مواقف حسينية رائعة

بقلم: الدكتور مصطفى جواد

تقاس عظمة كل امة عظيمة بمقدار ما لها من شهداء، فان دمائهم تكون عظمتها السابقة، وحريتها الانوف، وعزمها المخوف، بمنـزلة البلاط الذي يثبت طبقات الصروح المشيدة، فلابد في بناء الامم من دماء لابد للحياة الحرة من شهداء ومالم يضح الشهداء سيبقى الجور مقدساً مبجلاً محفوفاً بالتجلة والتنظيم مادام (الظلم) و(الطغيان) و(الجبروت) و(التعصب الجافي) و(الاستعمار) أشباحاً ماثلة تروع الودعاء وتخيف الآمنين وتقلق المسالمين وتحفظ المصافين وترسل الشياطين.

اترى من العجز أن السماء لم تجد شيئاً للفداء اولى واطهر من الدماء ؟ لا أظن ذلك صحيحاً وانما الدم علامة الشهادة والشهادة شاهدة بثبوت الحق مسجلة بحقيقة العزة ناطقة بوجوب العدل فوجود الطغاة مستلزم لوجود الشهداء في كل امة حمية الانف شماء العرنين عزيزة النفس علية الخلق رصينة الشمائل واذا عددنا الامم العظيمة وهي التي تفتخر لشهدائها وجدنا الامة العربية في طليعتها وطالعتها، وكيف لا تكون كذلك ولها شهيد كان سيد الشهداء على رغم الخونة والادعياء وعلى رغم الهاطرين الذين ادعوا وهم لما ينسلخوا من هاطريتهم.

اجل ان سيد شهداء الامة العربية هو ابو الاحرار المختار للسلّة على الذلّة والجهاد على الالحاد والاباء على الاستخذاء ومجد الاسلام والحرية مضحياً بالنفس والذرية انه ابو عبد الله الحسين ابن البشير ابن النذير ذلك الشهيد الهمام الذي يحق لكل انسان حسيني كائناً مذهبه ماكان ان ينشد عند ذكره المقدس متمثلاً:

اولئك آبائي فجئني بمثلهم **** اذا جمعتنا يا جرير المجامع

لقد ترك عليه السلام في سجل شهداء الامة العربية مثلاً اعلى وقدوة وحيدة بجلالتها واسوة بعيدة المنال قل المؤنسون بها فلا ترى محضر شهادتهم الا في (مقاتل الطالبيين) و(الشهداء الصديقين) و(مشاهد الاحرار).

ان الحسين بن علي المثل الاعلى بين الشهداء المحررين فمواقفه الحسينية رائعة بالمعنيين اللذين يعنيهما الروع فهي للاحرار والابرار مجال وجلال وجهاد وفتوة وللسفلة والدجالين أهوال ومذلة فهو عليه السلام كما كان فيصلاً بين الحق والباطل وحجة للمناضل على المتغافل سيبقى فطنة للخلاف بين العظماء والابطال والانذال الجهال أولئك الذين يعيشون كما تعيش حشرات الارض لا يحس الانسان بها عند لدغها اياه او عندما تسحقها قدماه وكفاه ذلة ان لا تنال غير الاقدام ولا تقتل بغير الاقدام.

قال قائل الحق في يوم الطف: يوم عاشوراء مثيل هذا اليوم الذي تنشر فيه هذه الذكرى الدامية وتبجل عزته النامية (ما رأينا رجلاً مكسوراً قد قتل اخوته وانصاره واهله اشجع منه كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطماً وما ظنك برجل ابت نفسه الدنية وان يعطي بيده فقاتل حتى قتل هو وبنوه واخوته وبنو عمه بعد بذل الامان لهم والتوثقة بالايمان المغلظة وهو الذي سن للعرب الاباء واقتدى بعده به أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم).

وحق لبني هاشم ان يقولوا (ومنا الحسين بن علي سيد شباب اهل الجنة واولى الناس مكرمة واطهرهم مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والانفة) وكان الحسين في الاسلام اول من دعا الى حلف الفضول ذلك الحلف الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ان شهده وارتضاه (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما احب ان لي به حمر النعم ولو دعيت له اليوم لاجبت لا يزيده الاسلام الا شدة).

تعاقدوا وتعاهدوا عل ان لا يجدوا بمكة مظلوماً من اهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس الا قاموا معه وكانوا ممن ظلمه حتى ترد عليه مظلمته او يبلوا في ذلك عذراً وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى التآسي في المعاش ذلك المبدأ الذي هو الغاية والنهاية من النظم الاجتماعية البشرية ذلك المبدأ الذي يبدو مثل (انتين) للمستأثرين الظالمين.

ان الحسين بن علي هو الذي قال للوليد بن عتبة بن ابي سفيان والوليد يومئذ امير على المدينة.

(احلف بالله لتنصفني من حقي او لآخذن سيفي ثم لاقومن في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لادعون بحلف الفضول) فقال عبد الله بن الزبير (وانا احلف بالله لئن دعا به لآخذن بسيفي ثم لاقومن حتى ينصف من حقه او نموت جميعاً) وبلغت مقالتهما المسور بن حزمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التميمي فقال مثل ذلك فاضطر الوليد بن عتبة الغشوم الظلوم الى انصاف الحسين من حقه حتى رضي.

