بقلم: السيد نبيل الحسني
يعد الأثر الإرشادي من أبرز الآثار ظهوراً في خروج بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه من كربلاء إلى الشام،وسبب هذا الظهور يعود إلى مجموعة من العوامل:
1ــ الاختلاف في تفاعل المجتمعات عند رؤيتها لحرم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي تدخل عليها، فمنها ما كان متعاطفاً ومنها ما كان شامتا ومتشفيا ومنها ما كان متجاهلاً أو جاهلاً.
2ــ ترتب مجموعة من السنن الكونية على تلك المجتمعات التي تعاملت مع دخول حرم آل محمد إليها كل حسب تأثره حجماً ونوعاً.
3ــ استحقاق بعض أفراد هذه المجتمعات الجزاء الأخروي الآني واكتساب الجنة على الرغم من هول المنظر الذي رافق دخول هؤلاء النسوة والأطفال إلى هذه المدن مما يترتب عليه من الناحية الاجتماعية والنفسية آثار ارتداعية، بمعنى: زرع الذعر في نفوس الناس كي لا يحاول أحدهم الخروج على الحاكم أو مجرد الاعتراض عليه، وأنى له الوقوف بوجه الحاكم وهو يرى أن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا حالهم؟!
إلا أن ذلك الرعب لم يكن بمانع بعض الرجال أو النساء من الاستجابة السريعة إلى صوت الحق والعدل ومحاربة الظلم ونصرة المظلوم، وأي مظلوم أعظم من الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
ولذلك: نجد أن دخول سبايا آل محمد إلى الكوفة والشام وهم بتلك الحال دفع البعض إلى عدم التحمل في السكوت فانبرت إحدى النساء لتسأل بنات النبوة من أي الأسارى أنتم؟! قلن: (نحن أسارى آل محمد).
سؤال غريب جداً! والغرابة فيه يمكن الوقوف عليها من خلال الاحتمالات الآتية:
ألف: إما أن هذه المرأة الكوفية قد رأت وجوهاً قد جللها النور وعلاها الحسن والجمال فدفعها الحس الأنثوي لمعرفة هوية هؤلاء النسوة لاسيما وقد نصت بعض المقاتل على وضاءة تلك الوجوه كقول فاطمة بنت أمير المؤمنين عليهما السلام لما أدخل السبايا على يزيد في الشام وقد رأها أحد رجال الشام فطلب من يزيد أن يهبها له كي تكون خادمة.
فقالت: وكنت جارية ــ أي فتاة ــ وضيئة، فأرعدت وفرقت وظننت أن ذلك جائز لهم وأخذت بثياب أختي زينب وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل وكانت تعلم أن ذلك لا يكون فقالت: «كذبت والله ولؤمت ما ذلك لك وله...»[1].
ومما يدل عليه أيضاً:
1 . ما رواه الحميري القمي عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: (لما قدم على يزيد بذراري الحسين عليه السلام دخل بهن نهاراً مكشوفات وجوههن، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء، فمن أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين عليه السلام: (نحن سبايا آل محمد)[2].
2 . ما رواه الطبري عن أبي مخنف عن قرة بن قيس التميمي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده، صحن ولطمن وجوههن، فاعترضتهن على فرس، فما رأيت من منظر من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن[3].
باء: أو أن تكون الحالة التي كانت عليها السبايا لم يشهد أهل الكوفة مثلها من قبل على الرغم من أنهم قد اعتادوا على رؤية السبايا، وذلك أن الكوفة كانت حاضنة للجند وممراً للمقاتلين باتجاه الشرق وعليه سيكون دخول السبايا القادمة من الفتوحات امراً طبيعيا للكوفيين.
ولم تكن الحالة التي كان عليها النساء والأطفال بباعثة للتساؤل في نفوس نساء الكوفة أو غيرهن من النساء فقط وإنما تعدّى الأمر كذلك إلى الرجال مما عمل على تحقق الأثر الإرشادي والوعظي لهذا الوجود النبوي في حركة السبايا.
وهو ما نجده في الشام حينما أدخلت بنات النبوة لهذا البلد في أول يوم من صفر فأوقفوهم على باب الساعات، وقد خرج الناس بالدفوف والبوقات وهم في فرح وسرور ودنا رجل من سكينة وقال: من أي السبايا أنتم؟ قالت: نحن سبايا آل محمد.
والملاحظ في هذا المشهد التأريخي أمور:
أولاً: إن الحال الذي كان عليه بنات النبوة والأطفال يختلف من مكان إلى آخر. فالحال الذي كانوا عليه في الكوفة يختلف عنه في الشام ولذلك نجد: ان صيغة السؤال في الكوفة كانت: من أي الاسارى أنتم؟ فكان الجواب بنفس الصيغة فقال سكينة: نحن أسارى آل محمد.
بمعنى تأكيداً للحالة المأساوية التي كان عليها هؤلاء النساء والأطفال حينما دخلوا الكوفة وهي حال الأسر. لكن الحال الذي كانوا عليه في الشام يختلف فقد دل عليه سؤال الرجل قائلا: من أي السبايا أنتم؟.
