب عبيد الله بن
زياد (لعنه الله تعالى) الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله: ما اسمك؟. قال: «أنا علي بن الحسين». فقال له: أو لم يقتل الله عليا؟ فقال الإمام زين
العابدين عليه السلام: «كان أخ لي أكبر مني يسمى علياً
قتله الناس». فرد عليه ابن زياد، بل
قتله الله.
أي تثبيت المعتقد الجبري
وأن الحاكم غير مذنب؛ لأن الله هو الذي قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فكان جواب الإمام السجاد عليه السلام كالصاعقة التي هدت أركان
هذا الفكر المنحرف فقال: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا))([6]). ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))([7]). فكبر على ابن زياد أن يرد عليه الإمام زين العابدين بهذا
الجواب الذي قوض معتقده الفاسد ولذا أمر بقتله.
وعليه: نجد بوضوح تجلي هذا الأثر في خروج العيال إلى أرض
الطف.
إرسال تعليق