هذا هو موقف العربي الذي جمع بين شرف السماء وشرف الارض الذي كان يعلم ان السيف هو الحامي الاكبر للحق وان الموت في طلب الحق واحياء العدل عذب المورد رائق سائغ لكل مر فلا يهدد الحر بالموت الا اللكع الجبان الفعل النذل لان عاقبة محتومه لكل ذي روح فلماذا لا يكون ثمناً لاحياء الحق والدين ورد الحرية الى مسلوبيها والعزة الى مبزوزيها ؟ انها من ذلك عند الاحرار.

واي موقف عظيم من المواقف الحسينية ذلك الذي نزل فيه الحسين بن علي (عليهما السلام) بزي جثث من غربي العراق ؟ فقد ادركه اعداؤه وهم الف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي ووقفوا مقابلة في حر الظهيرة تكاد تتقد من حرارة الشمس وتحرق من يمشي فيها من دابة وانسان وقفوا مقابله وهم وخيلهم عطاش تكاد تتخشب أمعائهم وتجبس السنتهم وتتحجر لهواتهم أنها فرصة سنحت للحسين لو كان الحسين ينتهز من الفرائس الفرص فلو تركهم عطاشا لعجزوا عن القتال ولو اراق الماء الذي عنده لكان له قوة الروي على الصدى ولكن الفتوة الهاشمية الحسينية لم تكن تأنف مثل تلك الدنية التي يسميها وحوش البشر وابناء الجناة (القدرة على العدو) ولم يكن من الحسين الا ما قال لفتيانه (اسقوا القوم وردوهم ورشفوا الخيل ترشيفاً) فسقوا القوم ورشفوا الخيل كلها لم يتركوا منها فرساً عطشان قال علي بن الطعان المحاربي كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال (انخ الراوية) والراوية عندي السقاء ثم قال (يا ابن اخي انخ الجمل) فانخته فقال (إشرب) فجعلت افعل فقام الحسين فحثه فشربت وسقيت فرسي.

هذا هو المثل العالي بل الاعلى لمن رام المثل العوالي في تاريخ العرب وهذا هو الخلق العربي الذي هذبه الاسلام وصفاه السمو الذاتي، افليس في هذا الكريم حجة قائمة تجيس الليالي وابد الابيد على خبث تلك النفوس التي خبثت ذكر العرب في منعها الحسين بن علي من ورود ماء الفرات واعطاشها النساء والاطفال والفتيات ؟ لو بقي لأولئك الجناة الجفاة الطغاة البغاة من عمر بن سعد وجيشه الطغام من الخلق العربي خلق الوفاء لتركوه هو ومن معه من المقاتلة يموتون رواء لا عطاش ولكن القدر قد مكن الحجة وسجل للحسين عليهم بالعظمة والجلالة والرحمة والنبالة واقام البرهان الابدي على صلتهم وانعزالتهم وقسوتهم وحطتهم وان الاسلام ما لابس قلوبهم ولا نفى عيوبهم وان صلاة النبوة المحمدية عندهم لا تغني عن درهم ودينار يكاد يلتمع منها سعير النار.

كان الحسين بن علي يعلم ان مجدد الاسلام ومؤدب سفهاء الاحلام وابن وحي الرسول وسبطه من البتول ولم يكن متآمراً جبارياً ولا خارجياً كفاراً فان الامر اذن سماوي نبوي محمدي علوي فلا لمقاييس السياسة فيه ولا لتنطعات أرباب الكياسة انه عقيدة وايمان مستمد من النبوة وما ينبغي لأمر اوله وحي من السماء ان يكون من سذاجات الامور ومضاد الشؤون وعامي المآرب أجل ان الحسين بن علي كان يرى نفسه مكلفاً تكليفاً نبوياً ان يجدد الاسلام ويرفع من الاعلام افلا ترى ذلك قوله لعبيد الله بن الحر - وهو ممن شهد القادسية - حين دعاه الى نصرته وهو نازل في قصر بني مقاتل بين الكوفة وكربلاء.

(اني سانصح لك كما نصحت لي ان لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد لا ينصرنا إلاّ أكبهُ الله في نار جهنم).

اولا تحس في هذا القول نفس النبوة ؟ وروح الاسلام واختصاص السماء ؟ انه يعلم منطق النبوة ان السامع لواعية ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعويلهم عند قتلهم، غير ناصر لهم انما هو خارج عن الاسلام مستحق لأشد العذاب قال عبيد الله بن الحر (دخل عليَّ الحسين (عليهما السلام) ولحيته كأنها جناح غراب وما رأيت احداً قط احسن ولا املأ للعين منه ولا رققت على احد قط رقتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله) ولما بلغه قتل الحسين قال يرثيه وهو اول الراثين له.

تقول اميـر جائـر حق جائر الا ؟ قاتلت الشهيد ابن فاطمة ؟

ولا نفسي على خذله واعتزاله **** وبيعة هذا الناكث العهد لائمه
فوا ندمي الا اكون نصـرته **** الا كل نفـس لا تسدد نادمه
واني لاني لم اكن من حـماته **** لذو حسرة ما ان تفارق لازمه
سقى الله ارواح الذين تأزروا **** على نصره سقياً من الغيث دائمه
وقفت على اجداثهم ومجالهم **** فكاد اخشى ينقض والعين حاجمه

في ابيات اخرى جياد بعثها الحزن الاصيل والطبع العربي النبيل وهكذا تكون الشخصيات العظيمة كالمرايا تتراءى فيها الشخصيات الاخرى فيظهر جمال الجميلة منها على الضد.

إرسال تعليق