أي أصبحت الحالة التي هم عليها (حالة السبي) وهي أعظم من حال الأسر؛ إذ ليس كل أسير يتم قتل ولده وسلب ماله في حين المسبي يكون مفجوعاً بقتل ولده، وسلب ماله وكذا المرأة المسبية فانها تكون قد سلبت ما لديها من زوج وابن ومال وأقله مقنعتها.
ثانياً: أن أهل الشام قد استقبلوا سبايا آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحال من الفرح والسرور والشماتة التي لم يلقها آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مجتمع من المجتمعات التي مروا بها خلال هذه المسيرة ولعل هذه الظاهرة الاجتماعية ترشدنا إلى أمور منها:
1ــ أنهم قد امتازوا بولائهم ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى المستوى الذي شاركوه فرحته بقتل ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبي نسائه لدرجة النشوة، فيقول لما رآهم وهم على تلك الحال:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت *** تلك الرؤوس على شفا جيروني
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل *** فقد اقتضيت من الرسول ديوني[4]
هذه الفرحة الغامرة التي امتلكت يزيد بن معاوية لم تكن بخافية على أهل الشام بل شاركوه آنذاك الفرحة، ولذا؛ خرجوا يستقبلون سبايا آل محمد بالدفوف والبوقات وهم في فرح وسرور.
2ــ أو أنهم تحت إعلام جائر ومنافق جعل من معاوية وبني أمية ــ أي هذا الإعلام المسموم ــ جعلهم أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على هذه الحقيقة كثيرة، فمنها:
1 . عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً: كاد معاوية أن يبعث نبياً من حلمه وائتمانه على كلام ربي[5].
2 . عن عثمان بن عفان: هنيئاً يا معاوية، لقد أصبحت أميناً على خبر السماء[6].
3 . عن جابر مرفوعاً: الامناء عند الله سبعة، القلم، وجبرائيل وأنا، ومعاوية، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل[7].
4 . عن أبي هريرة: الأمناء ثلاثة: أنا، وجبرائيل ومعاوية[8].
5 . عن ابن عمر مرفوعاً: يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة[9].
ولذا: نجد أن تعامل آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا المجتمع في بعض المشاهد التاريخية كان يستند إلى الإرشاد وكشف تلك الضبابية التي صنعتها أبواق المرتزقة والساسة الذين تزلفوا لبني أمية فكانوا أدوات للخراب والدمار.
هذه الحالة الاجتماعية والعقائدية كشفها الحوار الذي دار بين الإمام زين العابدين عليه السلام وأحد أبناء الشام الذين قدموا للتشفي والسباب من هؤلاء السبايا وبطبيعة الحال فإن الشماتة لا يظهرها الإنسان من الناحية النفسية إلا بعد أن يجد غريمهُ على هيئة مفجعة وهو ما كان عليه حال نساء النبوة وموضع الرسالة؛ فكان هذا الحوار الذي جرى بين الإمام زين العابدين والرجل الشامي يدل على تحقق الأثر الإرشادي لخروج عيال الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء.
ولذلك: لما دنا هذا الشيخ الشامي من الإمام زين العابدين عليه السلام قال للإمام: (الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم).
ههنا أفاض الإمام من لطفه على هذا المسكين المغتر بتلك التمويهات الضالة ساعياً لتقريبه من الحق وإرشاده إلى السبيل وهكذا أهل البيت عليهم السلام تشرق أنوارهم على من يعلمون صفاء قلبه وطهارة طينته واستعداده للهداية. فقال عليه السلام له: «يا شيخ أقرأت القرآن؟».
قال بلى: قال عليه السلام: أقرأت {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[10]؟ وقرأت {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}[11]؟».
قال الشيخ: نعم قرأت ذلك، فقال عليه السلام: «نحن والله القربى في هذه الآيات».
ثم قال له الإمام: «أقرأت قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[12].
قال: بلى. فقال عليه السلام: «نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير».
قال الشيخ: بالله عليك أنتم هم فقال عليه السلام: «وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غير شك».
فوقع الشيخ على قدميه يقبلهما ويقول أبرأ إلى الله ممن قتلكم وتاب على يد الإمام مما فرط في القول معه وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله فأمر بقتله)[13].
ــــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ الطبري: ج4، ص353؛ الأمالي للصدوق: ص213؛ الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص121؛ تاريخ دمشق: ج69، ص177.
[2] قرب الإسناد للحميري: ص26؛ الأمالي للصدوق: ص230.
[3] مقتل أبي مخنف: ص204. تاريخ الطبري: ج4، ص349.
[4] مقتل أبي مخنف: ص204. تاريخ الطبري: ج4، ص349.
[5] أوردها الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج3، ص130. فأردفها بقوله: فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه.
[9] المصدر نفسه.
[10] سورة الشورى، الآية: 23.
[11] سورة الأنفال، الآية: 41.
[12] سورة الأحزاب، الآية 33.
[13] مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد المقرم: ص368؛ ينابيع المودة للقندوزي ج1، ص358؛ تفسير الآلوسي: ج15، ص62.
إرسال تعليق